
إغراق فرعون: الحدث والعبر
بسم الله الرحمن الرحيم
إغراق فرعون: الحدث والعبر
مهران ماهر عثمان
الحمدُ لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، ملء السماوات والأرض وما بينهما، وملء ما شاء ربنا من شيء بعد، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله صحبه أجمعين، أما بعد؛
فكثير من الأمم التي كانت على ظهر هذه الأرض، كان منهم العتوُّ والطغيان، فبعث الله إليهم رسله منذرين، فما أعرضوا جاءهم بأس ربهم، وصدق المرسلون، ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا﴾ [الأحزاب: 38]، ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب: 62].
ومن هؤلاء فرعون وقومه.
وهذه تأملات في قصة غرقه، وإشارات إلى فوائد ودروسٍ منها.
الحدث
قال تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ * فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ * فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [الشعراء 52- 68].
وخلاصة ما ذكره المفسرون([1]) “استأذن بنو إسرائيل فرعون في الخروج إلى عيد لهم، فأذن لهم وهو كاره، وكان في نفس الأمر مكيدة بفرعون وجنوده؛ ليتخلصوا منهم ويخرجوا عنهم.
فاستعاروا حلياً من قوم فرعون، فأعاروهم شيئا كثيرا، فخرجوا بليل فساروا مستمرين ذاهبين من فورهم، طالبين بلاد الشام.
فلما علم بذهابهم فرعون حنق عليهم كل الحنق، واشتد غضبه عليهم، وشرع في استحثاث جيشه وجمع جنوده ليلحقهم ويمحقهم. لما ركب فرعون في جنوده طالبا بني إسرائيل يقفو أثرهم كان في جيش كثيف عرمرم، حتى قيل كان في خيوله مائة ألف فحل أدهم، وكانت عدة جنوده تزيد على ألف ألف وستمائة ألف، فالله أعلم. وقيل إن بني إسرائيل كانوا نحواً من ستمائة ألف مقاتل غير الذرية.
والمقصود أن فرعون لحقهم بالجنود، فأدركهم عند شروق الشمس، وتراءى الجمعان، ولم يبق ثم ريب ولا لبس، وعاين كل من الفريقين صاحبه وتحققه ورآه، ولم تبق إلا المقاتلة.
فعندها قال أصحاب موسى وهم خائفون: ﴿ إنا لمدركون ﴾ فالبحر أمامهم، والجبال الشاهقة المنيفة عن أيمانهم وشمائلهم، وفرعون قد غالقهم وواجههم. فشكوا إلى نبي الله ما هم فيه مما قد شاهدوه وعاينوه، فقال لهم الرسول الصادق المصدوق: ﴿كلا إن معي ربي سيهدين ﴾ وكان في الساقة، فتقدم إلى المقدمة، ونظر إلى البحر وهو يتلاطم بأمواجه، ويتزايد زبد أجاجه، وهو يقول: ها هنا أمرت.
ومعه أخوه هارون، ويوشع ابن نون، وهو يومئذ من سادات بني إسرائيل وعلمائهم وعبادهم الكبار، وقد أوحى الله إليه وجعله نبيا بعد موسى وهرون عليهما السلام، ومؤمن آل فرعون جعل يقتحم بفرسه مراراً في البحر، هل يمكن سلوكه؟ فلا يمكن، ويقول لموسى عليه السلام: يا نبي الله هاهنا أمرت؟ فيقول: نعم.
فلما تفاقم الأمر وضاق الحال واشتد الأمر، واقترب فرعون وجنوده في جدهم وحدهم وحديدهم، وغضبهم وحنقهم، وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، عند ذلك أوحى الحليم العظيم القدير، رب العرش الكريم، إلى موسى الكليم: ﴿ أن اضرب بعصاك البحر﴾ فلما ضربها انفلق كما قال تعالى:﴿ فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ﴾.
وهكذا كان ماء البحر قائما مثل الجبال، مكفوفاً بالقدرة العظيمة الصادرة من الذي يقول للشيء كن فيكون، حتى صار يابساً لا يعلق في سنابك الخيول والدواب،قال الله تعالى: ﴿ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقاً في البحر يبسا * لا تخاف دركا ولا ﴾.
والمقصود أنه لما آل أمر البحر إلى هذه الحال، بإذن الرب العظيم الشديد المحال، أمر موسى عليه السلام أن يجوزه ببني إسرائيل، فانحدروا فيه مسرعين مستبشرين مبادرين، وقد شاهدوا من الأمر العظيم ما يحير الناظرين، ويهدى قلوب المؤمنين.
فلما جازوه وجاوزوه وخرج آخرهم منه، وانفصلوا عنه، كان ذلك عند قدوم أول جيش فرعون إليه، ووفودهم عليه.
فأراد موسى عليه السلام أن يضرب البحر بعصاه ليرجع كما كان عليه، لئلا يكون لفرعون وجنوده وصول إليه، ولا سبيل عليه، فأمره القدير ذو الجلال أن يترك البحر على هذه الحال، كما قال وهو الصادق في المقال: ﴿ واترك البحر رهواً إنهم جند مغرقون ﴾ أي: ساكناً على هيئته، لا تغيره عن هذه الصفة.
فلما تركه على هيئته وحاله وانتهى فرعون، فرأى ما رأى وعاين ما عاين، هاله هذا المنظر العظيم، وتحقق ما كان يتحققه قبل ذلك من أن هذا من فعل رب العرش الكريم، ولكن حملته النفس الكافرة والسجية الفاجرة على أن قال لمن استخفهم فأطاعوه، وعلى باطله تابعوه: انظروا كيف انحسر البحر لي لأدرك عبيدي الآبقين من يدي، الخارجين عن طاعتي وبلدي؟ فاقتحم، فلما رأته الجنود قد سلك البحر اقتحموا وراءه مسرعين، فحصلوا في البحر أجمعين أكتعين أبصعين، حتى هم أولهم بالخروج منه، فعند ذلك أمر الله تعالى كليمه فيما أوحاه إليه أن يضرب بعصاه البحر. فضربه فارتطم عليهم البحر كما كان، فلم ينج منهم إنسان.
قال الله تعالى: ﴿وأنجينا موسى ومن معه أجمعين * ثم أغرقنا الآخرين * إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين* وإن ربك لهو العزيز الرحيم﴾.
” أي في إنجائه أولياءه فلم يغرق منهم أحد، وإغراقه أعداءه فلم يخلص منهم أحد، آية عظيمة، وبرهان قاطع على قدرته تعالى العظيمة، وصدق رسوله فيما جاء به عن ربه من الشريعة الكريمة، والمناهج المستقيمة”.
وقال تعالى: ﴿حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين * الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين * فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية، وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون﴾.
العبر
1/ ﴿وكان ربك قديراً﴾
وتتجلى قدرة الله في مواضع:
- فقد صار الماء المائع السائل جامداً مكانه.
- ومعلوم أنّ قاع البحر طين لا يُمكِّن من المشي عليه، فلما انفلق ظهرت قدرة الله الذي أمره أن يصير يبساً ليُسلك.
ومن هذا الدرس تتفرع فائدتان:
الأولى: أن لا تلجأ إلا إلى الله الذي يملك كل شيء ويقدر على كل شيء.
الثانية: مهما عظمت حاجتك فعلقها بالله، فالله قدير، لا يتعاظمه شيء أعطاه، ولا تَعجز من إنفاق يداه. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلَا يَقُلْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، وَلَكِنْ لِيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ، وَلْيُعَظِّمْ الرَّغْبَةَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ أَعْطَاهُ» رواه الشيخان.
2/ أنّ الله يقدِّر الأمور بأسبابها.
كان بالإمكان أن يشق الله البحر بدون أن يضربه موسى عليه السلام، وإنما ضربه لحكمتين:
الأولى: لنعلم أنّ الأمور مقدرة بأسبابها.
الثانية: لإظهار مكانة موسى عليه السلام.
3/ الاعتصام بالله سبيل النجاة.
قال ربنا: ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ﴾ [الشعراء: 61 – 63].
لقد أحاط القنوط بمن خرج مع موسى عليه السلام، ولكن نبي الله امتلأ قلبه ثقةً بربه، فهل خيَّب الله ظنه؟! قال ربنا: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: 49]، وقال: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: 3].
وهذا حال الأنبياء جميعاً:
قال تعالى عن نوح عليه السلام: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ﴾ [يونس: 71].
وهود عليه السلام قال الله عنه: ﴿ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [هود 54- 56].
وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم يقول له صاحبه في الغار: يا نبي الله لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لرآنا، ﴿ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 40].
وعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ، قَالَ وَعَرَضَ لَنَا صَخْرَةٌ فِي مَكَانٍ مِنْ الخَنْدَقِ لَا تَأْخُذُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ فَشَكَوْهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ هَبَطَ إِلَى الصَّخْرَةِ فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ فَقَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ»، فَضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ، وَقَالَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ مِنْ مَكَانِي هَذَا»، ثُمَّ قَالَ:«بِسْمِ اللَّهِ»، وَضَرَبَ أُخْرَى، فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ، فَقَالَ:«اللَّهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ الْمَدَائِنَ وَأُبْصِرُ قَصْرَهَا الْأَبْيَضَ مِنْ مَكَانِي هَذَا »، ثُمَّ قَالَ:«بِسْمِ اللَّهِ »، وَضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى، فَقَلَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ فَقَالَ:«اللَّهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي هَذَا» رواه أحمد. يقول هذا وهو محاصر صلى الله عليه وسلم.
ومن جميل المعاني التي تُستخلص بالتدبُّر في آيات الله: ما جاء في قول ربنا: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ﴾ [الشعراء: 52]، فشرَّفهم الله بنسبته إليه، فما ضعف توكلهم، وتلاشت ثقتهم في ربهم قال بُعَيد ذلك: ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ [الشعراء: 61]، فنسبهم إلى موسى عليه السلام.
4/ أنَّ الأنبياء لا يعلو أحدٌ إلى رتبتهم، ولا يلحق بدرجتهم، مهما علا شأنه!
أتباع سيدنا موسى عليه السلام قالوا: ﴿إنا لمدركون﴾، فقال: ﴿كلا إنَّ معي ربي﴾.
والصِّدِّيق رضي الله عنه قال: “لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لرآنا”، فقال له نبينا عليه الصلاة والسلام: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما». قال تعالى: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: 124]
5/ أن مع العسر يسراً.
مهما طال أمد العسر فلابد أن يعقبه اليسر، ومهما أحدق الكرب واشتد الخطب فلابد أن يعقبه الفرج.
﴿فإن مع العسر يسراً * إن مع العسر يسراً﴾. لقد أوذي بنو إسرائيل حتى قالوا لموسى عليه السلام: ﴿أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 129]، فكان الفرج بعد الشدة، واليسر بعد العسر، والرخاء بعد البلاء، والأمن بعد الخوف.
وهذه تسلية لجميع إخواننا المنكوبين والمستضعفين، ولكل المأسورين.
قال تعالى: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ﴾ [الأعراف: 137].
6/ لا هادي لمن كُتب عليه الضلال.
قال تعالى: ﴿وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ﴾ [الإسراء: 97]، وقال: ﴿مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا﴾ [الكهف: 17].
يبصر فرعون آية شق البحر فيكذب بها قائلاً: انظروا كيف انحسر البحر لي لأدرك عبيدي الآبقين من يدي، الخارجين عن طاعتي وبلدي!! ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ﴾ [يونس: 96- 97].
في سنن الترمذي، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ».
7/ لا يقع شيء إلا بإذن ربِّنا.
﴿واترك البحر رهواً﴾، ضربه موسى عليه السلام بعدما تجاوزه، فلم يتغير شيء!
العصا هي العصا! والضارب له هو هو! لم يتغير؛ لأن الله لم يقدِّر ذلك، فالله مسبِّب الأسباب، يوجد آثارَها ويمنع من ذلك، فلا يكون شيء إلا بإرادته، لا رادَّ لقضائه، ولا معقِّب لحكمه.
فما شئتَ كان وإن لم أَشأْ
وما شئتُ إن لم تشأْ لم يكنْ.
8/ لا توبة لمن باشر سكرات الموت وشاهد العذاب:
قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾ [يونس: 90 – 92].
فلم لم تُقبل توبته؟ لأنه لم يتب في زمن المهلة.
قال ربنا: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [النساء: 18]، فلا تقبل التوبة في وقت سكرات الموت.
ولهذا علينا أن نحاسب أنفسنا ونتوب قبل أن يأتي علينا هذا الوقت الذي لا تقبل فيه التوبة.
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَمَّا أَغْرَقَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ قَالَ ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ﴾ فَقَالَ جِبْرِيلُ يَا مُحَمَّدُ فَلَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا آخُذُ مِنْ حَالِ الْبَحْرِ فَأَدُسُّهُ فِي فِيهِ مَخَافَةَ أَنْ تُدْرِكَهُ الرَّحْمَة» رواه أحمد.
9/ إنّ الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.
ماذا فعل فرعون؟ تأمل هذه الآيات التي تبين جدول أعماله وتلال كفرياته:
﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ﴾ [البقرة: 49].
﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ [الأعراف: 103].
﴿فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ﴾ [الأعراف: 131].
﴿فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾ [يونس: 83].
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا﴾ [الإسراء: 101].
﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ [طه: 24].
﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء: 23].
﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [القصص: 4].
﴿وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ﴾ [الزخرف: 51، 52].
فماذا كان مصيره؟
قال: إن الأنهار تجري من تحتي فأجرى الله البحر فوقه!
فهذه سنة الله في المكذبين السابقين:
﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [العنكبوت: 36، 40].
وكم من فرعون في هذا الزمان يفتك ويبطش بعباد الله أشد من بطش فرعون بني إسرائيل؟! ولكن عزاء كل مؤمن: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾ [إبراهيم: 42].
10/ لقد أُوذي بأكثرَ من ذلك فصبر!
بعد آية البحر التي رآها قوم موسى عليه السلام كان المتوقع أن يكون ذلك سبباً في توحيدهم والانقياد لنبيهم، لكنهم رأوا قوما يعكفون على أصنام لهم فقالوا: ﴿اجعل لنا إلهاً﴾؟ فأين الإله العظيم الذي أغرق عدوَّكم وكتب النجاة لكم؟!! صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله أخي موسى، لقد أُوذي بأكثرَ من هذا فصبر».
11/ عاشوراء فرصة لنغيِّر أنفسنا.
فقد تغيَّر فيه حال العصبة المؤمنة الذين خرجوا مع سيدنا موسى عليه السلام.
هذا اليوم الصالح الذي نحتسب فيه على الله أن يكفرَ لنا بفضله سيئات ماضية فرصة لنستأنف أياماً خالية مما تعودنا عليه من المعاصي والفجور، ومَن صدق الله صدقه الله.
هنئياً لمن جعل من هذا اليوم ميعاداً لإغراق ذنوبه وعوائده غير المرضية لربه وعجزه وكسله، واستعان بربه في تحقيق ذلك، فلا حولَ ولا قوةَ لنا إلا به.
ربِّ صلِّ وسلِّم على نبيِّنا محمَّد.
[1] / يُنظر: قصص الأنبياء لابن كثير (2/ 75- 88).

