مقالات

مواقف الغضب النبوي

بسم الله الرحمن الرحيم

مواقف الغضب النبوي

خطب:  15 و 22 و29/ 10 / 2021م

مسجد السلام بالطائف (22)

مهران ماهر عثمان

الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان، أما بعد؛

فأسوق في هذه الورقات بعض المواقف التي غضب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لنحذر من كل عمل كان يُغْضِبُه.

أهمية التعرف على ما أغضب النبيَّ صلى الله عليه وسلم

كان َبَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وبين ربيعة الأسلمي رضي الله عنهما كَلَامٌ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ كَلِمَةً كَرِهَهَا وَنَدِمَ، فَقَالَ: يَا رَبِيعَةُ رُدَّ عَلَيَّ مِثْلَهَا حَتَّى تَكُونَ قِصَاصًا. قَالَ: لَا أَفْعَلُ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَتَقُولَنَّ أَوْ لَأَسْتَعْدِيَنَّ عَلَيْكَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم. فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، فَانْطَلَقَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قال ربيعة: وَانْطَلَقْتُ أَتْلُوهُ، فَجَاءَ نَاسٌ مِنْ أَسْلَمَ فَقَالُوا لِي: رَحِمَ الله أَبَا بَكْرٍ، فِي أَيِّ شَيْءٍ يَسْتَعْدِي عَلَيْكَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ قَالَ لَكَ مَا قَالَ؟ فَقُلْتُ: أَتَدْرُونَ مَا هَذَا؟ هَذَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، هَذَا ثَانِيَ اثْنَيْنِ، وَهَذَا ذُو شَيْبَةِ الْمُسْلِمِينَ، إِيَّاكُمْ، لَا يَلْتَفِتُ فَيَرَاكُمْ تَنْصُرُونِي عَلَيْهِ؛ فَيَغْضَبَ، فَيَأْتِيَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَيَغْضَبَ لِغَضَبِهِ، فَيَغْضَبَ الله عَزَّ وَجَلَّ لِغَضَبِهِمَا، فَيُهْلِكَ رَبِيعَةَ. قَالُوا: مَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: ارْجِعُوا. قَالَ: فَانْطَلَقَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَتَبِعْتُهُ وَحْدِي حَتَّى أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَحَدَّثَهُ الْحَدِيثَ كَمَا كَانَ، فَرَفَعَ إِلَيَّ رَأْسَهُ فَقَالَ: «يَا رَبِيعَةُ، مَا لَكَ وَلِلصِّدِّيقِ»؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله كَانَ كَذَا كَانَ كَذَا، قَالَ لِي كَلِمَةً كَرِهَهَا، فَقَالَ لِي: قُلْ كَمَا قُلْتُ؛ حَتَّى يَكُونَ قِصَاصًا، فَأَبَيْتُ. فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم :«أَجَلْ، فَلَا تَرُدَّ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ قُلْ: غَفَرَ الله لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ». فَقُلْتُ: غَفَرَ الله لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، قَالَ الْحَسَنُ: فَوَلَّى أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه وَهُوَ يَبْكِي. رواه أحمد.

والشاهد في قصتنا هذه قول ربيعة: “فَيَغْضَبَ الله عَزَّ وَجَلَّ لِغَضَبِهِمَا”، فسخط الله في سخط نبيه صلى الله عليه وسلم.

ومن الأدلة على أن ما يغضب رسول الله يغضب الله أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يغضب لنفسه، وإنما يغضب لله، إذا انتهكت حرمات الله تعالى، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: “ما خير النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يأثم، فإذا كان الإثم كان أبعدهما منه، والله ما انتقم لنفسه في شيء يؤتى إليه قط حتى تنتهك حرمات الله فينتقم لله” متفق عليه.

وإن كل مسلم يؤمن بالله تعالى لابد أن يحذر مما يغضب الله؛ فإن الله قال في موضعين في آل عمران: ﴿وَیُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفسَه ﴾ [آل عمران 28 و30]. قال النَّسَفِي رحمه الله: “﴿وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ﴾، أي: ذاته، فلا تتعرضوا لسخطه بموالاة أعدائه وهذا وعيد شديد” [مدارك التنزيل 1/ 248].

وقال سبحانه: ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾ [الزخرف: 55]، قال البغوي رحمه الله: “﴿فَلَمَّا آسَفُونَا﴾ أَغْضَبُونَا” [معالم التنزيل 7/ 218]. فغضب الله قد يفضي إلى نزول العذاب في الدنيا والآخرة.

