فضائل الفقه والتفقه
بسم الله الرحمن الرحيم
فضائل الفقه والتفقُّه
ورقة مقدَّمة لمؤتمر:
الفقه في الدين: المكانة، والآثار، والمنهجية
الجهة المنظِّمة:
الرابطة العالمية لفقهاء الأمة
د. مهران ماهر عثمان
محاضر بالجامعات (سابقاً).
عضو رابطة علماء المسلمين.
عضو الرابطة العالمية لفقهاء الأمة.
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء ربنا من شيء بعد، أهلَ الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد – وكلنا لك عبد- اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد.
والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛
فعنوان ورقتي هذه: فضائل الفقه والتفقه.
فأقول مستعيناً بالله:
الفقه هو: العلم بالأحكام الشرعية العملية، المكتسب من أدلتها التفصيلية([1]).
والتفقه هو تعلُّم الفقه.
قال العلَّامة صدِّيق حسن خان رحمه الله: “والفقه في دين الله هو الفهم لكتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى اللهُ عليه وسلم، وكان الفقيه في سلف هذه الأمة من اتَّصف بفهمها”([2]).
والفرق بين الفقه والعلم أنَّ الفقه إدراكُ الأشياء الخفية، وأما العلم فهو إدراك الشيء على ما هو عليه، فإذا كان الشيء دقيقاً سمي فقهاً، فالفقه أخصُّ من العلم.
قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ﴾ [الأنعام: 97، 98].
فالذي يقرأ هاتين الآيتين يجد أنَّ الله تعالى لمـَّا تحدَّث عن النجوم والاهتداء بها ختم الآية بقوله: ﴿قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾، لأنه يتأتَّى للمرء بأدنى نظر أن يدرك ما فيها من جوانب العظمة، لكن لما تعلَّق الأمر بالنفس البشرية ختمت الآية بقوله: ﴿قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ﴾. قال العلامة صديق حسن خان رحمه الله: “ذكر سبحانه ها هنا ﴿يفقهون﴾، وفيما قبله ﴿يعلمون﴾؛ لأن في إنشاء الأنفس من نفس واحدة وجعلِ بعضِها مُستَقراً وبعضِها مستودَعاً من الغموض والدقَّة ما ليس في خلق النجوم للاهتداء، فناسبه ذكرُ الفقه؛ لإشعاره بمزيد تحقيق وإمعان فكر، وتدقيق نظر”([3]).
وهذا أوانُ الشروع في المقصود من هذه الورقة.
فضائل الفقه والتفقه
قبل أن أتحدث عن فضل الفقه في الدِّين أذكِّر نفسي وإخواني بآية وحديث قد اشتملا على فضل العلم؛ وقد سبق بيانُ العلاقة بينهما:
قال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [المجادلة: 11].
والمعنى: “يرفع الله مكانة المؤمنين منكم، ومكانةَ أهل العلم درجاتٍ كثيرةً في الثواب ومراتب الرضوان، والله تعالى خبير بأعمالكم لا يخفى عليه شيء منها، وهو مجازيكم عليها. وفي الآية تنويه بمكانة العلماء وفضلهم، ورفع درجاتهم”.
وأما الحديث فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن سلَك طريقًا يَطلب فيه علمًا، سلَك الله به طريقًا من طرق الجنَّة، وإنَّ الملائكة لَتضعُ أجنحتَها لطالب العلم رضًا بما يَصنع، وإنَّ العالِم ليَستغفر له مَن في السموات ومَن في الأرض، والحيتانُ في جوف الماء، وإنَّ فضلَ العالِم على العابِد كفضلِ القمر ليلة البَدر على سائر الكواكب، وإنَّ العلماء ورثَةُ الأنبياء، وإنَّ الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا؛ إنَّما ورَّثوا العلمَ، فمَن أخذه، أخذ بحظٍّ وافِر» رواه أحمد والأربعة إلا النسائيَّ.
وكلُّ نصٍّ جاء في فضل العلم فإن الفقه في الدين مرادٌ به.
وأما فضل الفقه والتفقه في الدين على جهة الخصوص:
فمن النصوص المشتملة على الحثِّ على ذلك:
قولُ ربنا تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: 122].
قال القرطبي رحمه الله: “فَلْيَخْرُجْ فَرِيقٌ مِنْهُمْ لِلْجِهَادِ وَلْيُقِمْ فَرِيقٌ يَتَفَقَّهُونَ فِي الدِّينِ وَيَحْفَظُونَ الْحَرِيمَ، حَتَّى إِذَا عَادَ النَّافِرُونَ أَعْلَمَهُمُ الْمُقِيمُونَ مَا تَعَلَّمُوهُ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ”([4]).
وقال الواحديُّ رحمه الله: “قال المفسرون: إذا رجعت السرايا وقد نزل بعدهم قرآن وتعلَّمه القاعدون، قالوا لهم إذا رجعوا: إن الله تعالى قد أنزل بعدكم على نبيكم قرآنًا، وقد تعلمناه، فتتعلم السرايا ما أَنزل الله على نبيهم بعدهم، فذلك قوله: ﴿وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ﴾، أي: وليعلموهم بالقرآن ويخوفوهم به، ﴿لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ ولا يعملون بخلافه”([5]).
ودلَّت السنة على أنَّ من أمارات أنَّ الله تعالى يريد الخير بعبده أن يفقِّهه في دينه.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث معاوية رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ».
هذا الحديث المبارك له منطوق ومفهوم، فمنطوقه ما قلته، ومفهومه: أنَّ مَنْ لَمْ يُفَقَّهْ فِي الدِّينِ، لَمْ يُرِدْ بِهِ اللَّهُ خَيْرًا.
والتنكير في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «خيراً»، للتعظيم.
وأعظم التفقه في الدين: التفقهُ في أسماء الله وصفاته -وهذا هو الفقه الأكبر-، والتفقه في معرفة الحلال والحرام والواجب، والتفقه في شرع الله ودينه؛ حتى يعبد الإنسان ربَّه على بصيرة.
وفي الحديث أنَّ الله هو الذي يفقه عباده، فمن صدق الله في طلب الفقه صدقه الله.
ومن هذه النصوص:
ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما، من حديث أبي موسى الأشعري رضي اللهُ عنه، أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ، أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً. فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ».
قال النووي رحمه الله: “مَعَانِي الْحَدِيثِ وَمَقْصُودُهُ: تَمْثِيلُ الْهُدَى الَّذِي جَاءَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْغَيْثِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْأَرْضَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ، وَكَذَلِكَ النَّاسُ، فَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنَ الْأَرْضِ يَنْتَفِعُ بِالْمَطَرِ، فَيَحْيَى بَعْدَ أَنْ كَانَ مَيْتًا، وَيُنْبِتُ الْكَلَأَ، فَتَنْتَفِعُ بِهَا النَّاسُ وَالدَّوَابُّ وَالزَّرْعُ وَغَيْرُهَا، وَكَذَا النَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنَ النَّاسِ، يَبْلُغُهُ الهدى وَالْعِلْمُ فَيَحْفَظُهُ، فَيَحْيَا قَلْبُهُ وَيَعْمَلُ بِهِ، وَيُعَلِّمُهُ غَيْرَهُ فَيَنْتَفِعُ وَيَنْفَعُ”([6]).
فدلَّ هذا الحديث على أنَّ أكثر من ينتفع بالهدى الذي جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم أهلُ الفقه في الدين، فإنهم يأخذون من النص الواحد كثيراً من الأحكام، فيُعملون ما في هذه النصوص من الأحكام، ويقومون بتبيلغها، فهؤلاء إذا لم يكونوا ممَّن يحفظ الله بهم دينَه، فمن غيرُهم؟!
ومن هذه النصوص:
حديث أبي أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ؟ قَالَ «أَكْرَمُهُمْ أَتْقَاهُمْ». قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ: «فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ، ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ، ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ، ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ» قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ: «فَعَنْ مَعَادِنِ العَرَبِ تَسْأَلُونِي» قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «خِيَارُكُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الإِسْلاَمِ إِذَا فَقُهُوا» متفق عليه.
قال النَّووي رحمه الله: “أَنَّ أَصْحَابَ الْمُرُوءَاتِ وَمَكَارِمِ الأخلاق في الجاهلية اذا أسلموا وفقُهوا فَهُمْ خِيَارُ النَّاسِ… وَفَقُهُوا بِضَمِّ الْقَافِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَحُكِيَ كَسْرُهَا، أَيْ: صَارُوا فُقَهَاءَ، عَالَمِينَ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفِقْهِيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ”([7]).
والفقه يمكِّن من الوصول إلى الثواب الكبير والأجر الجزيل بالعمل القليل.
ومما يدل لذلك:
ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ أَنَّهَا أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً وَلَمْ تَسْتَأْذِنِ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُهَا الَّذِي يَدُورُ عَلَيْهَا فِيهِ، قَالَتْ: أَشَعَرْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي أَعْتَقْتُ وَلِيدَتِي؟ قَالَ: «أَوَ فَعَلْتِ»؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: «أَمَا إِنَّكِ لَوْ أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِكِ».
فسبيل العلم بالمفاضلة بين تفاصيل هذه الأعمال لا يكون إلا بالفقه في الدين؛ فإنَّه دال على أنَّ الصدقة على ذي الرحم خيرٌ من العتق، فهذا عملان صالحان، ولا سبيل إلى العلم بأفضلية أحدهما على الآخر إلا بالفقه في الدين.
ومثله فيما دل عليه:
حديث جُوَيْرِيَةَ أُمِّ المُؤمنِين رضي اللهُ عنها، أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ أَضْحَى وَهِيَ جَالِسَةٌ، فَقَالَ: «مَا زِلْتِ عَلَى الْحَالِ الَّتِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا»؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: «لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ» رواه مسلم.
فهذا عمل يسير، وقد رُتِّب عليه أجر كبير، وسبيل العلم بهذا التفصيل: الفقه في الدين.
وقلْ مثلَ ذلك في كل حديث فضَّل فيه النبي صلى الله عليه وسلم عملاً صالحاً على غيره من الأعمال الصالحة.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أنَّ من مداخل الشيطان أن يشغل الإنسان بالمفضول عن الفاضل. قال رحمه الله: “العقبة السَّادِسَةِ: وَهِيَ عقبة الْأَعْمَالِ الْمَرْجُوحَةِ الْمَفْضُولَةِ مِنَ الطَّاعَاتِ، فَأَمَرَهُ بِهَا، وَحَسَّنَهَا فِي عَيْنِهِ، وَزَيَّنَهَا لَهُ، وَأَرَاهُ مَا فِيهَا مِنَ الْفَضْلِ وَالرِّبْحِ، لِيَشْغَلَهُ بِهَا عَمَّا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا، وَأَعْظَمُ كَسْبًا وَرِبْحًا، لِأَنَّهُ لَمَّا عَجَزَ عَنْ تَخْسِيرِهِ أَصْلَ الثَّوَابِ، طَمِعَ فِي تَخْسِيرِهِ كَمَالَهُ وَفَضْلَهُ، وَدَرَجَاتِهِ الْعَالِيَةَ، فَشَغَلَهُ بِالْمَفْضُولِ عَنِ الْفَاضِلِ، وَبِالْمَرْجُوحِ عَنِ الرَّاجِحِ، وَبِالْمَحْبُوبِ لِلَّهِ عَنِ الْأَحَبِّ إِلَيْهِ، وَبِالْمَرْضِيِّ عَنِ الْأَرْضَى لَهُ“، ثم بيَّن أن سبيل النجاة منه في هذه العقبة يكون بــ: “بِفِقْهٍ فِي الْأَعْمَالِ وَمَرَاتِبِهَا عِنْدَ اللَّهِ، وَمَنَازِلِهَا فِي الْفَضْلِ، وَمَعْرِفَةِ مَقَادِيرِهَا، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ عَالِيهَا وَسَافِلِهَا، وَمَفْضُولِهَا وَفَاضِلِهَا، وَرَئِيسِهَا وَمَرْءُوسِهَا، وَسَيِّدِهَا وَمَسُودِهَا، فَإِنَّ فِي الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ سَيِّدًا وَمَسُودًا، وَرَئِيسًا وَمَرْءُوسًا، وَذِرْوَةً وَمَا دُونَهَا”([8]).
والفقه يمكِّن من الوقوف على عتبة الدفاع عن الإسلام، ببيان أنَّ له حكماً على كلِّ شيء من تفاصيل حياتنا، وأيُّ عمل يفضُل على هذا العمل؟
ثبت صحيح مسلم، عَنْ سَلْمَانَ رضي الله عنه، قَالَ: قِيلَ لي: قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ؟ فَقَالَ: أَجَلْ، لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ، أَوْ بَوْلٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ بِعَظْمٍ».
فأنَّى لسلمان رضي الله عنه أن يُفحم هؤلاء الطاعنين في دينه ونبيه بمثل هذا الردِّ الذي أسكتهم لو لم يكن ملماً بتفاصيل هذه المسألة الفقهية (آداب قضاء الحاجة).
والفقه يُيسر به العبد على نفسه، فإن الله لم يتعبَّدنا بما يشق علينا، فديننا قائم على رفع الحرج، لكن من يعلم تفاصيل هذا الأمر سوى الفقهاء؟
ومما يبين ذلك: ما رواه أبو داود في سننه، من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللهُ عنه، قال: خَرَجَ رَجُلَانِ فِي سَفَرٍ فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ وَلَيْسَ مَعَهُمَا مَاءٌ، فَتَيَمَّمَا صَعِيدًا طَيِّبًا فَصَلَّيَا، ثُمَّ وَجَدَا الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ، فَأَعَادَ أَحَدُهُمَا الصَّلَاةَ وَالْوُضُوءَ وَلَمْ يُعِدِ الْآخَرُ، ثُمَّ أَتَيَا رَسُولَ اللَّه صلى اللهُ عليه وسلم فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لِلَّذِي لَمْ يُعِدْ: «أَصَبْتَ السُّنَّةَ، وَأَجْزَأَتْكَ صَلَاتُكَ». وَقَالَ لِلَّذِي تَوَضَّأَ وَأَعَادَ: «لَكَ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ».
قال العلامة العلامة الفقيه ابن عثيمين رحمه الله: “وإصابة السنة خير من كثرة العمل”([9]).
وإنَّ مما يدل على فضل الفقه والتفقه:
أنَّ تفاصيلَ العبادات والمعاملات التي تمر بنا كلَّ يوم مرات ومرات لا طريق لمعرفة حكم الله فيها إلا بالفقه في الدين، فبيعنا وشراؤنا، ودفننا لأمواتنا، وتعزيتنا لغيرنا، وتجهيز موتانا، والاستدانة حال حاجتنا، وردُّ ما أخذناه من قرض، واستئجارنا لعقاراتنا، وهبتنا لغيرنا، وغيرُ ذلك من معاملاتنا، وما نُسأل عنه من العبادات التي تجب علينا، كل ذلك لا طريق إلا معرفة حكم الله تعالى فيه إلا بالفقه.
ومما يدل على فضل ذلك:
أنَّ الله أوجب علينا نشر دينه، وتبليغ رسالته، وتعليمَ عباده، وبذل النصيحةِ لهم، وفاقد الشيء لا يعطيه، فلابدَّ من العلم بتفاصيل المسائل قبل تبليغها وتعليمهما.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سهمٌ عظيم من سهام الإسلام، فكيف يمكن القيام بذلك بدون فقه؟!
ومن فضائل التفقه في الدين: أنَّ التيسير على العباد لا يكون إلا به.
فكم وقع سائل في حرجٍ، فأوجد له الفقهاء المخرج منه بفقههم وإحاطتهم بجوانب المسألة، وهذا يقع كثيراً في قضايا الطلاق.
وهذا يذكِّرنا بما قاله الأعرابيُّ الذي أتى أهله في نهار رمضان، وطلب منهم أن يذهبوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفعلوا، ولم يجد عندهم ما يجيبون به على سؤاله، بل وجد التضييق والتعنيف، فلما رجع إليهم مِن عندِ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: «وَجَدْتُ عِنْدَكُمُ الضِّيقَ وَسُوءَ الرَّأْيِ، وَوَجَدْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّعَةَ وَالْبَرَكَةَ» رواه أحمد.
ومن فضائل التفقه في الدين: عدم التنازع والتناحر.
فالفقيه الذي يخالفه أخوه في مسألة يعلم أنه يقلد فيها مذهباً غير مذهبه لا يؤدي هذا الخلاف بينهما إلى قطيعة أو تدابر! لأنَّ كلَّ واحد منهما يقلِّد إماماً مجمعاً على إمامته.
رب صل وسلم على نبينا محمد، والحمد لله في البدء والختام.
[1] / البحر المحيط في أصول الفقه للزركشي (1/ 15).
[2] / السراج الوهاج شرح مختصر مسلم للمنذري، ص(402).
[3] / فتح البيان (4/ 205).
[4] / الجامع لأحكام القرآن/ للقرطبي (8/ 293).
[5] / البسيط للواحدي (11/ 95).
[6] / شرح النووي على مسلم (15/ 48).
[7] / شرح النووي على مسلم (15/ 135).
[8] / مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 240).
[9] / فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (1/ 370).