مقالات

دروس غزوة الأحزاب

بسم الله الرحمن الرحيم

دروس غزوة الأحزاب

ثلاث خطب: 7و 14و 28 نوفمبر 2025م

مسجد الهداية بحي الصفا- دنقلا

مهران ماهر عثمان

 

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛ فما أعظم غزوة الأحزاب! وما أكثر دروسها التي ينبغي أن يُذكر المسلم بها! وما أشد الحاجة اليوم إلى تلك الدروس في وقت فرضت علينا معركة الكرامة، ولذا كان التذكير بها في هذه الأيام من الأهمية بمكان.

ومن هذه الدروس:

 

1/ كل بلية فاليهود من ورائها، وكل فتنة لابد أن يكون لهم سهم فيها!

ما هو سبب غزوة الأحزاب؟

“خرج عشرون رجلا من زعماء اليهود وسادات بني النضير إلى قريش بمكة، يحرضونهم على غزو الرسول صلى الله عليه وسلم، ويوالونهم عليه، ووعدوهم من أنفسهم بالنـصر  لهم، فأجابتهم قريش، وقريش قد أخلفت وعدها في الخروج إلى بدر، فرأت في ذلك إنقاذ سمعتها والبر بكلمتها.

ثم خرج هذا الوفد إلى غطفان، فدعاهم إلى ما دعا إليه قريشا، فاستجابوا لذلك، ثم طاف الوفد في قبائل العرب يدعوهم إلى ذلك، فاستجاب له من استجاب، وهكذا نجح ساسة اليهود وقادتهم في تأليب أحزاب الكفر على النبيّ صلى الله عليه وسلم ودعوته والمسلمين” [الرحيق المختوم، ص: 275].

واليهود وراء معركة الكرامة..

فإعادة تقسية العالم الإسلامي، وتمزيق الممزق على أسس عرقية إثنية، واستمرار الفتن والقتال بين أبنائه، يحقق الحلم الكبير للصهاينة([1])، وهو قيام دولتهم من الفرات إلى النيل.

ففي سفر التكوين 15:18

“قطع الرب مع أبرام ميثاقاً قائلاً: لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر، إلى نهر الفرات”.

ولا يخفى استخدام الحركات الصهوينة لخطين أزرقين في شعاراتها أن المراد بهما: النيل والفرات.

وقد تكرر في خطابات النتن ياهو لعنه الله أنه يحمل رسالة روحانية تتوارثها الأجيال، وأنه يعمل لتحقيق حلم دولة إسرائيل الكبرى، وخطاباته منشورة على اليوتيوب.

 

2/ اجتماع أهل الباطل للعدوان على أهل الحق مما يجب أن يحمل أهل الحق على أن يجتمعوا لدفعهم.

شاركت في الأحزاب قريش، وبنو سُلَيْم، وبنو فَزارَة، وبنو مُرَّة، وبنو أشْجَع، وبنو أسَد.

قال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 71].

فاجتمع الصحابة جميعا لرد العدوان.

وقال الله تعالى: ﴿وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ [الأنفال : 73].

ومعنى الآية: أن الكفار ينصر بعضهم بعضاً، ونحن إذا لم تحل هذه النصـرة بيننا ساد الفساد، قال ابن كثير رحمه الله: ([2])  “أي: إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين، وإلا وقعت الفتنة في الناس، وهو التباس الأمر، واختلاط المؤمن بالكافر، فيقع بين الناس فساد منتشـر طويل عريض”.

فلابد من العمل على أن تتماسك جبهتنا الداخلية، وعلى نبذ الخلافات، وهذا من أسباب النصر على هؤلاء الأوباش.

 

3/ مهما ساءت الظروف عند العدوان فلا ينبغي أن تمنع من ردِّه وإعلان الجهاد لدفعه.

جرت غزوة الأحزاب في ظروف سيئة قاسى فيها الصحابة من شدة الجوع والبرد.

قال أبو طلحة: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع فرفعنا عن بطوننا عن حجر حجر، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حجرين، وكان هذا في الأحزاب.

ولم يثنهم ذلك عن القيام بحق الله تعالى ورفع راية الجهاد.

وهؤلاء الأوباش في بداية هذه الحرب شردوا الآلاف من بيوتهم، فقد الناس وظائفهم وأعمالهم، ونزوحوا إلى أماكن بعيدة تاركين بيوتهم وبضائعهم، والله قادر على أن يعوض الجميع من واسع فضله، والمطلوب منا: أن نقتدي بالصحابة رضي الله عنهم، فسوء الحال التي كانوا عليها لم تمنعهم من رد عدوان المعتدين.

وأذكر ها هنا حديث جابر رضي الله عنه وأرضاه في الصحيحين: قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: لَمَّا حُفِرَ الْخَنْدَقُ رَأَيْتُ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمَصًا([3])، فَانْكَفَأْتُ([4]) إِلَى امْرَأَتِي، فَقُلْتُ لَهَا: هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ؟ فَإِنِّي رَأَيْتُ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمَصًا شَدِيدًا، فَأَخْرَجَتْ لِي جِرَابًا فِيهِ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ، وَلَنَا بُهَيْمَةٌ دَاجِنٌ([5])، قَالَ: فَذَبَحْتُهَا وَطَحَنَتْ، فَفَرَغَتْ إِلَى فَرَاغِي([6])، فَقَطَّعْتُهَا فِي بُرْمَتِهَا([7])، ثُمَّ وَلَّيْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: لَا تَفْضَحْنِي بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ، قَالَ: فَجِئْتُهُ فَسَارَرْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا قَدْ ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا، وَطَحَنَتْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ كَانَ عِنْدَنَا، فَتَعَالَ أَنْتَ فِي نَفَرٍ مَعَكَ، فَصَاحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ، إِنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ لَكُمْ سُورًا فَحَيَّ هَلًا بِكُمْ»، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُنْزِلُنَّ بُرْمَتَكُمْ، وَلَا تَخْبِزُنَّ عَجِينَتَكُمْ حَتَّى أَجِيءَ»، [فلقيت من الحياء ما لا يعلمه إلا الله عز وجل] فَجِئْتُ وَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْدَمُ النَّاسَ حَتَّى جِئْتُ امْرَأَتِي، فَقَالَتْ: بِكَ وَبِكَ([8])، فَقُلْتُ: قَدْ فَعَلْتُ الَّذِي قُلْتِ لِي، فَأَخْرَجْتُ لَهُ عَجِينَتَنَا فَبَصَقَ فِيهَا وَبَارَكَ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى بُرْمَتِنَا فَبَصَقَ فِيهَا وَبَارَكَ، ثُمَّ قَالَ: «ادْعِي خَابِزَةً فَلْتَخْبِزْ مَعَكِ، وَاقْدَحِي مِنْ بُرْمَتِكُمْ وَلَا تُنْزِلُوهَا» وَهُمْ أَلْفٌ، فَأُقْسِمُ بِاللهِ لَأَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ وَانْحَرَفُوا، وَإِنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ كَمَا هِيَ، وَإِنَّ عَجِينَتَنَا – أَوْ كَمَا قَالَ الضَّحَّاكُ: – لَتُخْبَزُ كَمَا هُوَ.

 

4/ الصحابة جميعهم شاركوا في غزوة الأحزاب

لم يتخلف منهم أحد، قال أنس رضي الله عنه: خَرَجَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الخَنْدَقِ، فَإِذَا المُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ فِي غَدَاةٍ بَارِدَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَبِيدٌ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ لَهُمْ، فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنَ النَّصَبِ وَالجُوعِ، قَالَ: «اللهمَّ إِنَّ العَيْشَ عَيْشُ الآخِرَهْ، فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالمُهَاجِرَهْ»، فَقَالُوا مُجِيبِينَ لَهُ:

نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا … عَلَى الجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا

وعهد إلى كل عشرة من الصحابة أن يحفروا أربعين ذراعاً.

رواه الشيخان.

وفي صحيح مسلم، قال أَبُو السَّائِبِ، مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ: دَخَلتُ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي بَيْتِهِ، قَالَ: فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي، فَجَلَسْتُ أَنْتَظِرُهُ حَتَّى يَقْضِيَ صَلَاتَهُ، فَسَمِعْتُ تَحْرِيكًا فِي عَرَاجِينَ فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا حَيَّةٌ فَوَثَبْتُ لِأَقْتُلَهَا، فَأَشَارَ إِلَيَّ أَنِ اجْلِسْ فَجَلَسْتُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَشَارَ إِلَى بَيْتٍ فِي الدَّارِ، فَقَالَ: أَتَرَى هَذَا الْبَيْتَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: كَانَ فِيهِ فَتًى مِنَّا حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ، قَالَ: فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْخَنْدَقِ فَكَانَ ذَلِكَ الْفَتَى يَسْتَأْذِنُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْصَافِ النَّهَارِ فَيَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ، فَاسْتَأْذَنَهُ يَوْمًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُذْ عَلَيْكَ سِلَاحَكَ، فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْكَ قُرَيْظَةَ، فَأَخَذَ الرَّجُلُ سِلَاحَهُ، ثُمَّ رَجَعَ فَإِذَا امْرَأَتُهُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ قَائِمَةً فَأَهْوَى إِلَيْهَا الرُّمْحَ لِيَطْعُنَهَا بِهِ وَأَصَابَتْهُ غَيْرَةٌ، فَقَالَتْ لَهُ: اكْفُفْ عَلَيْكَ رُمْحَكَ وَادْخُلِ الْبَيْتَ حَتَّى تَنْظُرَ مَا الَّذِي أَخْرَجَنِي، فَدَخَلَ فَإِذَا بِحَيَّةٍ عَظِيمَةٍ مُنْطَوِيَةٍ عَلَى الْفِرَاشِ فَأَهْوَى إِلَيْهَا بِالرُّمْحِ فَانْتَظَمَهَا بِهِ، ثُمَّ خَرَجَ فَرَكَزَهُ فِي الدَّارِ فَاضْطَرَبَتْ عَلَيْهِ، فَمَا يُدْرَى أَيُّهُمَا كَانَ أَسْرَعَ مَوْتًا الْحَيَّةُ أَمِ الْفَتَى، قَالَ: فَجِئْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ وَقُلْنَا ادْعُ اللهَ يُحْيِيهِ لَنَا فَقَالَ: «اسْتَغْفِرُوا لِصَاحِبِكُمْ» ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُمْ شَيْئًا، فَآذِنُوهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ([9])، فَإِنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَاقْتُلُوهُ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ».

فهذا شاب حديث عهد بعُرس ومع ذلك لم يأذن له النبي صلى الله عليه وسلم في أن يتخلف عن العمل مع الصحابة.

فلابد أن يكون لكل واحد منا دور في هذه المعركة..

فإما أن يشارك بنفسه، أو يبعث ولده، أو يدعم بماله، أو يحرض على قتال الأوباش فيجاهد بلسانه، أو يكون له سهم في ميدان الإعلام، فالميادين في هذه المعركة كبيرة وكثيرة، فلابد أن يكون لكل واحد منا سهمٌ في ميدان منها أو في أكثر من ذلك.

وإن من الخيانة ألَّا يكون لأحدنا سهم في ميادين هذه المعركة.

 

5/ المؤمنون في كل بلية يزدادون إيماناً، بخلاف المنافقين الذين يُفضحون بالمصائب ويتكلمون بما كانوا يكتمون من الكفر بالله!

وهذا ما تعلموه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ففي مسند أحمد، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ، قَالَ: وَعَرَضَ لَنَا صَخْرَةٌ فِي مَكَانٍ مِنَ الخَنْدَقِ، لَا تَأْخُذُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ، قَالَ: فَشَكَوْهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ عَوْفٌ:، وَأَحْسِبُهُ قَالَ: وَضَعَ ثَوْبَهُ ثُمَّ هَبَطَ  إِلَى الصَّخْرَةِ، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ فَقَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ» فَضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ، وَقَالَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ مِنْ مَكَانِي هَذَا» . ثُمَّ قَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ» وَضَرَبَ أُخْرَى فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ فَقَالَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ الْمَدَائِنَ، وَأُبْصِرُ قَصْرَهَا الْأَبْيَضَ مِنْ مَكَانِي هَذَا» ثُمَّ قَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ» وَضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى فَقَلَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ فَقَالَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي هَذَا».

لم تفتح اليمن إلا بعد ذاك اليوم بثلاث سنوات، وكان فتح الشام في عهد الصديق رضي الله عنه، وحملت كنوز كسرى إلا المدينة من المدائن في عهد الفاروق رضي الله عنه، ﴿وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ [الأحزاب: 22].

قال تعالى عن المؤمنين الذين استقر هذا الدس في قلوبهم: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ﴾ [الأحزاب: 22].

“قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: يَعْنُونَ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ الله أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ﴾ [الْبَقَرَةِ: 214].

أَيْ: هَذَا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ مِنَ الِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ وَالِامْتِحَانِ الَّذِي يَعْقُبُهُ النَّصْرُ الْقَرِيبُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ﴾” [تفسير القرآن العظيم: 6/ 391].

وقال ربنا: ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾ [الأحزاب: 12].

إلا غروراً: إلا باطلًا لا أساس له.

كانوا يقولون: “كَانَ مُحَمَّدٌ يَعِدُنا أَنْ نَأْكُلَ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَـرَ، وَأَحَدُنَا لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَذْهَبَ إِلَى الْغَائِطِ” [تفسير القرآن العظيم: 6/ 388].

وهذا يذكرنا بموقف الصديق رضي الله عنه الذي رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا قَالَتْ: ” لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أَصْبَحَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَارْتَدَّ نَاسٌ فَمَنْ كَانَ آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَسَمِعُوا بِذَلِكَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ الله عَنْهُ، فَقَالُوا: هَلْ لَكَ إِلَى صَاحِبِكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَ: أَوَ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: لَئِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ، قَالُوا: أَوَ تُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنِّي لَأَصُدِّقُهُ فِيمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ فِي غَدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ، فَلِذَلِكَ سُمَيَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقَ”.

وإنك إذا قلَّبت النظر في أقوال منافقي الأمس فلن تسمع اليوم من قاذورات قحت إلا ما يشبه تلك الأقوال التي نطق بها أسلافهم!

 

6/ من أعظم أسباب النصر: الدعاء

ففي الصحيحين أن رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا يَوْمَ الأَحْزَابِ عَلَى المُشْرِكِينَ، فَقَالَ: «اللهمَّ مُنْزِلَ الكِتَابِ، سَرِيعَ الحِسَابِ، اللهمَّ اهْزِمِ الأَحْزَابَ، اللهمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ».

فالنصر يستنزل بالدعاء، في صحيح مسلم: نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ يوم بدر وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: «اللهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ»، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ، مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ، فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾.

وفي صفة الصفوة([10]) “كان محمد بن واسع مع قتيبة بن مسلم في جيش، وكان صاحب خراسان، وكانت الترك خرجت إليهم فبعث إلى المسجد ينظر من فيه؟ فقيل له ليس فيه إلا محمد بن واسع رافعاً إصبعه، فقال قتيبة: إصبعه تلك أحب إليَّ من ثلاثين ألف عنان([11]).

فلا ينبغي أبدا الغفلة عن هذا، ولا تركُ قنوت النازلة، أجزل الله المثوبة لكل محافظ عليه في هذه الأيام.

 

7/ لا مجد  ولا كرامة إلا بدفع العدو وجهاده

قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ [البقرة: 251].

وقال: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 39، 40].

وقال: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا﴾ [النساء: 75].

وفي سنن أبي داود، عنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ».

 

8/ تعلمنا الأحزاب أن الأمن من أجل نعم الله.

في مسند أحمد، عن أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قال: قُلْنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ مِنْ شَيْءٍ نَقُولُهُ؟ فَقَدْ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ، قَالَ: «نَعَمْ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا، وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا» ، قَالَ: «فَضَرَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وُجُوهَ أَعْدَائِهِ بِالرِّيحِ، فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالرِّيحِ».

قولهم: هل من شيء نقوله؟ أي: في حالة الشدة الشديدة.

وقولهم: فقد بلغت القلوب الحناجر: كناية عن بلوغ الأمر في الشدة غايتها.

والعورة: كل ما يُسوء صاحبُه أن يُرى منه.

والرَّوْع بمعنى الفزع والخوف.

وإنما علمهم هذا الدعاء ليسكن خوفهم، فعدم الأمن من الشقاء الذي لا أسوأ منه.