وسيأتي معنا أن بعض الصحابة رضي الله عنهم تعوذوا من غضب الله وغضب نبيه صلى الله عليه وسلم بقولهم: “وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله” رواه البيهقي، وحُقَّ لهم ذلك.

مواقف الغضب النبوي

1/ الإساءة إلى أصحابه

كان صلى الله عليه وسلم يغضب إذا أُغضب أبو بكر رضي الله عنه، قال أبو الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه: كَانَتْ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مُحَاوَرَةٌ، فَأَغْضَبَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ، فَانْصَرَفَ عَنْهُ عُمَرُ مُغْضَبًا، فَاتَّبَعَهُ أَبُو بَكْرٍ يَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ، حَتَّى أَغْلَقَ بَابَهُ فِي وَجْهِهِ، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم -قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: -وَنَحْنُ عِنْدَهُ -فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أَمَّا صَاحِبُكُمْ هَذَا فَقَدْ غَامَرَ»، أي: خاصم أحداً. وَنَدِمَ عُمَرُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، فَأَقْبَلَ حَتَّى سَلَّمَ، وَجَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَصَّ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم الْخَبَرَ. قَالَ أَبُو الدَّرْدَاء:ِ وَغَضِبَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَقُولُ: وَالله يَا رَسُولَ الله لَأَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ. فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي؟ هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي؟ إِنِّي قُلْتُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقْتَ»  رواه البخاري.

والأثر المسلكي الذي يترتب على ذلك: ألا نذكر الصديق إلا بالخير، فإن الإساءة إليه تغضب الله سبحانه.

وفي ظلال الجنة لابن أبي عاصم: لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى تبوك خلَّف علي بن أبي طالب، فأتاه بالجرف يحمل سلاحه، فقال: يا رسول الله أتخلفني بعدك ولم أتخلف عنك قط؟! فولى مدبرا، فاغرورقت عيناه، فلما عاد النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا رسول الله إن المنافقين يزعمون أنك إنما خلفتني استثقالا لي! فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ حتى رؤي في وجهه، فقال: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبي بعدي».

ورواية الصحيحين: قال سَعْد بْن أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه: خَلَّفَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله تُخَلِّفُنِي فِي النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؟! فَقَالَ: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى غَيْرَ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي».

2/ الظلم

والظلم ظلمات يوم القيامة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يغضب إذا مرَّ بموقف ظلمٍ.

قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي بِالسَّوْطِ، فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ خَلْفِي: «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ»، فَلَمْ أَفْهَمْ الصَّوْتَ مِنْ الْغَضَبِ. فَلَمَّا دَنَا مِنِّي إِذَا هُوَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا هُوَ يَقُولُ: «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ». قَالَ: فَأَلْقَيْتُ السَّوْطَ مِنْ يَدِي، فَقَالَ: «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أَنَّ الله أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلَامِ». فَقُلْتُ: لَا أَضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا. رواه مسلم.

وهذا الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لو تذكره الأقوياء الذين يبغون على الضعفاء لكان أقوى زاجر لهم عن بغيهم وظلمهم؛ أنَّ الله أقدر عليهم ممن وقعوا في ظلمهم، فمن تذكر قدرة الله عليه لم يبغ على غيره.

وغضَبُ نبينا صلى الله عليه وسلم ليس خاصاً بظلم المسلم، بل غضِب لما وقع الظلم على يهود خيبر، ففي سنن أبي داود، عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: نزلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم خيبر ومعه من معه من أصحابه، وكان صاحب خيبر رجلاً مارداً منكراً، فأقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، ألكم أن تذبحوا حمرنا وتأكلوا ثمرنا وتضربوا نساءنا؟! فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «يا ابن عوف، اركب فرسك ثم ناد: ألا إن الجنة لا تحل إلا لمؤمن، وأن اجتمعوا للصلاة». قال: فاجتمعوا، ثم صلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قام فقال: «أيحسب أحدكم متكئا على أريكته قد يظن أن الله لم يحرم شيئاً إلا ما في هذا القرآن؟! ألا وإني والله قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن أو أكثر، وإن الله عز وجل لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن، ولا ضرب نسائهم، ولا أكل ثمارهم؛ إذا أعطوكم الذي عليهم».

وفي الحديث: أن السنة صنو القرآن، وأن ما حرَّم رسول الله مثلُ ما حرم الله تعالى، وفيه ذمُّ الركون إلى الدنيا، وأن السنة تأتي بما لم يأت القرآن به.

3/ الإساءة إليه صلى الله عليه وسلم ورميه بالظلم

ولم يكن ذلك الغضب لنفسه، بل لله الذي بعثه، فالقدح فيه قدح في الله الذي اختاره.

ثبت عَنْ عَبْدِ الله بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قَسْمًا، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّهَا لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ الله. قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَارَرْتُهُ، فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ غَضَبًا شَدِيدًا وَاحْمَرَّ وَجْهُهُ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَذْكُرْهُ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: «رَحِمَ اللهُ أَخِي مُوْسَى، قَدْ أَوُذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ» رواه الشيخان في صحيحيهما.

فما أجمل السلوى في هذا الحديث! وما أعظم مَن تُسلِّي به!!

4/ الاعتداء على المال العام

فقد روى البخاري ومسلم عن أبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ رضي الله عنه قَالَ: اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ بَنِي أَسْدٍ عَلَى صَدَقَةٍ، يقال له: ابن اللُّتْبِيَّة، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي. فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَأْتِي يَقُولُ: هَذَا لَكَ وَهَذَا لِي، فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لا؟! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا يَأْتِي بِشَيْءٍ إِلا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ: أَلا هَلْ بَلَّغْتُ-ثَلاثًا-».

وفي رواية صححها الألباني في غاية المرام: “… هذا لكم وهذا لي هدية، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم”.

وفي صحيح البخاري: “اسْتَعْمَلَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ الْأَسْدِ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ يُدْعَى ابْنَ اللُّتْبِيَّة، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ”. وهو يدل على أن من الأمانة محاسبة الحاكم لولاته، أما أن يعتقد الحاكم أنه ليس مسؤولاً عن فساد وزرائه وعماله فهذا سفهُ عقلٍ!

وهذا الحديث يبين أن هدايا العمال غلول، وأن أخذ ذلك من الفساد وخيانة الأمانة.

وفيه أن ضابط الهدية وما يفصل بينها وبين الرشوة: أنه لو جلس في بيته فأُهديت إليه كانت هدية، وإلا فهي رشوة؛ لكونها لمنصبه لا لشخصه.

5/ منع الزكاة وعدم إخراجها

في السنن الكبرى للبيهقي، بعث النبي صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق ليأخذ منهم الصدقات، ولما أتاهم الخبر فرحوا وخرجوا ليتلقوا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحُدِّث الوليد أنهم خرجوا ليمنعوه الزكاة، ولم يتبين الوليد من صحة الخبر، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن بني المصطلق قد منعوا الصدقة. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا. فبينما هو يحدث نفسه أن يغزوهم إذ أتاه الوفد فقالوا: يا رسول الله إنا حدثنا أن رسولك رجع من نصف الطريق، وإنا خشينا أن يكون إنما رده كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله، فأنزل الله عذرهم في الكتاب: ﴿يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين﴾ [الحجرات: 6].

ولعلك تنبهت إلى أن المقصود بالآية الذي نقل الخبر إلى الوليد.

ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم من الغيب إلا القدر الذي أطلعه الله عليه خفي ذلك عنه.

6/ اتهام المؤمن لأخيه بما ليس فيه

فعن عائشة رضي الله عنها أنه اعتل بعير لصفية بنت حيي وعند زينب فضل ظهر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لزينب: «أعطيها بعيراً». فقالت: أنا أعطي تلك اليهودية! فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهجرها ذا الحجة والمحرم وبعض صفر. رواه أبو داود.

وصفية من أمهات المؤمنين، وليست يهوديةً، فلما رُميت بما هي بريئة منه غضب النبي صلى الله عليه وسلم.

وعن علي رضي الله عنه قال : خرج عبدان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني الحديبية قبل الصلح فكتب إليه مواليهم قالوا: يا محمد والله ما خرجوا إليك رغبة في دينك وإنما خرجوا هربا من الرق. فقال ناس: صدقوا يا رسول الله ردهم إليهم. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا». وأبى أن يردهم وقال: «هم عتقاء الله» رواه أبو داود.

وقد دلَّت السنة على أنَّ مَن رمى أخاه بما هو بريء منه فإنه يُحبس في النار، ويدخل إلى جوفه ردغة الخبال، ويُطالب بإقامة دليل على التهمة التي رماه بها، ففي سنن أبي داود، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «مَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ أَسْكَنَهُ اللَّهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ».

ومعنى الرَّدْغةُ: الوَحْلُ الكَثيرُ، والخَبالُ: الفاسِدُ، والمرادُ: أنَّ اللهَ يُعذِّبُه بِعُصارةِ أهلِ النَّارِ وصَديدِهم، ومعنى: يخرج مما قال: “ما لم يخرج من إثم ما قال” [مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 6/ 2367]، وذلك بأن يتوب ويستحل ممن رماه ظلماً.

7/ كان يغضب إذا شَقَّ أحدٌ على أمته

روى مسلم عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنى لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل بنا. فما رأيت النبى صلى الله عليه وسلم غضب فى موعظة قط أشد مما غضب يومئذ فقال: «يا أيها الناس إنَّ منكم منفرين، فأيكم أم الناس فليوجز؛ فإن من ورائه الكبير، والضعيف، وذا الحاجة».

هذا غضبه ممن شق على الناس فأطال الصلاة بهم! فكيف غضبه على من ولي أمرهم فأضاع الأمانة وأحال عيشهم إلى بؤس وسوء وعنت؟!!

ولا ينبغي فهم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير مراده! فهذا من اتباع الهوى، فالذي يبين مراده من قوله فعلُه، فالتطويل الذي ذم صاحبَه هو المخالف للسنة، أما التطويل الذي يتبع به الإمام النبي صلى الله عليه وسلم فهذا هو الرفق والرحمة والخير.

8/ التنطع في الدين

عن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو واقف على الباب-: يا رسول الله إني أصبح جنبا وأنا أريد الصيام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأنا أصبح جنبا وأنا أريد الصيام، فأغتسل وأصوم». فقال الرجل: يا رسول الله إنك لست مثلنا؛ قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتبع» رواه أحمد.

وأخرج مسلم أن نبينا صلى لله عليه وسلم رخص في أمر، فتنزه عنه ناس من الناس، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فغضب حتى بان الغضب في وجهه، ثم قال: «ما بال أقوام يرغبون عما رخص لي فيه؟! فوالله لأنا أعلمهم بالله وأشدهم له خشية».

وفرق كبير بين التمسك بالسنة الذي أمرت النصوص به، وبين التشبث بما لم يأذن به الله، فهذا تنطع يمقت الله عليه.

9/ فهم نصوص الوحيين فهما خاطئاً

ففي مسند أحمد، عن أبي عامر الأشعري رضي الله عنه قال: كَانَ رَجُلٌ قُتِلَ مِنْهُمْ بِأَوْطَاسٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا عَامِرٍ أَلَا غَيَّرْتَ»؟ فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «أَيْنَ ذَهَبْتُمْ؟ إِنَّمَا هِيَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ مِنْ الْكُفَّارِ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ». وهذه قراءةٌ تفسيرية للآية.

وقد قال الصديق رضي الله عنه: “يا أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها: ﴿عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم﴾” رواه أبو داود.

10/ المحاباة

عن عائشة رضي الله عنها أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد -حب رسول الله صلى الله عليه وسلم-؟ فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أتشفع في حد من حدود الله»؟ ثم قام فاختطب، ثم قال: «إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة ابنة محمد سرقت لقطعت يدها» متفق عليه.

إذا سرق فيهم الوزير الكبير والمسؤول الرفيع في الحزب الحاكم مليارات ستروه، وإذا سرق غيره جنيهات فضحوه وجعلوا منه كبش فداء!

11/ الخصومة في القدر

في المعجم الكبير للطبراني، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عَلَى بَابِ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَتَذَاكَرُ، يَنْزِعُ هَذَا بِآيَةٍ ويَنْزِعُ هَذَا بِآيَةٍ، فَخَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّمَا تَفَقَّأَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ، فَقَالَ: «يَا هَؤُلاءِ أَبِهَذَا بُعِثْتُمْ؟ أَمْ بِهَذَا أُمِرْتُمْ»؟

وفي سنن ابن ماجه، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ يَخْتَصِمُونَ فِي الْقَدَرِ، فَكَأَنَّمَا يُفْقَأُ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ مِنْ الْغَضَبِ، فَقَالَ: «بِهَذَا أُمِرْتُمْ؟ أَوْ لِهَذَا خُلِقْتُمْ؟ تَضْرِبُونَ الْقُرْآنَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ!؟ بِهَذَا هَلَكَتْ الْأُمَمُ قَبْلَكُمْ».

ولا يخفى أن المراد الخوض فيه بدون نص، أما الحديث عنه بالحق فهذا هو الذي جاءت السنة به، وإلا ما معنى أن يذكره النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من أحاديثه!؟

12/ الشهادة لأحد بجنة أو نار

في مسند أحمد، عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ماتت فلانة واستراحت، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «إنما يستريح من غُفر له». ولا سبيل إلى التحقق من ذلك. وأهل السنة لا يشهدون لأحد بجنة ولا نار، وإنما يرجون للمحسن، ويخافون على المسيء، فلو مات زيدٌ من كثرة شرب الخمر لما صح أن يشهد له بالنار أحد، ولو مات على سجادة صلاته لكان من الضلال القطعُ بأنه في الجنة، فكل ذلك غيب لا يعلمه سوى ربنا سبحانه.

13/ البُصاق في المسجد

عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رأى نُخامةً في قِبْلةِ المسجدِ، فغضِب حتَّى احمَرَّ وجهُه، فجاءَتْه امرأةٌ مِن الأنصارِ فحكَّتْها، وجعَلَتْ مكانَها خَلُوقًا، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «ما أحسَنَ هذا!» رواه النسائي وابن ماجه، وهو في السلسلة الصحيحة.

والخلوق نوع من الطيب.

14/ وجود التصاوير في البيت

لحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت:  قَدِمَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن سَفَرٍ، وقدْ سَتَرْتُ بقِرَامٍ لي علَى سَهْوَةٍ لي فِيهَا تَمَاثِيلُ، فَلَمَّا رَآهُ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هَتَكَهُ وقالَ: أشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَومَ القِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهُونَ بخَلْقِ اللَّهِ قالَتْ: فَجَعَلْنَاهُ وِسَادَةً أوْ وِسَادَتَيْنِ.

والقرام ثوب: سترت به سهوةً، والسهوة شيء يوضع فيه متاع البيت وما يُحتاج إليه، فسترته بقرام فيه صور. قالَتْ أمُّ المُؤمِنينَ عائِشةُ رَضِيَ اللهُ عنها: “فَجَعَلناهُ وِسادةً أو وِسادَتَينِ” أي: مِخَدَّةً أو مِخَدَّتَينِ، وقد فَهِمَت أمُّ المُؤمِنينَ عائشةُ رَضِيَ اللهُ عنها من إنكارِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للصُّوَرِ في السِّترِ أنَّ ذلك لَمَّا كان منصوبًا ومعلَّقًا، وليس ما امتُهِنَ بالجُلوسِ على والارتِفاقِ، فلذلك صنَعَت منه وسادةً.

15/ المفاضلة بين الأنبياء إذا أدت إلى فتنة

عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه قال: بينما يهوديٌّ يعرض سلعة له أعطي بها شيئا، كرهه أو لم يرضه، قال: لا: والذي اصطفى موسى عليه السَّلام على البشر، فسمعه رجل من الأنصار فلطم وجهه، قال: تقول: والذي اصطفى موسى عليه السَّلام على البشر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا؟ قال: فذهب اليهوديُّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أبا القاسم، إنَّ لي ذمَّةً وعهدًا، وقال: فلان لطم وجهي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم لطمت وجهه»؟ قال: قال يا رسول الله: والذي اصطفى موسى عليه السَّلام على البشر، وأنت بين أظهرنا؛ قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتَّى عُرف الغَضَب في وجهه، ثمَّ قال: «لا تفضِّلوا بين أنبياء الله، فإنَّه ينفخ في الصُّور، فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلَّا من شاء الله، ثمَّ ينفخ فيه أخرى، فأكون في أوَّل من بعث، فإذا موسى عليه السَّلام آخذ بالعرش، فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطُّور، أو بُعث قبلي، ولا أقول: إنَّ أحدًا أفضل من يونس بن متَّى عليه السَّلام» رواه الشيخان.

ولا ريبَ أنَّ الله تعالى فضَّل الأنبياء بعضهم على بعض، فالمفاضلة التي أغضبت النبي صلى الله عليه وسلم ما قادت إلى فتنة وشر، أو ما كانت بلا دليل، قال تعالى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ [البقرة: 253].

16/ عدم الرضا بحكم الشرع

عن عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما أنه حدثه: أن رجلًا من الأنصار خاصَم الزبيرَ عند النبي صلى الله عليه وسلم في شِراج الحَرَّة التي يسقون بها النخل، فقال الأنصاري: سرِّحِ الماء يمر، فأبى عليه، فاختصما عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير: «اسقِ يا زبيرُ، ثم أرسل الماء إلى جارك». فغضب الأنصاري، فقال: أَنْ كان ابنَ عمَّتِك؟! فتلوَّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «اسقِ يا زبيرُ، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر». فقال الزبير: والله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ﴾ [النساء: 65]؛ رواه البخاري ومسلم.

والحرة: الأرض المغطاة بالصخور السوداء، وشراجها: مَسيل الماء منها.

فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الزبير في أول الأمر أن يأخذ القَدْر المناسب من الماء الذي لا يموت الزرع به ثم يرسله، ولما قال الأنصاري ما قال أمر النبي صلى الله عليه وسلم الزبير أن يستوفيَ حَقَّه كاملاً.

17/ لبس الرجل للحرير

عن عليٍّ رضي الله عنه، قال: “أهدى إليَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم حلَّة سِيَراء فلبسُتها، فرأيت الغضب في وجهه، فشققتُها بين نسائي” رواه البخاري.

سِيَراء: ذات خطوط، يخالطها شيءٌ من الحرير.

نسائي: زوجته وأمه وبنت عمه حمزة وزوجة أخيه عَقيل رضي الله عنهم أجمعين.

18/ مشابهة المشركين

عن عبد الله بن عمرورضي الله عنهما أنه: أتى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوبان مُعصفران، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «اذهب فاطرحهما عنك» رواه أحمد وصححه أحمد.

ثوبان معصفران: مصبوغان بالعُصفُرِ، وهو: نَبتٌ يُصبَغُ به. وقد جاء في رواية لمسلم: «هذه ثِيابُ الكُفَّارِ، فلا تَلْبَسْها».

19/ الاختلاف بين الناس

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: سمعتُ رجلًا يقرأ آيةً على غيرِ ما أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذت بيده، فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «كلاكما قد أحسن»، وغضب حتى عُرف الغضب في وجهه، ثم قال: «لا تختلفوا؛ فإن مَن قبلكم اختلفوا فيه فهلَكوا» رواه أحمد.

والمراد أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأ ابن مسعود على وجه وأقرأ غيره على وجه آخر.

وغضب النبي صلى الله عليه وسلم للاختلاف الذي وقع بينهما؛ فالشريعة أمرت بما يجمع الناس، والاختلاف في القرآن يؤدي إلى التحريف والتبديل.

20/ الوصية  بالمال كله عند الموت وعدم إبقاء شيء للورثة

عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما: أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرَهُمْ، فَدَعَا بِهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَزَّأَهُمْ أَثْلَاثًا، ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ، وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً، وَقَالَ لَهُ قَوْلًا شَدِيدًا” رواه مسلم.

وعند النسائي: فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لَا أُصَلِّيَ عَلَيْهِ».

فهذا الرجل لم يكن له مال غيرُهم، فأجاز الثلث فأعتق بالقرعة اثنين وأبقى على أربعةٍ؛ لأن هبة المريض مرضا مخوفا لا تجوز إلا من ثلث تركته، وذلك باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة.

 

قال ابن عبد البر رحمه الله: “جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَجَمَاعَةُ أَئِمَّةِ الْفَتْوَى بِالْأَمْصَارِ فَقَالُوا هِبَةُ الْمَرِيضِ قُبِضَتْ أَوْ لَمْ تُقْبَضْ إِذَا مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي الثُّلُثِ كَالْوَصَايَا، وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُمَا” [الاستذكار 7/ 272].

وقد ثبت في الصحيحين، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أنه قَالَ: عَادَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ مِنْ مَرَضٍ أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى المَوْتِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَلَغَ بِي مِنَ الوَجَعِ مَا تَرَى، وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلاَ يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: «لاَ»، قَالَ: فَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ؟ قَالَ: «لا». قال: الثلث؟ قال: «الثُّلُثُ يَا سَعْدُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ ذُرِّيَّتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ».

ربِّ صلِّ وسلِّم على نبيِّنا محمَّد.

 

شارك المحتوى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *