رمضانيات

صوم الجوارح

.
بسم الله الرحمن الرحيم
صوم الجوارح
مهران ماهر عثمان
.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛
فهذه نقاط تتعلق بصوم الجوارح.
.
.
معناه:
الصوم: الإمساك كما لا يخفى على أحد، والجوارح: الأعضاء. فالمراد من هذا العنوان: إمساك الجوارح عن معصية الله وحفظ الله بها.
.
.
الأمر به
ثبت في جامع الإمام الترمذي، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استحيوا من الله حق الحياء». قال: قلنا: يا رسول الله إنا نستحيي والحمد لله! قال: «ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطنَ وما حوى، ولتذكر الموت والبِلَى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء».
فالحياء منه ما يكون من الخلق، ومنه ما يكون من الخالق، والحياء منه سبحانه أولى من الحياء من غيره.
والصحابة قالوا لنبينا صلى الله عليه وسلم: إنا لنفعل ذلك؛ لأنهم أرادوا أصله، وأراد النبي صلى الله عليه وسلم حقيقته وكماله.
.
.
فما هي العلاقة بين صوم الجوارح وعبادة الصيام؟
العلاقة سببية، فصوم رمضان سبب يورث صوم الجوارح ويدل عليه، ويفضي إليه.
أتريد –أخي الكريم- دليلا على ذلك؟!
ألم يقل الله تعالى في سورة البقرة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183)﴾؟ ومعنى الآية: أي تتقون الله بالكفِّ عن الحرام وفعل الطاعة بصومكم. قال ابن كثير رحمه الله: “لأن الصوم فيه تزكية للبدن، وتضييق لمسالك الشيطان” [التفسير: (1/497)].
وقال القرطبي رحمه الله: “قيل: لتتقوا المعاصي” [الجامع: (2/276)].
وفي الآية قول آخر ذكره الطبري رحمه الله في تفسيره [3/413] بقوله: “وأما تأويل قوله: ﴿لعلكم تَتقون﴾، فإنه يعني به: لتتقوا أكل الطعام، وشرب الشراب، وجماع النساء فيه”. فالآية يراد منها هذا وهذا.
ومن الأدلة القرآنية –كذلك- أن الله تعالى في الأحزاب ذكر الحافظين فروجهم والحافظات بعدما ذكر الصائمين والصائمات، قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره (6/420): ” ولما كان الصوم من أكبر العون على كسر الشهوة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج …»، ناسب أن يذكر بعده: ﴿وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ﴾”.
ولذا أمر الله عز وجل بالصوم في كثير من الكفارات؛ في كفارة قتل الخطأ، والحنث في الأيمان، وقتل الصيد حال الإحرام، والظهار؛ لما له من أثر كبير في تحقيق التقوى وتهذيب الأخلاق.
ومن الأدلة على علاقة السببية هذه حديث الصحيحين الذي رواه ابن مسعود رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب مَنْ اسْتَطَاعَ منكم الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ». وأصل الوجاء: رضُّ الخُصيتين، والمراد: أنه قامع للشهوة.
.
.
حقيقة الصوم: صوم الجوارح
بين ذلك نبي الله صلى الله عليه وسلم في خمسة أحاديث:
الأول:
حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ، وَالْعَمَلَ بِهِ، وَالْجَهْلَ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» رواه البخاري وأبو داود.
وقول الزور: كل قول باطل، والعمل به: المعصية، والجهل: الطيش والسفه؛ كالتلفظ بالألفاظ النابية البذيئة.
فالذي لا يدع هذه الأشياء فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه. والحاجة الإرادة، فإن الله لا تنفعُه طاعة الطائعين، ولا تضرُّه معصيةُ العاصين، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾ [فاطر/15-17]. فالمعنى: أن الله ما أراد من الناس أن يتركوا الطعام والشراب فقط، وإنما أراد منهم البعد عما حرم عليهم.
وهنا سؤال: لماذا لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الجماع مع أن الفطر يكون به واكتفى بذكر الطعام والشراب؟
والجواب: أن الطعام والشراب شيء مشترك بين جميع الصائمين، أما الجماع فإنه مختص بالمتزوجين، وبعض الصائمين ليس كذلك.
.
الثاني:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا كان يومُ صومِ أحدكم فلا يَرْفُثْ، ولا يَجْهَلْ، فَإِنْ امْرُؤٌ شَاتَمَهُ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ» رواه البخاري ومسلم.
لا يرفث: لا يتكلم بالفاحش من القول، ولا يجهل أعم من لا يرفث، ومعناه: لا يقع في الطيش بقول أو فعل. ولا يصخب: لا يرفع صوته بل يكون وقوراً.
