سورة الزلزلة: وقفات وتأملات
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الزلزلة: وقفات وتأملات
جمعة: 26 رجب 1444هـ الموافق: 17 فبراير 2023م
مهران ماهر عثمان- مسجد السلام بالطائف مربع (22)
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد؛ فهذه وقفاتٌ وتأملاتٌ في سورة الزلزلة.
هذه السورة تعرف بسورة الزلزلة، وإذا زلزلت الأرض، والزلزال.
“والزلزال: مصدر إذا كسرت الزاي، وإذا فتحت كان اسما([1]).
قال تعالى: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [سورة الزلزلة].
ما ورد فيها
عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجُهَنِيِّ، أَنَّ رَجُلًا، مِنْ جُهَيْنَةَ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا» أبو داود، وصححه([2]).
والحديث دليل على مسألتين:
الأولى: قراءة قصار المفصل أحيانا في الفجر، والأصل في الفجر الإطالة، فقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يقرأ فيها بطوال المفصل، ويقرأ الواقعة ونحوها في ركعتين، وقرأ الطور، وقرأ ق في ركعة، كان يقرأ مقدار ستين آية، وقرأ يس، وقرأ الصافات، في الجمعة كان يقرأ السجدة والإنسان.
قال ابن جزيّ المالكي رحمه الله في تفسيره لقول ربنا: ﴿أَقِمِ ٱلصَّلَٰوةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيلِ وَقُرْآنَ ٱلْفَجْرِ﴾ [الإسراء: 78] “وإنما عبر عن صلاة الصبح بقرآن الفجر؛ لأن القرآن فيها أكثر من غيرها، لأنها تصلّى بسورتين طويلتين”([3]).
الثانية: جواز تكرار السورة نفسها في الركعة الثانية.
قال الشوكاني: “الْأَصْل فِي أَفْعَالِهِ التَّشْرِيعُ وَالنِّسْيَانُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ”([4]).
﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)﴾
إذا حُرِّكتِ الأرضُ حَرَكَةً شديدة، واضْطَرَبت لقيامِ الساعةِ. وهو زلزال عام، ليس كزلازل الدنيا التي تكون في ناحية دون أخرى.
﴿وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2)﴾
وأَخْرَجَت الأرضُ ما في بطنِها من الموتى، فصاروا فوقَها.
وقد ذكر الله هذا المعنى في موضع آخر: ﴿وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ﴾ [الانشقاق: 3، 4]. أي: بُسطت ووسعت، وقذفت ما في بطنها من الأموات، وتخلَّتْ عنهم.
وفي هذا دليل على البعث والنشور، وهذا ذكره الله في مواضع كثيرة من القرآن، قال ربنا: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)﴾ [يس: 78 – 83].
﴿وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3)﴾
وقال الناسُ: ما للأرضِ؟ لماذا اضطَربت وارتجَّت؟ خرجوا من قبورهم يتساءلون.
﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)﴾
في هذا اليومِ تتكلمُ الأرضُ وتُخبِرُ عن الذي عُمِلَ عليها من خيرٍ وشرّ.
عن سعيد بن جبير قال: “زُلْزِلَتِ الأرْضُ على عهد عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فقال لها عبد الله: مالك؟ أما إنها لو تكلَّمت قامت الساعة”([5]).
والشهود يوم القيامة كثر! فتشهد علينا هذه الأرض كما أخبر ربُّنا، وتشهد علينا أعضاؤنا.
قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [فصلت: 19، 22].
وقال: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النور: 24].
وقال: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [يس: 65].
﴿بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)﴾
لأن الله أعلَمَها وأمرَها بهذا التحديث.
وحقيق بالأرض أن تعمل أمر الله.
قال تعالى: ﴿وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ *وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ *وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ﴾، أي: وسمِعَت وأطاعت أمرَ ربِّها، وحُقَّ لها أن تطيع، فهي لا تعصي أمره.
وقال: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ [فصلت: 11].
“ومعنى ائتيا: افعلا ما آمركما به، وجيئا به، كما يقال: ائت ما هو الأحسن أي افعله، وقيل: المعنى: ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف… فنطق من الأرض موضع الكعبة، ونطق من السماء بحيالها، فوضع الله فيه حرمة”([6]).
﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6)﴾.
صدر: خرج.
قال ابن عاشور: “فأُطْلِقَ هُنا فِعْلُ (يَصْدُرُ) عَلى خُرُوجِ النّاسِ إلى الحَشْرِ جَماعاتٍ، أوِ انْصِرافِهِمْ مِنَ المَحْشَرِ إلى مَأْواهم مِنَ الجَنَّةِ أوِ النّارِ”.
والمُرادُ: يَصْدُرُونَ مُتَفَرِّقِينَ جَماعاتٍ.
ليروا جزاء أعمالهم.
﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)﴾.
فمن يعملْ في الدنيا أيَّ عملِ خيرٍ، ولو كان في الصِّغَرِ وزنَ ذرَّةٍ (أصغر النمل) فإنه سَيَلْقَى حُسْنَ جزائه، وكذا من عملَ في الدنيا أي عمل شرٍّ، ولو كان في الصِّغَرِ وزن ذرَّةٍ، فإنه سيلقى سُوءَ عِقابه.
قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [يونس: 44]، دخل في معنى هذه الآية: ألا يزيد لهم شيئا على سيئاتهم، وألا ينقص من حسناتهم شيئا.
وفي الحديث القدسي الذي رواه مسلم: «يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا، فَلْيَحْمَدِ اللهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ».
أُحصِيها: أَحفظُها وأَكتُبُها عليكم.
أوفيكم: أُعطيكم جزاءَ أعمالِكم يومَ القيامةِ وافيًا تامًّا؛ إنْ خيرًا فَخيرٌ، وإنْ شرًّا فَشَرٌّ.
فمَنْ وَجدَ خيرًا: وفقه الله لفعل خير في الدنيا.
فَلْيحمدِ اللهَ: على تَوفيقِه إيَّاه لِلخيرِ؛ لأنَّه الهاديَ المتفضل المنعم.
ومَن وَجدَ غيرَ ذلك: أي: شرًّا، ولم يصرِّحْ به؛ تحقيرًا له وتنفيرًا عنه.
فلا يَلومَنَّ إلَّا نفْسَه؛ لأنَّه صدَرَ مِن نفْسِه.
فالحريص على آخرته ينبغي أن يدَّخر عملاً صالحاً لذاك اليوم، فمن فعل ذلك فاز بكل خير، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا﴾ [الكهف: 107، 108].
وتأمل في سبب ندم المشركين الذي ذُكر في هذه الآيات:
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ﴾ [فاطر: 36-37].
وقال: ﴿حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [المؤمنون: 99-100].
وقال: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 12].
تأمل في هذا ثم تذكر أنك في وقت المهلة قبل أن تنتهي هذه الفرصة ثم يكون الندم منا على ما فرطنا في جنب الله تعالى.
رب صل وسلم على نبينا محمد.
[1] / جامع البيان للطبري (24/ 547).
[2] / في صفة الصلاة (2/ 435).
[3] / التسهيل لعلوم التنزيل (1/ 453).
[4] / نيل الأوطار (2/ 267).
[5] / تفسير الطبري (24/ 547).
[6] / فتح البيان في مقاصد القرآن (12/ 232).