ويسن قول هذا الدعاء عند الخوف من العدو؛ لئلا يستبيح الأعراض، ولئلا يستمر الخوف منه.

 

9/ تعلمنا الأحزاب أن الدنيا لا قيمة لها عند الله تعالى

ففي الصحيحين، قال أنس رضي الله عنه: خَرَجَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الخَنْدَقِ، فَإِذَا المُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ فِي غَدَاةٍ بَارِدَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَبِيدٌ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ لَهُمْ، فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنَ النَّصَبِ وَالجُوعِ، قَالَ: «اللهمَّ إِنَّ العَيْشَ عَيْشُ الآخِرَهْ، فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالمُهَاجِرَهْ»، فَقَالُوا مُجِيبِينَ لَهُ:

نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا … عَلَى الجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا

فأكرم الناس على الله جاعوا فيها، وهذا يدل على أنها لا قيمة لها عند الله.

أكرم ثلاثة على الله أخرجهم الجوع من بيوتهم، خلت ديارهم من لقمة خبز!!

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ – أَوْ لَيْلَةٍ – فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالَ: «مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ؟» قَالَا: الْجُوعُ يَا رَسُولَ اللهِ،، قَالَ: «وَأَنَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا، قُومُوا»، فَقَامُوا مَعَهُ، فَأَتَى رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَإِذَا هُوَ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ، قَالَتْ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيْنَ فُلَانٌ؟» قَالَتْ: ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مِنَ الْمَاءِ، إِذْ جَاءَ الْأَنْصَارِيُّ، فَنَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ مَا أَحَدٌ الْيَوْمَ أَكْرَمَ أَضْيَافًا مِنِّي، قَالَ: فَانْطَلَقَ، فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ، فَقَالَ: كُلُوا مِنْ هَذِهِ، وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكَ، وَالْحَلُوبَ»، فَذَبَحَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا مِنَ الشَّاةِ وَمِنْ ذَلِكَ الْعِذْقِ وَشَرِبُوا، فَلَمَّا أَنْ شَبِعُوا وَرَوُوا، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الْجُوعُ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ».

وفي مسلم أيضاً، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِالسُّوقِ، دَاخِلًا مِنْ بَعْضِ الْعَالِيَةِ، وَالنَّاسُ كَنَفَتَهُ، فَمَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ، فَتَنَاوَلَهُ فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟» فَقَالُوا: مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ، وَمَا نَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: «أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ؟» قَالُوا: وَاللهِ لَوْ كَانَ حَيًّا، كَانَ عَيْبًا فِيهِ، لِأَنَّهُ أَسَكُّ، فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ؟ فَقَالَ: «فَوَاللهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ، مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ».

 

10/ تعلمنا الأحزاب مشروعية الدعاء على المشركين، وأهمية المحافظة على الصلوات التي افترضهن الله على العباد.

قال علي رضي الله عنه: كُنَّا مع النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَومَ الخَنْدَقِ، فَقَالَ: «مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وبُيُوتَهُمْ نَارًا، كما شَغَلُونَا عن صَلَاةِ الوُسْطَى حتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ». وهي صَلَاةُ العَصْرِ. رواه مسلم.

ففيه الدعاء على المشركين.

وفي الصحيحين أنه قنت يدعو عليهم حين يَفْرُغُ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَيُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ»، ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ: «اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ كَسِنِي يُوسُفَ، اللَّهُمَّ الْعَنْ لِحْيَانَ وَرِعْلًا وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ عَصَتْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ». قال أبو هريرة رضي الله عنه: ثُمَّ بَلَغَنَا أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ لَمَّا أُنْزِلَ ﴿لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾.

وفي مسند أحمد دعا في قنوته بعد أحد: «اللَّهُمَّ قَاتِلْ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ عَلَيْهِمْ رِجْزَكَ وَعَذَابَكَ، اللَّهُمَّ قَاتِلْ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَهَ الْحَقِّ».

وفي قنوت الصحابة في النصف الثاني من رمضان: “وكانوا يلعنون الكفرة في النصف: اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك ولا يؤمنون بوعدك وخالف بين كلمتهم وألق في قلوبهم الرعب وألق عليهم رجزك وعذابك إله الحق” رواه ابن خزيمة في صحيحه.

قال ابن حجر رحمه الله: “كان صلى الله عليه وسلم تارة يدعو عليهم وتارة يدعو لهم فالحالة الأولى حيث تشتد شوكتهم ويكثر أذاهم كما تقدم في الأحاديث التي قبل هذا بباب والحالة الثانية حيث تؤمن غائلتهم ويرجى تألفهم” [الفتح 6/ 108].

وانظر إلى هذا العذر الذي من أجله فاتت صلاة العصر على نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه:

أخذ المشركون يبحثون عن مكان يستطيعون منه أن يعبروا الخندق، فانشغل الصحابة برميهم لئلا يفلحوا في ذلك، ففاتتهم صلاة العصر، فغضب نبينا صلى الله ودعا عليهم، فكيف يفرط مسلم عاقل في صلاته ويخرجها عن وقتها بدون سبب سوى الغفلة واتباع الهوى، والله يقول: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ [الماعون: 4، 5].

 

11/ تعلمنا الأحزاب أن الله مسبب الأسباب، وأنه على كل شيء قدير

غطفان التي أشعلت نار هذه الحرب مع قريش واليهود، أسلم منهم رجل واحد أيام الأحزاب، فكان سببا في نصر المسلمين.

نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي رضي الله عنه، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني ما شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنت رجل واحد، فخذل عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة([12])» فذهب من فوره إلى بني قريظة- وكان عشيرا لهم في الجاهلية- فدخل عليهم وقال: قد عرفتم ودي إياكم، وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت. قال: فإن قريشا ليسوا مثلكم، البلد بلدكم فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون أن تتحولوا منه إلى غيره، وإن قريشا وغطفان قد جاؤوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فإن أصابوا فرصة انتهزوها، وإلا لحقوا ببلادهم وتركوكم ومحمدا فانتقم منكم، قالوا فما العمل يا نعيم؟ قال: لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن. قالوا: لقد أشرت بالرأي.

ثم مضى نعيم على وجهه إلى قريش، وقال لهم: تعلمون ودي لكم ونصحي لكم؟ قالوا: نعم، قال: إن يهود قد ندموا على ما كان منهم من نقض عهد محمد وأصحابه، وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه، ثم يوالونه عليكم، فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم، ثم ذهب إلى غطفان، فقال لهم مثل ذلك.

فلما كان ليلة السبت من شوال سنة 5 هـ بعثوا إلى يهود: إنا لسنا بأرض مقام، وقد هلك الكراع والخف، فانهضوا بنا حتى نناجز محمدا، فأرسل إليهم اليهود إن اليوم يوم السبت، وقد علمتم ما أصاب من قبلنا حين أحدثوا فيه، ومع هذا فإنا لا نقاتل معكم حتى تبعثوا إلينا رهائن. فلما جاءتهم رسلهم بذلك قالت قريش وغطفان: صدقكم والله نعيم، فبعثوا إلى يهود: إنا والله لا نرسل إليكم أحدا، فاخرجوا معنا حتى نناجز محمدا.

فقالت قريظة: صدقكم والله نعيم. فتخاذل الفريقان، ودبت الفرقة بين صفوفهم، وخارت عزائمهم.

وبعدها حمل إليه حذيفة البشارة بعزم الأحزاب على الرجوع.

 

12/ تعلمنا الأحزاب ألا نستسلم لعدونا وألا نضعف في قتاله

بعدما نقضت قريظة العهد أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصالح عيينة بن حصن والحارث بن عوف رئيسي غطفان على ثلث ثمار المدينة؛ حتى ينصرفا بقومهما، ويخلو المسلمون لإلحاق الهزيمة الساحقة العاجلة على فاستشار السعدين (سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، رضي الله عنهما) في ذلك، فقالا: يا رسول الله إن كان الله أمرك بهذا فسمعا وطاعة، وإن كان شيء تصنعه لنا فلا حاجة لنا فيه، لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على انسرك بالله وعبادة الأوثان، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرى أو بيعا، فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له، وأعزنا بك نعطيهم أموالنا؟ والله لا نعطيهم إلا السيف، فصوّب رأيهما وقال: «إنما هو شيء أصنعه لكم، لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة» .

 

13/ لا نصر ولا تمكين إلا بعد بلاء واختبار

الحق منصور، ولكن لابد أن يسبق بابتلاء وتمحيص، سنة الله، ولن تجد لها تبديلاً.

ابتلي المؤمنون في الأحزاب بما أخبر به ربنا في كتابه، ﴿ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا﴾ [الأحزاب: 9 – 11].

عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ حُذَيْفَةَ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَوْ أَدْرَكْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاتَلْتُ مَعَهُ وَأَبْلَيْتُ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَنْتَ كُنْتَ تَفْعَلُ ذَلِكَ؟ لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْأَحْزَابِ، وَأَخَذَتْنَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ وَقُرٌّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ اللهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟» فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَ: «أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ اللهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟» فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَ: «أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ اللهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟»، فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ، فَقَالَ: «قُمْ يَا حُذَيْفَةُ، فَأْتِنَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ»، فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا إِذْ دَعَانِي بِاسْمِي أَنْ أَقُومَ، قَالَ: «اذْهَبْ فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ، وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ»، فَلَمَّا وَلَّيْتُ مِنْ عِنْدِهِ جَعَلْتُ كَأَنَّمَا أَمْشِي فِي حَمَّامٍ حَتَّى أَتَيْتُهُمْ، فَرَأَيْتُ أَبَا سُفْيَانَ يَصْلِي ظَهْرَهُ بِالنَّارِ، فَوَضَعْتُ سَهْمًا فِي كَبِدِ الْقَوْسِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْمِيَهُ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ»، وَلَوْ رَمَيْتُهُ لَأَصَبْتُهُ فَرَجَعْتُ وَأَنَا أَمْشِي فِي مِثْلِ الْحَمَّامِ، فَلَمَّا أَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِ الْقَوْمِ، وَفَرَغْتُ قُرِرْتُ، فَأَلْبَسَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فَضْلِ عَبَاءَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِ يُصَلِّي فِيهَا، فَلَمْ أَزَلْ نَائِمًا حَتَّى أَصْبَحْتُ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ قَالَ: «قُمْ يَا نَوْمَانُ» رواه مسلم.

فلابد أن يسبق النصر تفجُّرُ دماء، وكثير بلاء، وجهاد واستشهاد، وأسر وبتر، وتضحيات ونكبات.

وبعد هذا البلاء كان النصر والتمكين.

فبعد أن أجلى الله الأحزاب قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم» رواه البخاري.

فالواجب علينا الصبر والدعاء.

﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ [آل عمران: 126].

﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: 10].

اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين..

 

[1] / الصهيونية حركة سياسية قومية يهودية تأسست على يد تيودور هرتزل في 1897م دعت إلى تجميع اليهود من أنحاء العالم في فلسطين لتأسيس دولة يهودية.

[2] / التفسير (4/98).

[3] / ضامر البطن من الجوع.

[4] / رجعت.

[5] / بهيمة: الصغيرة من أولاد الضأن والماعز، والداجن ما ألف البيوت.

[6] / فرغت امرأتي من طحن الشعير مع فراغي من ذبح البهيمة.

[7] / البرمة: القدر.

[8] / اسمها: سهيلة بنت مسعود، أي: فعل بك كذا وكذا، فلما أعلمها سكن ما عندها، ثم قالت: الله ورسوله أعلم، وهذا يدل على وفور عقلها، وكمال فهمها رضي الله عنها.

[9] / “قال مالك يكفى أن يقول أُحَرِّج عليك بالله واليوم الآخر أن لاتبدو لَنَا وَلَا تُؤْذِيَنَا” [شرح النووي على مسلم: 14/ 230].

[10] / (2/ 158).

[11] / “الْعِنَانُ لِلْفَرَسِ وَجَمْعُهُ أَعِنَّةٌ” [مختار الصحاح، ص: 220].

[12] / في سنن ابن ماجه بشرح السندي (2/ 945) “قال الدميري: خَدْعَةٌ بفتح الخاء للمرة، أي أن الحرب ينقضي أمرها بخدعة واحدة”.

 

شارك المحتوى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *