رمضانيات

من خبر الصائمين!

.
بسم الله الرحمن الرحيم
من خبر الصائمين
مهران ماهر عثمان
.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، أما بعد؛
فإن في أخبار الصائمين من أسلافنا لعبرةً، ومن قصصهم وخبرهم:
[1]
في صحيح مسلم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟» قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَا، قَالَ: «فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟» قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَا، قَالَ: «فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟» قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَا، قَالَ: «فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟» قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ، إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ».
ورواية أحمد في فضائل الصحابة: «مَا كَانَ اللَّهُ لِيَجْمَعَ هَذِهِ الْخِصَالَ إِلَّا لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ».
وفي الحديث أمران يثيران التعجب:
الأول أن الصديق جمع بين هذه الأربعة قبل أن يعلم بفضل الجمع بينها.
الثاني: أن جمعه بينها كان قبل صلاة الفجر!
هذا عمله منذ استيقاظه إلى أن صلى الفجر، فكيف بعمله في سائر يومه؟!
فالعبرة من هذا الخبر: أن أبا بكر رضي الله عنه سبق الصحابة بعمله وإيمانه، ولا يصح ما قاله بكر بن عبد الله المزني رحمه الله: “لم يسبقهم أبو بكر رضي الله عنه بكثرة صلاة ولا عمل، إنما سبقهم بشيء وقر في القلب”، بل سبقهم بهذا وهذا
والعبرة من خبر هذا الصائم أيضاً: أن الصديق رضي الله عنه لم يمنعه صومه من الاستكثار من الخير، كان صائماً وأطعم جائعاً، وشيع جنازة، وعاد مريضاً.
كثير من الناس إذا أصبح صائما منعه صومه من فعل كثير من الخيرات، ونام معظم الساعات! ورمضان شهر الاجتهاد والغزوات، فغزوة بدر وفتح مكة كانتا في رمضان، ومما كان فيه أيضاً: القادسية، وفتح الأندلس، وعين جالوت، وحطين.
في سنن الترمذي، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ، وَمَرَدَةُ الجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ».
ففتح أبواب الجنة، وقول المنادي: يا باغي الخير أقبل، دليل على أن الصائم ينبغي أن يجتهد في فعل الخير أثناء صومه.
[2]
في سير أعلام النبلاء (1/203) “قال نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: أصبح عثمان وحدث الناس قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة في المنام، فقال: “أفطر عندنا غدًا”، فأصبح صائما، وقتل من يومه”. وهذا لما أحاط الثُّوار ببيته.
وهذا دليل على حرصه على أن يلقى ربه صائماً.
وهذا كثير في سير أسلافنا.
[3]
ذكر علماء التراجم في سيرة نفيسة بنت الحسن رضي الله عنه أنها كانت تكثر من الصيام، حتى قيل لها: “ترفّقي بنفسك -لكثرة ما رأوا منها-، فقالت: كيف أرفق بنفسي وأمامي عقبة لا يقطعها إلا الفائزون؟ وقد توفيت وهي صائمة، ويوم وفاتها عرضوا عليها أن تشرب ماءً وأن تطعم شيئاً، فقالت: واعجباه! أنا منذ ثلاثين سنة أسأل الله تعالى أن ألقاه صائمة، أأفطر الآن؟ هذا لا يكون، حتى فاضت روحها رحمها الله تعالى.
[4]
وقال أبو بكر النيسابوري: حضرت إبراهيم بن هانئ عند وفاته فجعل يقول لابنه إسحاق: يا أبا إسحاق ارفع الستر، قال: يا أبت الستر مرفوع، قال: أنا عطشان، فجاءه بماء، فقال: غابت الشمس؟ قال: لا، فرده، ثم قال: ﴿لِمِثْلِ هَـٰذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ﴾ [الصافات:61]. ثم خرجت روحه [تاريخ بغداد (6/206)].
فما أعظمَ حرصهم على لقاء ربهم حال صومهم!
فما سبب هذا الحرص؟
الجواب في حديث حُذَيْفَةَ رضي الله عنه الذي قَالَ: أَسْنَدْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى صَدْرِي فَقَالَ: «مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ـ قَالَ حَسَنٌ: ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ خُتِمَ لَهُ بِهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ صَامَ يَوْمًا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ خُتِمَ لَهُ بِهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ خُتِمَ لَهُ بِهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» رواه أحمد، وقال محققو المسند: صحيح لغيره.
[5]
ومن خبر الصائمات:
أن حفصة بنت عمر رضي الله عنهما طلقها نبينا صلى الله عليه وسلم، فلما جاء تجلببت فقال: «قال لي جبريل عليه السلام: راجع حفصة؛ فإنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة» رواه الطبراني في الكبير، وحسنه الألباني في جلباب المرأة المسلمة، ص (87).
فما أعظم بركةَ الصوم عليها!
[6]
ومن الصائمين شابٌّ كان يستمتع به كما نستمتع بملذات الدنيا وملهياتها.
في صحيح البخاري، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: أَنْكَحَنِي أَبِي امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ، فَكَانَ يَتَعَاهَدُ كَنَّتَهُ، فَيَسْأَلُهَا عَنْ بَعْلِهَا، فَتَقُولُ: نِعْمَ الرَّجُلُ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَطَأْ لَنَا فِرَاشًا، وَلَمْ يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفًا مُنْذُ أَتَيْنَاهُ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «القَنِي بِهِ»، فَلَقِيتُهُ بَعْدُ، فَقَالَ: «كَيْفَ تَصُومُ؟» قَالَ: كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: «وَكَيْفَ تَخْتِمُ؟»، قَالَ: كُلَّ لَيْلَةٍ، قَالَ: «صُمْ فِي كُلِّ شَهْرٍ ثَلاَثَةً، وَاقْرَإِ القُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ»، قَالَ: قُلْتُ: أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: «صُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فِي الجُمُعَةِ»، قُلْتُ: أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: «أَفْطِرْ يَوْمَيْنِ وَصُمْ يَوْمًا» قَالَ: قُلْتُ: أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: «صُمْ أَفْضَلَ الصَّوْمِ صَوْمَ دَاوُدَ صِيَامَ يَوْمٍ وَإِفْطَارَ يَوْمٍ، وَاقْرَأْ فِي كُلِّ سَبْعِ لَيَالٍ مَرَّةً» فَلَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَاكَ أَنِّي كَبِرْتُ وَضَعُفْتُ.
ورواية مسند أحمد أنه قال: جَمَعْتُ الْقُرْآنَ، فَقَرَأْتُ بِهِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَطُولَ عَلَيْكَ زَمَانٌ أَنْ تَمَلَّ، اقْرَأْهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ» ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي أَسْتَمْتِعْ مِنْ قُوَّتِي وَشَبَابِي، قَالَ: «اقْرَأْهُ فِي كُلِّ عِشْرِينَ» ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي أَسْتَمْتِعْ مِنْ قُوَّتِي وَشَبَابِي، قَالَ: «اقْرَأْهُ فِي عَشْرٍ» ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي أَسْتَمْتِعْ مِنْ قُوَّتِي وَشَبَابِي، قَالَ: «اقْرَأْهُ فِي كُلِّ سَبْعٍ» ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي أَسْتَمْتِعْ مِنْ قُوَّتِي وَشَبَابِي، فَأَبَى.
[7]
ومن خبرهم ما جاء في صحيح البخاري، أن نبينا صلى الله عليه وسلم آخَى بَيْنَ سَلْمَانَ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنهما، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ؟ قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قَالَ: فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ: نَمْ، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ: سَلْمَانُ قُمِ الآنَ، فَصَلَّيَا فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ سَلْمَانُ».
والعبرة من هذا الخبر: أنه لابد من التوازن في الأخذ بالعبادة ولو قوي الإنسان عليها وسهلت عليه؛ فخير الهدي هدي نبينا صلى الله عليه وسلم.
[8]
لقد أثر عن أسلافنا ما يُبيِّن حزنهم عند موتهم لانقطاعهم عن الصوم.
لما حضرت معاذ بن جبل رضي الله عنه الوفاة قال: انظروا أصبحنا؟ فقيل: لم تصبح، فكرر ذلك مرارًا، حتى أتى في بعض ذلك، فقيل له: قد أصبحت قال: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار، مرحبًا بالموت، اللهم إني قد كنت أخافك فأنا اليوم أرجوك، اللهم أن كنت تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لكرى الأنهار، ولا لغرس الشجر، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر. [الزهد لابن أبي عاصم (1/181)].
ومن هذا الباب أيضاً:
[9]
ما جاء عن عبيد الله بن محمد التيمي أنه قال: حدثني بعض أشياخنا أن رجلًا حضرته الوفاة، فجزع جزعًا شديدا، وبكى بكاءً كثيرًا، فقيل له في ذلك! فقال: “ما أبكي إلا على أن يصوم الصائمون لله ولست فيهم، ويصلي المصلون ولست فيهم، ويذكره الذاكرون ولست فيهم، فذاك الذي أبكاني” [شعب الإيمان (3/414)].
[10]
ومن عجيب خبر الصائمين ما أورد الذهبي في تاريخه (3/315) “عن مولاة لأبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قالت: كان أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه يحب الصدقة، ولا يقف به سائل إلا أعطاه، فأصبحنا يوما وليس عنده إلا ثلاثة دنانير، فوقف به سائل، فأعطاه دينارا، ثم آخر، فكذلك، ثم آخر، فأنفق المال كله، ثم راح إلى مسجده صائماً، فرقت له، واقترضت له ثمن عشاء، وأصلحت فراشه، فإذا تحت المرفقة ثلاث مائة دينار، فلما دخل ورأى ما هيأت له، حمد الله وابتسم، وقال: هذا خير من غيره، ثم تعشى، فقلت: يغفر الله لك جئت بما جئت به، ثم تركته بموضع مضيعة؟ قال: وما ذاك؟ قلت: الذهب، ورفعت المرفقة، ففزع لما رأى، وقال: ما هذا ويحك؟ قلت: لاعلم لي، فكثر فزعه.
[11]
ومن أخبارهم ما يجلي لنا شدة حرصهم على إخفاء العبادة وتحقيق الإخلاص فيها.
فقد صام داود بن أبي هند أربعين سنة، لا يعلم به أهله، وكان يحمل معه غذاءه من عندهم، فيتصدق به في الطريق، ويرجع عشيًا فيفطر معهم.
وأختم بكلمة مشفق، فقد كان أبو ذر رضي الله عنه: “يا أيها الناس، إني لكم ناصح، وإني عليكم مشفق؛ صلوا في ظلمة الليل لوحشة القبور، وصوموا في الدنيا لحر يوم النشور”.
رب صل وسلم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

شارك المحتوى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *