
وقد أُمروا أن يكفروا به
بسم الله الرحمن الرحيم
وقد أُمروا أن يكفروا به
جمعة 21/ 10 / 2022م بمسجد السلام بالطائف 22
مهران ماهر عثمان
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛
فعنوان خطبتنا هذه جزء من آية في كتاب الله: ﴿وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ﴾، وردت هذه الجملة في آيات اشتملت على شيء من صفات المنافقين، قال الله في التعجيب من حالهم وكفرهم: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 60- 65].
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾
الرؤيا في هذه الآية قلبية، والمراد: ألم تعلم بحال هؤلاء الذين يزعمون أنهم مؤمنون وليسوا بمؤمنين، قال تعالى: ﴿وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ﴾ [التوبة: 56]. وقال: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ [المنافقون: 1].
﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ﴾.
سبب نزولها:
وقعت خصومة بين جماعة من المنافقين، فأرشدهم المؤمنون إلى أن يتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهبوا إلى كاهن من الكهان، وكل من تحاكم إلى غير الكتاب السنة فقد تحاكم إلى الطاغوت.
﴿وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ﴾.
وقد أمروا أن يكفروا بالطاغوت.
أمروا أن يكفروا بكلِّ دستور غيرِ مستمَّد من كتاب الله.
من كل اتفاقية تعارض ما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
﴿وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾.
الشرك. قال الواحدي رحمه الله: “﴿ويريد الشيطان أن يضلَّهم ضلالاً بعيداً﴾، لا يرجعون عنه إلى دين الله أبداً، وهذا تعجيب للنبي صلى الله عليه وسلم مِن جهل مَن يعدل عن حكم الله إلى حكم الطَّاغوت مع زعمه بأنَّه يؤمن بالله ورسوله” [الوجيز للواحدي، ص:271].
وقد قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ [النساء: 116].
وقال تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى:21].
ومعنى ذلك: ألهؤلاء المشركين بالله شركاء في شركهم وضلالتهم، ابتدعوا لهم من الدين والشرك ما لم يأذن به الله؟ فمن تابع أحداً في تشريع يعارض به تشريع الله فقد أشرك بالله تعالى.
وقال تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: 121].
ومعنى الآية: ولا تأكلوا -أيها المسلمون- مما لم يذكر اسم الله عليه، سواء ذكر عليه اسم غيره أو لا أن الأكل منه لخروج عن طاعة الله إلى معصيته، وإن الشياطين ليوسوسون إلى أوليائهم بإلقاء الشبه ليجادلوكم في أكل الميتة؛ يقولون: تأكلون ما ذبحتموه ولا تأكلون ما قتله الله! وإن أطعتموهم -أيها المسلمون- فيما يلقونه من الشبه -لإباحة الميتة- كنتم أنتم وهم سواء في الشرك.
فمن تابع من بدَّل ما شرع الله بتشريع آخر فهو مشرك، فكيف بالمشرِّع والمبدِّل!؟
وعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: «يَا عَدِيُّ اطْرَحْ هَذَا الْوَثَنَ مِنْ عُنُقِكَ»، فَطَرَحْتُهُ فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ بَرَاءَةَ فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: «﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾»، [التوبة: 31] حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا، فَقُلْتُ: إنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ، فَقَالَ: «أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللهُ فَتُحَرِّمُونُهُ، ويُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَتَسْتَحِلُّونَهُ؟» قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: «فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ» رواه الترمذي والطبراني.
فمن الشرك: أن تشرع مادة في القانون تخالف بها حكم الله، ومن الشرك طاعة أحد فيما فيه مخالفة لله تعالى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “والإنسان متى حلَّل الحرام المجمَع عليه، أو حرَّم الحلالَ المجمَع عليه، أو بدَّل الشرعَ المجمَع عليه، كان كافرًا مرتدًّا باتِّفاق الفقهاء” [مجموع الفتاوى: 3/ 267].
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا﴾.
وإذا قيل لهؤلاء المنافقين: تعالوا إلى ما أنزل الله في كتابه من الحكم، وإلى الرسول ليحكم بينكم في خصامكم، رأيتهم – أيها الرسول – يُعرضون عنك إلى التحاكم إلى غيرك إعراضًا تامًّا.
﴿فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا﴾.
فكيف يكون حال المنافقين إذا حدثت لهم مصائب بسبب ما ارتكبوه من الذنوب، ثم جاؤوك أيها الرسول معتذرين إليك يحلفون بالله: ما قصدنا بتحاكمنا إلى غيرك إلا الإحسان والتوفيق بين المتنازعين؟! وهم كاذبون في ذلك، فإن الإحسان هو في تحكيم شرع الله على عباده.
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا﴾.
أولئك الذين يعلم الله ما يضمرون في قلوبهم من النفاق والقصد الرديء، فاتركهم أيها الرسول وأعرض عنهم، وبيِّن لهم حكم الله مرغِّبًا ومرهِّبًا وقل لهم قولًا بالغًا بلوغًا شديدًا متغلغلًا في نفوسهم.
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾.
وما أرسلنا من رسول إلا لأجل أن يُطاع، فطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم من طاعة الله، قال ربنا: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله﴾ [النساء: 80].
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾.
ولو أنهم حين ظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي جاؤوك في حياتك مُقِرِّين بما ارتكبوه نادمين تائبين، وطلبوا المغفرة من الله، وطلبتَ المغفرة لهم، لوجدوا الله توابًا عليهم رحيمًا بهم.
﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
شهد الله على كفر من تحاكم إلى الطاغوت.
إلى أن ﴿يحكّموك﴾، يتحاكمون إليك كما قال القنوجيُّ.
قال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله في رسالة تحكيم القوانين: “ولم يكتف تعالى وتقدس منهم بمجرد التحكيم للرسول صلى الله عليه وسلم، حتى يضيفوا إلى ذلك عدم وجود شيء من الحرج في نفوسهم، بقوله جل شأنه: ﴿ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ﴾. والحرج: الضيق. بل لا بدّ من اتساع صدورهم لذلك وسلامتها من القلق والاضطراب. ولم يكتف تعالى أيضا هنا بهذين الأمرين، حتى يضموا إليهما التسليم: وهو كمال الانقياد لحكمه صلى الله عليه وسلم، بحيث يتخلّون هاهنا من أي تعلق للنفس بهذا الشيء، ويسلموا ذلك إلى الحكم الحق أتمّ تسليم، ولهذا أكّد ذلك بالمصدر المؤكّد، وهو قوله جلّ شأنه: ﴿تسليمًا﴾، المبيّن أنه لا يُكتفى هاهنا بالتسليم، بل لا بدّ من التسليم المطلق”.
ويؤكد الله في موضع آخرَ من القرآن على أنَّ التحاكم إلى غير شرع الله دأب المنافقين، قال رب العالمين: ﴿وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [النور: 47-51].
رب صل وسلم على نبينا محمد.
بسم الله الرحمن الرحيم
وقد أُمروا أن يكفروا به
جمعة 27/ 10 / 2022م بمسجد السلام بالطائف 22
مهران ماهر عثمان
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛
فهذه هي الخطبة الثانية المكملة للخطبة الماضية، وقد اخترت أن يكون عنوانهما: ﴿وقد أمروا أن يكفروا به﴾.
وقد تناولت في الخطبة الماضية آياتٍ بيَّن فيها ربنا صفاتِ أخبث عباده! وهم المنافقون، وكان الحديث عن أخبث صفاتهم؛ أنهم لا يصدرون عما أنزل الله، ولهم رغبة ملحَّة أكيدة في التحاكم إلى الطاغوت، وقد سبق تعريف الطاغوت في الجمعة الماضية.
وعدت أن يكون حديثنا في هذه الجمعة عن مشروع دستور انتقالي لقيطٍ، وحُقَّ لي أن أسميه باللقيط، قال ابن منظور في لسان العرب: “أَما الصَّبِيُّ الْمَنْبُوذُ يَجِده إِنسان فَهُوَ اللقِيطُ عِنْدَ الْعَرَبِ” [لسان العرب 7/ 392]، فاللقيط الطفل الذي لا أصل له، ولما كان الأصل التي تُستمدُّ منه القوانين شرعيتها وقدسيَّتها عند المسلمين: الكتاب والسنة، وهذا المشروع خِلوٌ من تلك المرجعية، كان من المناسب أن يسمَّى باللقيط.
المؤاخذات على الدستور اللقيط.
وهذه بعض الملاحظات عليه:
(1)
لكني أبدأ قبل ذكر سلبياته بشيء يُمدح به واضعوا هذا الدستور، شيء واحد يمدحون به، أبدأ به لأكون منصفاً:
لقد أحسن كاتبو وواضعو هذا الدستور صنعاً إذ جعلوا مشروعهم هذا خالياً من بسم الله الرحمن الرحيم!!
لقد أكرم الله اسمه أن يذكر في مشروع دستور لقيط!
هذا ما لم يجرؤ عليه المشركون الذين يعبدون الأوثان.
في صحيح البخاري، في يوم الحديبية، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي وهو يملي عليه بنود الاتفاق بينهما: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»، قَالَ سُهَيْل بن عمرو: أَمَّا الرَّحْمَنُ، فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا هُوَ وَلَكِنِ اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ، فَقَالَ المُسْلِمُونَ: وَاللَّهِ لاَ نَكْتُبُهَا إِلَّا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ».
والحمد لله الذي أكرم اسمه أن يذكر في مشروع دستور لقيط!! ولو كتبوا بسم الله الرحمن الرحيم لكان حالهم كحال من يرفع كأس الخمر إلى فيه، ثم يقول: بسم الله اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وزدنا مما وهبتنا!! أو كحال من يطرق عاهرةً ليلاً ويقول قبل أن يفعل معها ما يسخط الله ربَّهما: بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا!!
(2)
لم يذكر لقيطهم للدولة ديناً!!
وهذا ما قلته في خطبة يوم التروية في العام 1440هـ -وكان عنوان خطبتنا: الوثيقة الدستورية في ميزان الشرع، قلت يومها: لم تنص الوثيقة على أن الإسلام هو الدين الرئيس للدولة! تعليقي: أكثر من في بلادنا مسلمون، فليس من اللائق أن تكون الوثيقة خِلواً من الإشارة إلى هذا!
ألستم تقدسون الديمقراطية – أخاطب أصحاب المشروع اللقيط- ألستم تقولون بها! والله لو صوَّت الشعب وخيروا فلن يختار أن يحكمهم إلا شرع الله! وهم يعلمون ذلك لذلك لن يلجؤوا إلى انتخابات نزيهة أبداً.
بلاد أكثر أهلها مسلمون وتريدون أن تحكموها بدين العالمانية وتذرون دينهم دين الإسلام، وقد بينت كثيرا أن العالمانية دين! ألم يقل الله: ﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ﴾ [يوسف: 76]؟
(3)
خلا الدستور من ذكر اللغة الرسمية للدولة.
وقد سلكوا سبيل واضعي الوثيقة الدستورية في ذلك أيضاً.
(4)
إقرار الدولة المدنية وهي في حقيقتها الدولة العلمانية.
إذ ينص الدستور على الحياد تجاه الأديان مساوياً بين الإسلام والوثنية والنصرانية والإلحاد.
نص المادة 3 الفقرة 3 من الكتاب اللقيط: (الدولة السودانية دولة مدنية، تقف عىل مسافة واحدة من كل الأديان وكريم المعتقدات).
ولابد من وقفتين مع هذه المادة الكفرية:
الأولى:
المعتقدات الكريمة هي المعتقدات الإسلامية، وكل معتقد ينافي العقيدة الإسلامية فليس معتقدا كريما بل هو خبيث. فعلى سبيل المثال: اعتقاد أنَّ لله ولداً، تسمية هذا المعتقد بالمعتقد الكريم كفر بما أنزل الله. قال تعالى: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا﴾ [مريم: 88 – 92].
الثانية:
الدولة المدنية هنا هي الدولة العالمانية، وواضعو ومشيعو هذا المصطلح كـ: خليل عبد الكريم، وعبد المنعم المشاط، أوضحوا أن المراد من الدولة المدنية: “دولة لا تخلط بين السياسة والدين”.
وأطال الدكتور سامي العامري النفس في بيان ذلك في كتابه الماتع: “العالمانية طاعون العصر”.
ولذا نجد السبسي يقول في مقطع متداول منتشر وهو يدافع عن قانون المساواة في الميراث: “تونس دولة مدنية، ولذلك نحن لسنا ملزمين باتباع الشريعة”! وهذا كفر خالٍ من النفاق، وهو ليس كغيره من الذين خلطوا كفرهم بنفاقٍ!!
(5)
جعلوا المرجعية العليا الحاكمة لجميع التشريعات هي وثيقة حقوق الإنسان الدولية!
فهي عندهم أعلى من الشريعة الإسلامية!
جاء في نص المادة 7 فقرة 5:
(تنطبق وثيقة الحقوق على جميع القوانين، وهي ملزمة للسلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية وجميع أجهزة الدولة).
(6)
نص المادة 8 بند 3
(تلتزم الدولة في خلال 6 شهور تبدأ من التوقيع على هذا الدستور بالقيام بمراجعة كافة القوانين السارية في البلاد وإلغاء أو تعديل كل ما يتعارض مع الحقوق والحريات الواردة فيها).
بناءً على ماذا؟ بناء على ما في الكتاب والسنة أم على ما تقتضيه الدولة المدنية العالمانية غيرُ الدينية؟!
(7)
المادة 13 بند 1
تحمي الدولة حقوق المرأة كما وردت في العهود والاتفاقيات والإعلانات الدولية والإقليمية ذات الصلة.
ويدخل في ذلك سيداو الذي لا يشك مسلم في أنها كفر بواح، وقد تناولتها بالحديث في عهدين سابقين، في عهد الإنقاذ في 8 يونيو 2018م، وفي عهد قحط في 25 أكتوبر 2019م
وفي المادة 13 بند 4
إلغاء كافة القوانين والتدابير التي تميز ضد المرأة.
وهذا أول ما يراد منه: التأكيد على اتفاقية سيداو، (اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة ) والتي تُعرف اختصاراً باتفاقية “سيداوCEDAW”، الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1979م.
مادة 14
تحمي الدولة حقوق الطفل كما وردت في العهود والاتفاقيات الدولية والإقليمية التي صادق عليها السودان!
وفي ثلاث خطب سابقة لي بعنوان: حقوق الطفل بين النصِّ الشرعي والميثاق الإفريقي كانت الأولى منها في 4 ديسمبر 2020م، وكان سبب تلك السلسلة: موافقةَ مجلس الوزراء على سحب تحفظات سابقة على الميثاق الإفريقي المتعلق بحقوق الطفل، بينت وجوه مصادمة الاتفاقية لديننا.
أهتم بنقلين ماتعين لعلمائنا وأئمتنا:
نقلان ماتعان!
وتأمل ما قاله ابن كثير رحمه الله في تأويله لهذه الآية: ﴿أَفَحُكمَ الجاهليةِ يَبْغونَ ومَنْ أحسنُ مِن اللهِ حُكمًا لِقومٍ يُوقِنون﴾[المائدة/50]: “ينكر اللهُ على من خرج من حكم الله المُحْكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شرّ، وعَدَلَ إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتارُ من السياسات الملكية المأخوذة عن مَلِكهم “جنكيز خان” الذي وضع لهم كتابًا مجموعًا من أحكامٍ قد اقتبسها من شرائع شتى، من اليهودية، والنصرانية، والملة الإسلامية، وغيرها وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بَنيهِ شرعا مُتّبعا يقدِّمونها على الحكم بكتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن فعل ذلك فهو كافرٌ يجب قتاله حتى يرجعَ إلى حكم الله ورسوله، فلا يُحَكِّم سواه في قليل ولا كثير. قال تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الجاهليةِ يَبْغون﴾، أي: يبتغون ويريدون، وعن حكم الله يعدلون، ﴿ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يوقِنونَ﴾، أي: ومن أعدل من الله في حكمه، لِمَن عَقَل عن الله شرعَه وآمن به وأيقن، وعلِم أنّ الله أحكمُ الحاكمين، وأرحمُ بخلقه من الوالدة بولدها، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء” [تفسير ابن كثير 3/131].
وقال الشيخ الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان (4/83) “إن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله عز وجل على ألسنة رسله صلى الله عليهم وسلم أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته وأعماه عن نور الوحي مثلهم”.
رب صل وسلم على نبينا محمد.

