
وقفات مع خطبة عرفات
بسم الله الرحمن الرحيم
وقفات مع خطبة عرفات
مهران ماهر عثمان
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛
ففي يوم عرفة، في حجة الوادع، ودَّع نبي الهدى صلى الله عليه وسلم أمته بخطبة بليغة وجيزة، فقال: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، فَاتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟» قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فَقَالَ: بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ، يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ «اللهُمَّ، اشْهَدْ، اللهُمَّ، اشْهَدْ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. رواه مسلم.
وهذه وقفاتٌ مع هذه الخطبة المباركة:
«إنَّ دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا».
ومعنى الحديث أن هذه الثلاثة حرام كما أن مكة حرام، وكما أنَّ ذا الحجة شهر حرام. قال النووي رحمه الله: “مَعْنَاهُ مُتَأَكِّدَةُ التَّحْرِيمِ شَدِيدَتُهُ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ لِضَرْبِ الْأَمْثَالِ وَإِلْحَاقِ النَّظِيرِ بِالنَّظِيرِ قِيَاسًا”([1]).
أما حرمة الدماء فيكفي لبيانها هذه القصة:
عن عمران بن حصين رضي الله عنه، قال: شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ بَعَثَ جَيْشًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، فَلَمَّا لَقُوهُمْ قَاتَلُوهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، فَمَنَحُوهُمْ أَكْتَافَهُمْ، فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنْ لُحْمَتِي عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِالرُّمْحِ، فَلَمَّا غَشِيَهُ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِنِّي مُسْلِمٌ، فَطَعَنَهُ فَقَتَلَهُ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ. قَالَ: «وَمَا الَّذِي صَنَعْتَ»؟ فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي صَنَعَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَهَلَّا شَقَقْتَ عَنْ بَطْنِهِ فَعَلِمْتَ مَا فِي قَلْبِهِ»؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ شَقَقْتُ بَطْنَهُ لَكُنْتُ أَعْلَمُ مَا فِي قَلْبِهِ. قَالَ: «فَلَا أَنْتَ قَبِلْتَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ، وَلَا أَنْتَ تَعْلَمُ مَا فِي قَلْبِهِ»! فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى مَاتَ، فَدَفَنَّاهُ، فَأَصْبَحَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ. فَقَالُوا: لَعَلَّ عَدُوًّا نَبَشَهُ، فَدَفَنَّاهُ، ثُمَّ أَمَرْنَا غِلْمَانَنَا يَحْرُسُونَهُ، فَأَصْبَحَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ. فَقُلْنَا: لَعَلَّ الْغِلْمَانَ نَعَسُوا، فَدَفَنَّاهُ ثُمَّ حَرَسْنَاهُ بِأَنْفُسِنَا، فَأَصْبَحَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ. فَأَلْقَيْنَاهُ فِي بَعْضِ تِلْكَ الشِّعَابِ. فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «إِنَّ الْأَرْضَ لَتَقْبَلُ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَحَبَّ أَنْ يُرِيَكُمْ تَعْظِيمَ حُرْمَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» رواه ابن ماجه.
فما أعظمها من كبيرة!!
وأما حرمة الأموال فيبينها سؤالُ رجلٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرَأيْتَ إنْ قُتِلْتُ في سبيلِ الله تُكَفَّرُ عَنّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ، إنْ قُتِلْتَ في سبيلِ اللهِ، وَأنْتَ صَابرٌ، مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيرُ مُدْبر». ثُمَّ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: «كَيْفَ قُلْتَ»؟ قَالَ: أرَأيْتَ إنْ قُتِلْتُ في سبيلِ الله أتُكَفَّرُ عَنّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: «نَعمْ، وَأنْتَ صَابرٌ، مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيرُ مُدْبِرٍ، إلاَّ الدَّيْنَ؛ فإنَّ جِبريلَ عليه السلام قَالَ لي ذلِكَ» رواه مسلم.
والدَّينُ يكون بطيب نفس، لا يكون غصباً، وهذا لا تكفره الشهادة، فكيف بمن أخذ مالاً حراماً من أخيه؟!
وأما العرض فهو الشرف.
وحرمة الأعراض تقتضي ألَّا يخرقها مسلم خَرْقاً حسياً أو معنويا، ًأما الخرق المعنوي فبأمرين:
- ألا يغتابه، وقد فسر العرض بالغيبة.
- ألا يبهته ويفتري عليه، وهذه أَولى بصيانة الأعراض منها من الأُولى.
وأما الخرق الحسي فبفعل الفاحشة معه أو مع من له قرابة به.
قال ابن دقيق العيد: “أعراض المسلمين حفر من حفر النار”([2]).
«ألا وإن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي هاتين موضوع».
ومن أحيا سنةً جاهليةً فهو بغيض إلى الله، بل إنه من أبغض العباد إليه، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلَاثَةٌ: مُلْحِدٌ فِي الْحَرَمِ، وَمُبْتَغٍ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهَرِيقَ دَمَهُ» رواه البخاري.
وقد كان من هديه أن يخالفهم في كل شيء، فلو أخذنا حجة الوداع نموذجاً لاتضح لنا ذلك من خلال الأمثلة التالية:
- في التلبية كان الجاهليون يقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك! فأهلَّ نبي الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد فقال: «لبيك لا شريك لك لبيك».
- في الطواف كانوا يطوفون عراةً إن لم يجدوا ثياباً جديدةً ولم يعرهم قرشي ثوباً، وكذلك المرأة عندهم، فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم ونزلت الآية: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِد﴾ [الأعراف: 31].
- من أهلَّ منهم لمناة لم يسع بين الصفا والمروة، فجعله النبي صلى الله عليه وسلم ركناً من أركان الحج.
- من القبائح عندهم العمرة في أشهر الحج، فقرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بالتمتع، وأعمر عائشة رضي الله عنها، واعتمر أربع مرات في ذي القَعْدة([3])، وهو من أشهر الحج.
- كانوا يفيضون من عرفات قبل الغروب، إذا كانت الشمس فوق الجبال كالعمائم على رؤوس الرجال، فأفاض نبينا صلى الله عليه وسلم منها بعد الغروب.
- وكانوا يدفعون من مزدلفة بعد الشروق، إذا كانت الشمس على الجبال كالعمائم على رؤوس الرجال، فخالفهم نبينا صلى الله عليه وسلم، فدفع منها قبل الإشراق وبعد الإسفار.
وفي هذه الخطبة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أمرين من أمور الجاهلية:
الأول: دماء الجاهلية، فقال:
«ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم بن ربيعة بن الحارث ابن عبد المطلب، كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل».
موضوعة: أي متروكة، فلَا قِصَاص وَلَا دِيَة وَلَا كَفَّارَة، فقد كان الجاهليون يأخذون بالثأر، فربما قتلوا من قبيلة القاتل أضعافاً، وربما قتلوا غير القاتل، فأبطل ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم حقناً لدماء المسلمين، فحرمة المسلم أعظم من حرمة الكعبة المشرفة.
قال النووي رحمه الله: “وَكَانَ هَذَا الِابْنُ الْمَقْتُولُ طِفْلًا صَغِيرًا يَحْبُو بَيْنَ الْبُيُوتِ، فَأَصَابَهُ حَجَرٌ فِي حَرْبٍ كَانَتْ بَيْنَ بَنِي سَعْدٍ وَبَنِي لَيْثِ بْنِ بَكْرٍ”([4]).
قال أسامة بن زيدِ بْنِ حَارِثَةَ رضي الله عنهما: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ. وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَكَفَّ عَنْهُ الْأَنْصَارِيَّ، وَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ.فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِي: «يَا أُسَامَةُ أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»؟ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا. قَالَ: «أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»؟ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ. رواه البخاري ومسلم.
ثم قال:
«وربا الجاهلية موضوع، وأول رباً أضع ربانا: ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله».
والمقصود الزيادة على رأس المال، وإنما وضعه لأن من أخذه فقد حارب الله، ومن يقوى على ذلك؟! قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 278، 279].
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم ما من شأنه أن يصلح أمورنا الأسرية وشؤوننا البيتية فقال:
«فاتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، وإنَّ لكم عليهنَّ أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن غير مُبَرِّح، ولهنَّ عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف».
بأمان الله: ائتمنكم عليهنَّ.
وكلمة الله: الإيجاب والقبول.
قال النووي رحمه الله: “وَالْمُخْتَار أَنَّ مَعْنَاهُ أَلَّا يَأْذَنَّ لِأَحَدٍ تَكْرَهُونَهُ فِي دُخُول بُيُوتكُمْ وَالْجُلُوس فِي مَنَازِلكُمْ، سَوَاء كَانَ الْمَأْذُون لَهُ رَجُلًا أَجْنَبِيًّا أَوْ اِمْرَأَة أَوْ أَحَدًا مِنْ مَحَارِم الزَّوْجَة، فَالنَّهْي يَتَنَاوَل جَمِيع ذَلِكَ، وَهَذَا حُكْم الْمَسْأَلَة عِنْد الْفُقَهَاء؛ أَنَّهَا لَا يَحِلّ لَهَا أَنْ تَأْذَن لِرَجُلٍ أَوْ اِمْرَأَة وَلَا مَحْرَم وَلَا غَيْره فِي دُخُول مَنْزِل الزَّوْج إِلَّا مَنْ عَلِمَتْ أَوْ ظَنَّتْ أَنَّ الزَّوْج لَا يَكْرَههُ”([5]).
لقد شرع صلى الله عليه وسلم في بيان حقوق الزوجين لأن أمرهما لن يستقيم إلا بذلك، وسفينة الحياة الأسرية الزوجية لن ترسُوَ في برِّ الأمان، ولن تقوى على مصادمة أمواج الحياة العاتية فتتخطاها بسلام، إلا ببذل الحقوق الواجبة من الزوجين.
وفي هذه الوقفة أذكر بثلاثة أحاديث:
الأولُ أذكر به الزوجة:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال كان أهل بيت من الأنصار لهم جمل يَسنون عليه (أي: يسقون)، وإنه استصعب عليهم فمنعهم ظهره، وإن الأنصار جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنه كان لنا جمل نَسني عليه وإنه استصعب علينا ومنعنا ظهره وقد عطش الزرع والنخل فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «قوموا»، فقاموا فدخل الحائط والجمل في ناحيته فمشى النبي صلى الله عليه وسلم نحوه فقالت الأنصار يا رسول الله قد صار مثل الكلب نخاف عليك صولته قال: «ليس عليَّ منه بأس»، فلما نظر الجمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل نحوه حتى خر ساجداً بين يديه، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بناصيته أذل ما كانت قط حتى أدخله في العمل، فقال له أصحابه يا رسول الله هذا بهيمة لا يعقل يسجد لك ونحن نعقل فنحن أحق أن نسجد لك قال: «لَا يَصْلُحُ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ، وَلَوْ صَلَحَ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ مِنْ قَدَمِهِ إِلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ قُرْحَة تَنْبَجِسُ بِالْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْهُ فَلَحَسَتْهُ مَا أَدَّتْ حَقَّهُ» رواه أحمد.
وأما الحديث الثاني فأذكِّر به الزوج:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم» رواه الترمذي.
إنك تجد كثيراً من الناس إذا اختلط بأصدقائه أو جيرانه أظهر لهم خير ما عنده من الأخلاق الفاضلة، فإذا عامل زوجته كان شيطاناً رجيماً!! يعلِّمنا نبينا صلى الله عليه وسلم أنَّ خيار الناس من حسنت أخلاقه مع زوجه، فهي أولى بمعاملتك الكريمة من غيرها.
أما الحديث الثالث فأذكر الزوجين جميعاً:
عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا.ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، فَيُدْنِيهِ مِنْهُ فَيَلْتَزِمُهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ» رواه مسلم.
«وإني قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله».
هذه الجملة فيها منطوق ومفهوم:
أما منطوقها: لن يضل من تمسك بالكتاب الكريم، وكيف يضل وهو إنما يتبع ما رسمه خالقه الذي هو أعرف بنفسه من نفسه؟! ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 14].
وأما المفهوم: فأنّ الضلال مكتوب على من لا يتبع الكتاب الكريم.
وقد جاء هذا المفهوم وذاك المنطوق في منطوق آيتين في سورة طه حيث يقول سبحانه: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه: 123- 124].
فمن أراد النجاة فلا سبيل إلى تحقيقها إلا باتباع الكتاب والسنة التي امتلأت صفحات المصحف بالأمر باتباعها وتعظيمها، أما اتباع غيرهما من آراء الرجال وأفكارهم وأهواء نفوسنا فهذا لا يحقق لنا إلا الضلال المبين.
ثم قال صلى الله عليه وسلم:
«وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون»؟
قالوا: نشهد أنك قد بلَّغت رسالات ربك وأديت ونصحت لأمتك وقضيت الذي عليك.
فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء ويَنْكُتُها([6]) إلى الناس:
«اللهم اشهد، اللهم اشهد»
قال تعالى: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ﴾ [الأعراف: 6- 7].
يُسأل الناس عما أجابوا، ويسأل المرسلون عما بلَّغوا.
وبما شهد به الصحابة إنا لقائلون، وعلى دربهم سائرون.
نشهد يا نبيَّ الله أنك قد بلغت وأديت، ما تركت أمراً يقرب من جنة الله إلا وأرشدتنا إليه، وما تركت جرماً يبعدنا عن الله إلا وحذرتنا منه، لمَّا قال المشركون لسلمان رضي الله عنه: عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى قضاء الحاجة؟ قَالَ: “أَجَلْ لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ بِعَظْم” رواه مسلم.
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: تَرَكْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا طَائِرٌ يُقَلِّبُ جَنَاحَيْهِ فِي الْهَوَاءِ، إِلا وَهُوَ يُذَكِّرُنَا مِنْهُ عِلْمًا، قَالَ: فَقَالَ: صلى الله عليه وسلم: «مَا بَقِيَ شَيْءٌ يُقَرِّبُ مِنَ الْجَنَّةِ، ويُبَاعِدُ مِنَ النَّارِ، إِلا وَقَدْ بُيِّنَ لَكُم» رواه الطبراني.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد.
———————————
[1] / شرح النووي على مسلم (8/ 182).
[2] / الاقتراح في بيان الاصطلاح، (ص: 61).
[3] / “سموهُ ذَا الْقعدَة لأَنهم كَانُوا يَقْعُدُونَ فِيهِ (أي: عن القتال)” [كشف المشكل من حديث الصحيحين 2/ 6].
[4] / شرح النووي على مسلم (8/ 183).
[5] / شرح صحيح مسلم (4/ 312).
[6] / يشير بها.