.
الثالث:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ» رواه أحمد وابن ماجة.
.
الرابع:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيامُ من اللغو والرفث» رواه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم.
واللغو: كل قول باطل، يقال: ألغى الشيء، أي: أبطله.
.
الخامس:
حديث جَابِرٍ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّمَا الصِّيَامُ جُنَّةٌ يَسْتَجِنُّ بِهَا الْعَبْدُ مِنْ النَّارِ» رواه أحمد. وكونه جنةً من النار يتحقق بأمرين:
الأول: أنه يقي من الذنوب التي توجب دخول النار.
الثاني: أنه يتسبب في مغفرة الله لعبده ما اقترفه من ذنوب، قال تعالى: ﴿إن الحسنات يذهبن السيئات﴾.
.
.
وفي هذا الباب كثيرٌ من الآثار.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “ليس الصيام من الشراب والطعام وحده، ولكنه من الكذب والباطل واللغو”.
وقَالَ أَبُو ذَرٍّ رضي الله عنه: “إذَا صُمْت فَتَحَفَّظْ مَا اسْتَطَعْت”.
وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: “إذا صمتَ فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب، والمأثم، ودع أذى الخادم، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم فطرك ويوم صومك سواء”.
وعن حفصة بنت سيرين قالت: “الصيام جُنَّة، ما لم يخرقها صاحبها، وخرقها الغيبة”.
وعن ميمون بن مهران رحمه الله: “إن أهون الصوم ترك الطعام والشراب”.
ذكر هذه الآثار ابن حزم في [المحلى4/308].
.
.
فلماذا كان الصوم سبباً لصوم الجوارح واستقامتها؟
لسببين:
الأول: لأن الصوم عبادة تزكو النفوس بها، وتتسامى الأرواح بسببها من حضيض البهيمية، ومن سمت روحه وطهرت نفسه لم تأنس بمعصية الله.
الثاني: لأن الصائم يترك ما هو حلال بأصله؛ امتثالاً لأمر الله، أفلا يمكنه بعد ذلك أن يترك ما حرم بأصله؟ فالصائم يعلم أنه ترك ما أحل الله تعالى تقرباً إليه، فكيف يترك ما أحل الله ويقع فيما حرمه عليه ؟!
.
.
فما هي الجوارح التي ينبغي أن نصومها؟ وكيف يكون صومها؟
هي:
البصر، وذلك بغضِّه كما أمر الله، فإمساكه عن إجالته في الحرام صومُه.
الأنف، وذلك بأن لا يشتم به ما حرم الله من المخدر وغيره..
الرأس، وذلك بألا يُطأطأ لغير الله ولا يسجد به إلا له. وألا يرفع كِبْراً وتعالياً على الناس، قال تعالى: ﴿ولا تُصَعِّرْ خدَّك للناس﴾. والصَّعَر –بالتحريك- داء يلوي عنق البعير.
الأذن، فلا نستمع به إلى محرم؛ كغيبة ونميمة وموسيقى وغناء.
اللسان، وما شيء أحوج إلى طول حبس منه، وفي الخبر أنه قيل لعيسى عليه السلام: أوصنا. قال: لا تتكلموا أبداً. فقالوا له: ومن يطيق ذلك؟ قال: فلا تتكلموا إلا بخير.
البطن: فلا ندخل إليه حراماً، فإنه «لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به» كما ثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم في جامع الترمذي.
الفرج، والواجب إمساكه عن أمرين: إبداؤه، وإعمالُه فيما حرَّم الله تعالى.
الرجل، فلا يُسعى بها إلى معصية الله تعالى.
اليد، فلا يعتدى بها على حق أحد، ولا يُبطش بها إلا في طاعة الله.
وبالجملة: فإن المرء مأمور حيال أعضائه بأمرين، ومكلف فيها بتكليفين: كفها عما حرم الله، وذاك تصويمها. وطاعته بها.
.
.
فهل يبطل الصوم بفعل المعاصي؟
الجواب: لا، ولكن المعاصي تنقص من أجره.
قال النووي رحمه الله في المجموع: (6/398): “(يَنْبَغِي لِلصَّائِمِ أَنْ يُنَزِّهَ صَوْمَهُ عَنْ الْغِيبَةِ وَالشَّتْم): مَعْنَاهُ يَتَأَكَّدُ التَّنَزُّهُ عَنْ ذَلِكَ فِي حَقِّ الصَّائِمِ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِ لِلْحَدِيثِ, وَإِلا فَغَيْرُ الصَّائِمِ يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ أَيْضًا وَيُؤْمَرُ بِهِ فِي كُلِّ حَالٍ, وَالتَّنَزُّهُ التَّبَاعُدُ, فَلَوْ اغْتَابَ فِي صَوْمِهِ عَصَى وَلَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهُ عِنْدَنَا, وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَالْعُلَمَاءُ كَافَّةً، إلا الأَوْزَاعِيَّ فَقَالَ: يَبْطُلُ الصَّوْمُ بِالْغِيبَةِ وَيَجِبُ قَضَاؤُهُ”.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

شارك المحتوى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *