مقالات

الصدق

بسم الله الرحمن الرحيم

الصدق

جمعة: 17  رجب 1443 الموافق: 18 فبراير 2022

   مهران ماهر عثمان- مسجد السلام بالطائف مربع (22)

الحمدُ لله حمدا كثيراً طيباً مباركاً فيه، ربِّ صل وسلم وبارك وزد وأنعم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛

فإن من الأخلاق التي بُعث نبيناصلى الله عليه وسلم بها: الصدق.

تعريف الصدق

قال الجُرْجاني: “مطابقة الحكم للواقع، وهذا هو ضد الكذب” [التعريفات، ص132].

وقال الراغب الأصفهاني: “والصِّدْقُ: مطابقة القول الضمير والمخبر عنه معا، ومتى انخرم شرط من ذلك لم يكن صِدْقاً تامّا، بل إمّا أن لا يوصف بالصّدق، وإمّا أن يوصف تارة بالصّدق، وتارة بالكذب على نظرين مختلفين، كقول كافر إذا قال من غير اعتقاد: محمّد رسول الله” [المفردات في غريب القرآن، ص: 478- 479].

الأمر بالصدق

أمر به الله فقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين﴾ [التوبة: 119].

“ومع بمعنى: مِنْ، وكذلك هي في قراءة ابن مسعود: وكونوا من الصادقين” [زاد المسير في علم التفسير 2/    308].

وقال صلى الله عليه وسلم: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ» رواه مسلم.

وسأل هرقل أبا سفيان عن نبينا صلى الله عليه وسلم: بم يأمركم؟ فقال له: “يأمرنا بالصلاة،  والزكاة، والصدق، والعفاف، والصلة” رواه الشيخان.

ثمرات الصدق

1/ الصدق يحبه الله ويحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم

عَنْ أَبِي قُرَادٍ السَّلَمِيِّ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا بِطَهُورٍ، فَغَمَسَ يَدَهُ فِيهِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ، فَتَتَبَّعْنَاهُ، فَحَسَوْنَاهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا حَمَلَكُمْ عَلَى مَا صَنَعْتُمْ؟» قُلْنَا، حُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ: «فَإِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ يُحِبَّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَأَدُّوا إِذَا ائْتُمِنْتُمْ، وَاصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ، وَأَحْسِنُوا جِوَارَ مِنْ جَاوَرَكُمْ» رواه الطبراني في الأوسط، وهو في صحيح الجامع برقم (1409).

حسا الشراب: تناوله جرعة بعد جرعة.

عظيم أن يحب المسلم الله ورسوله، ولكن أعظم من ذلك أن يحبك الله ورسوله، وهذا معنى قول بعض أهل العلم: ليس الشأن أن تحِب، وإنما أنْ تُحَب، ومما يبلُغ بك ذلك: الصدق.

والحديث دليل على مشروعية التبرك بآثار نبينا صلى الله عليه وسلم، وغيره لا يقاس عليه، ولو صح القياس في هذا الباب لوقع لسادات الصحابة كالخلفاء الأربعة رضي الله عنهم ولتواتر النقل بذلك.

2/ البركة

عن حكيم بن حزام رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما» رواه الشيخان.

3/ الصدق هو التجارة الرابحة

فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أَرْبَعٌ إِذَا كُنَّ فِيكَ فَلَا عَلَيْكَ مَا فَاتَكَ مِنْ الدُّنْيَا: حِفْظُ أَمَانَةٍ، وَصِدْقُ حَدِيثٍ، وَحُسْنُ خَلِيقَةٍ، وَعِفَّةٌ فِي طُعمة» رواه أحمد.

4/ راحة بال

فالصدق تطمئن النفس إليه.

عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم:«دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ» رواه الترمذي.

قال ابن رجب الحنبلي: “يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي الِاعْتِمَادُ عَلَى قَوْلِ كُلِّ قَائِلٍ كَمَا قَالَ فِي حَدِيثِ وَابِصَةَ: «وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ»، وَإِنَّمَا يُعْتَمَدُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ الصِّدْقَ، وَعَلَامَةُ الصِّدْقِ أَنَّهُ تَطْمَئِنُّ بِهِ الْقُلُوبُ، وَعَلَّامَةُ الْكَذِبِ أَنَّهُ تَحْصُلَ بِهِ الرِّيبَةُ، فَلَا تَسْكُنُ الْقُلُوبُ إِلَيْهِ، بَلْ تَنْفِرُ مِنْهُ” [جامع العلوم والحكم 1/ 285].

5/ والصدق من صفات خير الناس

فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قلنا: يا نبي الله من أفضل الناس؟ فقال:«كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ». قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب ؟ قال:«هُوَ التَّقِيُّ، النَّقِيُّ، لَا إِثْمَ فِيهِ، وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ، وَلَا حَسَدَ» رواه ابن ماجه.

التقي: العامل بأمر الله التارك لما نهى عنه.

النقي: “نَقِيّ الْقَلْبِ مِنَ الْغِلِّ وَالْحَسَدِ” [الاستذكار 7/ 49].

لا إثم فيه: لا يصر على مغصية الله، وإذا ألم بشيء من الذنوب استغفر وأقلع.

ولا بغي: لا ظلم.

ولا غل ولا حسد: تأكيد لما سبق.

والحسد لكثرة فشوه يأتي الكلام عنه بمشيئة الله، أسأل الله أن يطهِّر قلوبنا منه ومما يغضب الله تعالى من الآثام والأدواء.

وهو من أخلاق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام:

قال الله تعالى عن إسماعيل: ﴿واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبيًا﴾ [مريم: 54].

أَورد ابن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآية خبرا يروى عن إسماعيل عليه السلام: “أنه وَعَدَ رَجُلًا مَكَانًا أَنْ يَأْتِيَهُ، فَجَاءَ وَنَسِيَ الرَّجُلُ، فَظَلَّ بِهِ إِسْمَاعِيلُ وَبَاتَ حَتَّى جَاءَ الرَّجُلُ مِنَ الْغَدِ، فَقَالَ: إِنِّي نَسِيتُ. قَالَ: لَمْ أَكُنْ لِأَبْرَحَ حَتَّى تَأْتِيَنِي”.

ومن صدقه أنه قال لأبيه: ﴿سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ [الصافات: 102 ]، فكان كذلك.

وهذا يوسف عليه السلام، ذكر الله لنا قوله: ﴿قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي﴾، فبان أنه صادق في كلامه، قال قال الله بعدها: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾ [يوسف: 26 – 28]

وهذا نبيناصلى الله عليه وسلم:

نعته بالصدق أتباعه وأعداؤه..

قال له عمه أبو طالب بعدما توعدت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم:

وَاللَهِ لَن يَصِلوا إِلَيكَ بِجَمعِهِم** حَتّى أُوَسَّدَ في التُرابِ دَفينا

فَاِصدَع بِأَمرِكَ ما عَلَيكَ غَضاضَةٌ**وَابشِر بِذاكَ وَقَرَّ مِنهُ عُيونا

وَدَعَوتَني وَزَعَمتَ أَنَّكَ ناصِحٌ** وَلَقَد صَدَقتَ وَكُنتَ ثَمَّ أَمينا

ولقد علمت بأنَّ دينَ محمدٍ**مِن خَيرِ أَديانِ البَرِيَّةِ ديناً

لَولا المَلامَةُ أَو حذارُ مسبةٍ** لَوَجَدتَني سَمحاً بِذاكَ مُبيناً

وهؤلاء الذين توعدوا النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يشهدون على صدقه وأمانته، وهم الذين أطلقوا عليه هذا اللقب: “الصادق الأمين”.

فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء:214]، خرج النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى صَعِدَ الصَّفَا فَهَتَفَ: «يَا صَبَاحَاهْ». فَقَالُوا: مَنْ هَذَا ؟ فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ. فَقَالَ: «أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا تَخْرُجُ مِنْ سَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ» ؟ قَالُوا: مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا. قَالَ: «فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ» رواه الشيخان.

وقال له خديجة رضي الله عنها في قصة بدء الوحي: “أَبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ” رواه الشيخان.

وقال عبدالله بن سلام رضي الله عنه:” لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: قَدِمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قَدِمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قَدِمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَجِئْتُ فِي النَّاسِ؛ لِأَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا اسْتَثْبَتُّ وَجْهَ رَسُولِصلى الله عليه وسلم عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ” رواه الترمذي.

وشهد خزيمة بن ثابت رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم بما لم يشهده؛ لعلمه بصدقه، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين.

فقد رواه أبو داود، والنسائي وأحمد أنه قال: ابْتَاعَ النبي صلى الله عليه وسلم فَرَسًا مِنْ أَعْرَابِيٍّ، فَاسْتَتْبَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَقْضِيَهُ ثَمَنَ فَرَسِهِ، فَأَسْرَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَشْيَ وَأَبْطَأَ الْأَعْرَابِيُّ، فَطَفِقَ رِجَالٌ يَعْتَرِضُونَ الْأَعْرَابِيَّ، فَيُسَاوِمُونَهُ بِالْفَرَسِ وَلَا يَشْعُرُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتَاعَهُ، فَنَادَى الْأَعْرَابِيُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ مُبْتَاعًا هَذَا الْفَرَسِ وَإِلَّا بِعْتُهُ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَمِعَ نِدَاءَ الْأَعْرَابِيِّ، فَقَالَ:  «أَوْ لَيْسَ قَدِ ابْتَعْتُهُ مِنْكَ»؟  فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: لَا، وَاللَّهِ مَا بِعْتُكَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلَى، قَدِ ابْتَعْتُهُ مِنْكَ». فَطَفِقَ الْأَعْرَابِيُّ، يَقُولُ هَلُمَّ شَهِيدًا، فَقَالَ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ: أَنَا أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَايَعْتَهُ، فَأَقْبَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خُزَيْمَةَ فَقَالَ: «بِمَ تَشْهَدُ»؟  فَقَالَ: بِتَصْدِيقِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهَادَةَ خُزَيْمَةَ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ”. وصححه الألباني في صحيح أبي داود، وكذا صححه محققو المسند.

وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: “لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أَصْبَحَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَارْتَدَّ نَاسٌ فَمَنْ كَانَ آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَسَمِعُوا بِذَلِكَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالُوا: هَلْ لَكَ إِلَى صَاحِبِكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَ: أَوَ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: لَئِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ، قَالُوا: أَوَ تُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنِّي لَأَصُدِّقُهُ فِيمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ: أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ فِي غَدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ، فَلِذَلِكَ سُمَيَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقَ” رواه الحاكم في المستدرك.

وقال الكاتب البريطاني وعالم الاجتماع: هاربرت جورج ويلز في كتاب معالم تاريخ الإنسانية: “إن من أرفع الأدلة على صدق محمد كون أهله وأقرب الناس إليه يؤمنون به، فقد كانوا مطلعين على أسراره، ولو شكوا في صدقه لما آمنوا به” [انظر: الإسلام والرسول في نظر منصفي الشرق والغرب لأحمد بن حجر آل بوطامي].

وإن من سادات الصادقين إبراهيم عليه الصلاة والتسليم

ويكفي لبيان إمامته في الصدق وغيره من خصال الخير قول ربنا: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾ [النحل: 120].

وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: «لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ ثِنْتَيْنِ مِنْهُنَّ فِي ذَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَوْلُهُ: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا﴾»، فقد جاء عند أبي يعلى: «كلها في ذات الله»، وللترمذي: «مَا مِنْهَا كَذِبَةٌ إِلَّا مَا حل بِهَا عَنْ دِينِ» أي: جادل بها عن دين الله، وإنما خص النبي صلى الله عليه وسلم اثنتين لأن الثالثة وإن كانت في ذات الله إلا أنَّ لنفسه حظاً فيها. ولكنّ الثلاث في ذات الله تعالى.

الأولى: قوله: إني سقيم. أي سأسقم. كما قال تعالى:﴿ إنك ميت﴾ أي ستموت؛ لأن الإنسان يمرض في الدنيا ويصح، ويفرح ويحزن.. فهذه أمور لا شك أنها تجري علينا –نحن البشر-. أو: كان يشعر بمرض يسير، فاعتذر به وإن لم يكن مانعاً له من الذهاب معهم.

وأما قوله: ﴿ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فاسألوهم إن كانوا ينطقون﴾، أي: إن كان ينطقون ففعله كبيرهم هذا، ولكنهم لا ينطقون فكيف يفعله. وقيل أراد لهم ضرب المثل. كما قال الملكان لداود عليه السلام: ﴿إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً﴾ ولم يكن أخاه وليس له نعاج، وإنما جرى الكلام مجرى التنبيه لداود عليه السلام على ما فعل، والمراد ضرب المثل. قال ابن كثير رحمه الله في حديث:«كذب إبراهيم ثلاث مرات»: “ولكن ليس هذا من باب الكذب الحقيقي الذي يذم فاعله، حاشا وكلا، وإنما أطلق الكذب على هذا  تجوزاً، وإنما هو من المعاريض في الكلام لمقصد شرعي ديني، كما جاء في الحديث: «إن في المعاريض لمندوحةً عن الكذب»” [تفسير القرآن العظيم 7/ 24].

7/ الجنة

ومن أعظم ثمار الصدق: الجنة.

قال تعالى: ﴿وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ… أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [ الأحزاب: 35 ].

وقال: ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾ [آل عمران: 15-17].

وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُمْ الْجَنَّةَ: اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ، وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ، وَأَدُّوا إِذَا اؤْتُمِنْتُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ» رواه أحمد.

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ([1]) حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا» رواه مسلم.

آثار في الحث على الصدق

لقد حضَّ سلفنا الصالح على التمسك بهذا الخلق:

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “عليك بالصدق وإن قتلك”.

وقال أيضاً: “لأن يضيعني الصدق وقلّ ما يفعل أحب إلى أن من أن يرفعني الكذب وقلّ ما يفعل”.

وقال الإمام الأوزاعي رحمه الله: “والله لو نادى منادٍ من السماء أن الكذب حلال ما كذبت”

وقال الشعبي رحمه الله: “عليك بالصدق حيث ترى أنه يضرك فإنه ينفعك، واجتنب الكذب حيث ترى أنه ينفعك فإنه يضرك”.

وقال عبد الملك بن مروان لمعلم ولده: “علمهم الصدق كما تعلمهم القران”.

أنواع الصدق

للصدق ثلاثة أنواع:

1/ الصدق مع الله

بإخلاص العبادة لله، وبالوفاء بعهده.

قال تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * ِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 23-24 ].

وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: غَابَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ، لَئِنْ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ -يَعْنِي أَصْحَابَهُ -، وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ -يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ – ثُمَّ تَقَدَّمَ، فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ: يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ الْجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ، إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ. قَالَ سَعْدٌ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ، قَالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ، وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلَّا أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ، قَالَ أَنَسٌ: كُنَّا نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَشْبَاهِهِ: ﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾. رواه الشيخان.

وتأمل يا عبد الله في عاقبة الصدق مع الله من خلال هذين الحديثين:

عن سهل ابن حُنَيْفٍ رضي الله عنه أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ سَأَلَ الله تَعَالَى الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ» رواه مسلم.

وعن شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَعْرَابِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: أُهَاجِرُ مَعَكَ، فَأَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْضَ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةٌ غَنِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَبْيًا فَقَسَمَ وَقَسَمَ لَهُ، فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ، وَكَانَ يَرْعَى ظَهْرَهُمْ، فَلَمَّا جَاءَ دَفَعُوهُ إِلَيْهِ فَقَالَ: مَا هَذَا ؟ قَالُوا: قِسْمٌ قَسَمَهُ لَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَأَخَذَهُ، فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا هَذَا ؟ قَالَ:«قَسَمْتُهُ لَكَ».  قَالَ: مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ، وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى إِلَى هَاهُنَا -وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ – بِسَهْمٍ، فَأَمُوتَ، فَأَدْخُلَ الْجَنَّةَ. فَقَالَ: «إِنْ تَصْدُقْ اللَّهَ يَصْدُقْكَ»، فَلَبِثُوا قَلِيلًا ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحْمَلُ قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ، فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم:«أَهُوَ هُوَ» ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ:«صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ»،  ثُمَّ كَفَّنَهُ النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم فِي جُبَّةِ النَّبِيِّصلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَدَّمَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ، فَكَانَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ صَلَاتِهِ:«اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ، خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِكَ، فَقُتِلَ شَهِيدًا، أَنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ» رواه النسائي.

كان بالإمكان أن يقتل ببطنه، أو أن يطاح برأسه، أو أن تبتر قدماه أو يداه.. ولكنه قتل حيث أشار لعظيم صدقه مع الله تعالى.

قال سبحانه: ﴿ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ ﴾ [محمد: 21].

وأما الصّدق مع النّفس يكون بإقامتها على شرع الله..

والصّدق مع النّاس في الكلام والوعود وفي التعامل معهم فلا يغش ولا يخدع، ويعاملهم بما يحب أن يعامل به، قالصلى الله عليه وسلم:«مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنْ النَّارِ وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ» رواه مسلم.

وقال: «مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ» رواه البخاري.

اللهم اجعلنا من عبادك الصادقين.

رب صل وسلم على نبينا محمد.

 

[1] / أي يبالغ فيه ويجتهد.

شارك المحتوى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *