قصة شهيد (5) جليبيب
بسم الله الرحمن الرحيم
قصة شهيد (5)
جليبيب رضي الله عنه
خطبة 28 جمادى الأولى 1446 | 29/ 11/ 2024م
دنقلا، مسجد الهداية بحي الهدى (7)
مهران ماهر عثمان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛
فالموعد اليوم مع شهيد من أصحاب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم..
ثبت في مسند أحمد([1])، وروى بعضَه الإمام مسلم، عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه: كَانَتِ الْأَنْصَارُ إِذَا كَانَ لِأَحَدِهِمْ أَيِّمٌ لَمْ يُزَوِّجْهَا حَتَّى يَعْلَمَ هَلْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا حَاجَةٌ؟ أَمْ لَا.
وفي هذا شدة تعظيمهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبتهم له.
والإيم: التي لا زوج لها.
ومعلوم أن من الفوز أن يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم بنت الرجل فيكون صهرا له، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، فَتَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ فَهِيَ لِآخِرِ أَزْوَاجِهَا» رواه الطبراني في المعجم الأوسط، وصححه الألباني السلسلة الصحيحة (3/275 ).
قال ابن كثير رحمه الله: “﴿وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا﴾، أي: في الجنة، فإنهن في منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم، في أعلى عليين، فوق منازل جميع الخلائق” [تفسير ابن كثير 6/ 408].
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ: «زَوِّجْنِي ابْنَتَكَ». فَقَالَ: نَعَم وَكَرَامَةٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَنُعْمَ عَيْنِي. قَالَ: «إِنِّي لَسْتُ أُرِيدُهَا لِنَفْسِي». قَالَ: فَلِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «لِجُلَيْبِيبٍ». فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُشَاوِرُ أُمَّهَا.
نَعَم: نعم أفعلُ.
كرامةٌ: أفعل وأكرمك بهذا.
نُعْمَ عيني: هذا ما تقرُّ به عيني.
فلما علم أنها لجليبيب قال له ما قال!
لأنه كان رجلاً دميماً، ولما سأله النبي صلى الله عليه وسلم: تزوجت؟ قال: ومن يزوجني يا رسول الله؟!!
فَأَتَى أُمَّهَا فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ ابْنَتَكِ. فَقَالَتْ: نعم وكرامةٌ ونُعْمَ عيني. فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ يَخْطُبُهَا لِنَفْسِهِ إِنَّمَا يَخْطُبُهَا لِجُلَيْبِيبٍ. فَقَالَتْ: أَجُلَيْبِيبٌ إنية؟ أَجُلَيْبِيبٌ إنِيْه؟ أَجُلَيْبِيبٌ إنِيْه؟ لَا. لَعَمْرُ اللَّهِ لَا نُزَوَّجُهُ.
فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ لِيَأْتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيُخْبِرَهُ بِمَا قَالَتْ أُمُّهَا: قَالَتِ الْجَارِيَةُ: مَنْ خَطَبَنِي إِلَيْكُمْ؟ فَأَخْبَرَتْهَا أُمُّهَا فَقَالَتْ: أَتَرُدُّونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَهُ؟ ادْفَعُونِي؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُضَيِّعْنِي.
ظنت أنه صلى عليه وسلم يريدها لنفسه، فأجابت بما أجاب بها زوجها أول الأمر.
فلما علمت أنه يريدها لجليبيب قالت: أجليبيبٌ إنيه، وهذه كلمة تقولها العرب للإنكار.
فقالت البنت منكرةً على أبويها: أتردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره!؟ فقالت: ادفعوني إليه؛ فإنه لن يضيعني.
فما أشبهها بهاجر عليها سلام الله التي قالت ذلك للخليل عليه السلام لما تركها وابنها في صحراء مكة.
وما أعظم انقيادها لأمر نبيها صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الواجب.
والذي يظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع لجليبيب ولم يأمرهما.
فَانْطَلَقَ أَبُوهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: شَأْنَكَ بِهَا، فَزَوَّجَهَا جُلَيْبِيبًا قَالَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ لَهُ. قَالَ: فَلَمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: «هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟» قَالُوا: نَفْقِدُ فُلَانًا وَنَفْقِدُ فُلَانًا. قَالَ: «انْظُرُوا هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟» قَالُوا: لَا. قَالَ: «لَكِنِّي أَفْقِدُ جُلَيْبِيبًا» . قَالَ: «فَاطْلُبُوهُ فِي الْقَتْلَى» . قَالَ: فَطَلَبُوهُ فَوَجَدُوهُ إِلَى جَنْبِ سَبْعَةٍ قَدْ قَتَلَهُمْ، ثُمَّ قَتَلُوهُ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَا هُوَ ذَا إِلَى جَنْبِ سَبْعَةٍ قَدْ قَتَلَهُمْ، ثُمَّ قَتَلُوهُ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ عَلَيْهِ فَقَالَ: «قَتَلَ سَبْعَةً وَقَتَلُوهُ هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ. هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ» مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ وَضَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَاعِدَيْهِ وَحُفِرَ لَهُ مَا لَهُ سَرِيرٌ إِلَّا سَاعِدَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ وَضَعَهُ فِي قَبْرِهِ، وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ غَسَّلَهُ.
صبيحة الليلة التي بنى فيها بأهله نادى منادي الجهاد فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقده النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتذكر جليبيباً غيرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما وجدوه قد قتل سبعةً ثم قتلوه، وذلك لأنه قتلهم، ثم استشهد متأثراً ببعض ضرباتهم التي تلقاها وهو يقاتلهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «هذا مني وأنا منه»، قال النووي رحمه الله: “«هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ»، مَعْنَاهُ الْمُبَالَغَةُ فِي اتِّحَادِ طَرِيقَتِهِمَا وَاتِّفَاقِهِمَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى” [شرح النووي على مسلم 16/ 26].
قال هذا في حقه!
ولم يكن له نعش سوى يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أدخله بنفسه في قبره.
فأيُّ كرامة هذه التي تمتَّع بها هذا الشهيد رضي الله عنه!
فماذا عن زوجته التي ترمَّلت بعده؟
ما عاقبةُ اتباعها للسنة ورضاها بما رضيه لها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
إن في طاعة النبي صلى الله عليه وسلم فيما يشير به خيراً وبركةً عظيمة.
في صحيح مسلم أن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَانِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا أَبُو جَهْمٍ، فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ، انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ» فَكَرِهْتُهُ، ثُمَّ قَالَ: «انْكِحِي أُسَامَةَ»، فَنَكَحْتُهُ، فَجَعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا، وَاغْتَبَطْتُ بِهِ.
قال الزُّرْقاني في -معنى واغتبطت-: “أَيْ حَصَلَ لِي مِنْهُ مَا قَرَّتْ عَيْنِي بِهِ، وَمَا يُغْبَطُ فِيهِ وَيُتَمَنَّى; لِقَبُولِي نَصِيحَةَ سَيِّدِ أَهْلِ الْفَضْلِ وَانْقِيَادِي لِإِشَارَتِهِ” [شرح الزرقاني على الموطأ 3/ 317].
فلما تزوجت جليبياً دعا لها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «اللَّهُمَّ صُبَّ عَلَيْهَا الْخَيْرَ صَبًّا، وَلَا تَجْعَلْ عَيْشَهَا كَدًّا كَدًّا».
والكَدُّ الضيق، كدَّ يكُدُّ: ضاق يضيق.
قَالَ ثابتٌ: فَمَا كَانَ فِي الْأَنْصَارِ أَيِّمٌ أَنْفَقَ مِنْهَا.
أي: خطبها كثيرون، ولا يعرف أن أيِّما خطبها هذا العدد الكثير غيرها؛ وذلك من بركاته انقيادها لما أشار به النبي صلى الله عليه وسلم.
رب صل وسلم على نبينا محمد.
[1] / صححه محققو مسند الإمام أحمد.