قصة شهيد (4)، شهداء أحد
بسم الله الرحمن الرحيم
قصة شهيد (4)
شهداء أحد
خطبة 21 جمادى الأولى 1446 | 22/ 11/ 2024م
دنقلا، مسجد الهداية بحي الهدى (7)
مهران ماهر عثمان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛
فالموعد اليوم مع شهداء أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كانت غزوة أحد في شوال في العام الثالث من الهجرة النبوية.
وسُميت بذلك لأنها كانت عند جبل أحد، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ» رواه الشيخان.
عدد الشهداء في أحد
استشهد في هذه المعركة سبعون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، على رأسهم سيد الشهداء، حمزة، عمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سبب ذلك
كانت الغلبة للمسلمين في بداية المعركة، لكن بسب معصية واحدة من بعض الرماة وقعت الهزيمة! وهذا يدل على شؤم المعصية.
وما أكثر ما نفهم حسن الظن بالله فهماً خاطئا!
نعصي ونقول: نحسن الظن بالله، والله غفور رحيم!!
ونسينا أن آدم عليه السلام خرج من الجنة بذنب واحد!!
وهُزم المسلمون في أحد بذنب واحد!!
ننسى أن الله الذي نعت نفسه بأنه غفور رحيم هو الذي نعت نفسه بكونه شديد العقاب!
قال تعالى: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ﴾ [الحجر: 49، 50].
وقال: ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: 98].
وقال: ﴿إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأنعام: 165].
ننسى أن الفرق بين حسن الظن والغرور أن الأول يحمل على الطاعة، والثاني يحمل على المعصية، والله يقول: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110].
أي: فمَن كان يخاف عذاب ربه ويرجو ثوابه يوم لقائه، فليعمل عملا صالحًا.
خبر شهداء أحد
عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ سَأَلْنَا عَبْدَ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾، قَالَ: أَمَا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: «أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَسْرَحُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ، فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ اطِّلَاعَةً فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا؟ قَالُوا: أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا. فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا قَالُوا: يَا رَبِّ نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا» رواه مسلم.
ففيهم نزلت الآيات: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 169 – 171]، فما ما معناها؟
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾.
أي: ولا تظنَّنَّ -أيها النبي- أن الذين قتلوا في سبيل الله أموات لا يُحِسُّون شيئًا، بل هم أحياء حياة برزخية في جوار ربهم الذي جاهدوا من أجله، وماتوا في سبيله، يجري عليهم رزقهم في الجنة، ويُنعَّمون.
فإن قيل: لكننا لو فتحنا قبورهم لم نر شيئاً!
فالجواب في سورة البقرة، قال تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 154].
لا تحسون بهم، وأحوال الآخرة لا يدركها أهل الدنيا بحواسهم.
﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾
لقد عَمَّتهم السعادة حين مَنَّ الله عليهم، فأعطاهم مِن عظيم جوده وواسع كرمه من النعيم والرضا ما تَقَرُّ به أعينهم.
﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ﴾.
وهم يفرحون بإخوانهم المجاهدين الذين فارقوهم وهم أحياء؛ لِعِلْمِهم أنهم سينالون من الخير الذي نالوه، إذا استشهدوا في سبيل الله مخلصين له.
﴿أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.
وأن لا خوف عليهم فيما يستقبلون من أمور الآخرة، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من حظوظ الدنيا.
لا خوف عليهم من لحظة نزول ملك الموت وأعوانه..
ولا من نزع الروح..
ولا من فتنة القبر فإن الشهيد لا يفتن فيه، قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: مَا بَالُ الْمُؤْمِنِينَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ إِلَّا الشَّهِيدَ؟ قَالَ: «كَفَى بِبَارِقَةِ السُّيُوفِ عَلَى رَأْسِهِ فِتْنَةً» رواه النسائي..
لا يخافون من وحشة القبر، ففي قبرهم نعيم هو خير من الدنيا وما فيها، ينعمون به إلى يوم القيامة..
ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم.
المرء في الدنيا إذا فارق أهله وسافر يشعر بحزن الفراق! فهؤلاء يحول الله بينهم وبين أحزان الدنيا ولو كان الحزن حزنَ مفارقة.
﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
وإنهم في فرحة غامرة بما أُعطوا من نعم الله وجزيل عطائه، وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين به، بل ينمِّيه ويزيده من فضله.
من كرامات شهداء أحد
من الكرامات ما ورد عن بعضهم من عدم تغيرهم بعد استشهادهم، وعدم أكل الأرض لأجسادهم، ففي الموطأ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْجَمُوحِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيَّيْنِ ثُمَّ السَّلَمِيَّيْنِ كَانَا قَدْ حَفَرَ السَّيْلُ قَبْرَهُمَا، وَكَانَ قَبْرُهُمَا مِمَّا يَلِي السَّيْلَ، وَكَانَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، وَهُمَا مِمَّنْ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَحُفِرَ عَنْهُمَا لِيُغَيَّرَا مِنْ مَكَانِهِمَا فَوُجِدَا لَمْ يَتَغَيَّرَا كَأَنَّهُمَا مَاتَا بِالْأَمْسِ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا قَدْ جُرِحَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى جُرْحِهِ فَدُفِنَ وَهُوَ كَذَلِكَ فَأُمِيطَتْ يَدُهُ عَنْ جُرْحِهِ ثُمَّ أُرْسِلَتْ فَرَجَعَتْ كَمَا كَانَتْ، وَكَانَ بَيْنَ أُحُدٍ وَبَيْنَ يَوْمَ حُفِرَ عَنْهُمَا سِتٌّ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً. رواه مالك في الموطأ.
ومن ذلك ما رواه الترمذي، قال جابر بن عبد الله بن حرام رضي الله عنهما: لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِي: «يَا جَابِرُ مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا»؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتُشْهِدَ أَبِي، وَتَرَكَ عِيَالًا وَدَيْنًا، قَالَ: «أَفَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللَّهُ بِهِ أَبَاكَ»؟ قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: ” مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَأَحْيَا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا. فَقَالَ: يَا عَبْدِي تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ. قَالَ: يَا رَبِّ تُحْيِينِي فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيَةً. قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يُرْجَعُونَ».
صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على شهداء أحد
في الصحيحين، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : “صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ بَعْدَ ثَمَانِي سِنِينَ كَالْمُوَدِّعِ لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ”.
وفي لفظ : “أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ” رواه البخاري ومسلم من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أيضا.
وقد استدل الأحناف بهذا الحديث على مشروعية الصلاة على الشهيد.
وهذا هو الصحيح، فالصلاة عليهم لا تجب، لكنها تُشرع.
قال الحافظ بدرُ الدِّين العَيْنِي رحمه الله: “قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صَلَّى عَلَى أَهْل أُحُد بَعْد مُدَّة, فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الشَّهِيد يُصَلَّى عَلَيْهِ كَمَا يُصَلَّى عَلَى مَنْ مَاتَ حَتْف أَنْفه, وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَة وَأَوَّلَ الْخَبَر فِي تَرْك الصَّلَاة عَلَيْهِمْ يَوْم أُحُد عَلَى مَعْنَى اِشْتِغَاله عَنْهُمْ وَقِلَّة فَرَاغه لِذَلِكَ, وَكَانَ يَوْمًا صَعْبًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَعُذِرُوا بِتَرْكِ الصَّلَاة عَلَيْهِمْ” [عمدة القاري شرح صحيح البخاري 12 / 492].
ربِّ صلِّ وسلِّم على نبيِّنا محمد.