رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم في المنام
بسم الله الرحمن الرحيم
رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم في المنام
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛ فهذه بعض المسائل التي تتعلق برؤيا النبي صلى الله عليه وسلم في المنام.
أولاً: الأحاديث التي تثبت ذلك
عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ رَآنِي فِي المَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي اليَقَظَةِ، وَلاَ يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي» رواه البخاري ومسلم.
وقَالَ أَبُو قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى الحَقَّ» رواه الشيخان.
وعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَآنِي فِي المَنَامِ فَقَدْ رَآنِي، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَتَخَيَّلُ بِي» رواه البخاري.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى الحَقَّ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَتَكَوَّنُنِي» رواه البخاري.
وعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ رَآنِي فِي النَّوْمِ فَقَدْ رَآنِي، إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَتَمَثَّلَ فِي صُورَتِي» رواه مسلم.
ثانياً: تنبيه مهم لابن سيرين رحمه الله
أورد البخاري رحمه الله تعليق ابن سيرين رحمه الله على حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مرفوعاً: «مَنْ رَآنِي فِي المَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي اليَقَظَةِ، وَلاَ يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي»، قال: “إِذَا رَآهُ فِي صُورَتِهِ”.
أي: أن الشيطان قد يأتي في المنام في صورة غير صورة النبي صلى الله عليه وسلم، ويوهم النائم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وصفات النبي صلى الله عليه وسلم معروفة، فقد نعتته أم معبد ونعته غيرها، فالشيطان لا يتمثل بصورته، ولكنه قد يتمثل بغيرها، فيظن الرائي أنه رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم وإنما رأى الشيطان.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا رَآهُ عَلَى صُورَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ … وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ رَآهُ عَلَى غَيْرِ صِفَتِهِ أَنْ تَكُونَ رُؤْيَاهُ مِنَ الْأَضْغَاثِ” [فتح الباري: 12/ 384].
وقال رحمه الله: “كَانَ ابن سِيرِينَ إِذَا قَصَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: صِفْ لِيَ الَّذِي رَأَيْتَهُ، فَإِنْ وَصَفَ لَهُ صِفَةً لَا يَعْرِفُهَا قَالَ لَمْ تَرَهُ” [فتح الباري: 12/ 384].
وأما حديث: «مَن رآني في المنام فقد رآني فإنِّي أُرى في كل صورة » فهذا لا يصح “في سنده صالح مولى التوأمة، وهو ضعيف؛ لاختلاطه، وهو مِن رواية مَن سمع منه بعد الاختلاط” [فتح الباري: 12/ 384].
ثالثاً: المراد من الأحاديث السابقة
أما قوله: «فَقَدْ رَأَى الحَقَّ»، فمعناه: “فقد رَآنِي حَقًا” [كشف المشكل من حديث الصحيحين: 2/ 144].
وقوله: «فَقَدْ رَآنِي، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَتَخَيَّلُ بِي»، أي: لا يأتي في صورتي.
وقوله: «فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَتَكَوَّنُنِي»، أي: لا يتشكل بشكلي، ولا يأتي بصورتي.
فما معنى: «فَسَيَرَانِي فِي اليَقَظَةِ»؟
هذه فيها ستة أقوال ذكرها الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري (12/ 385)، وهي:
“أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَى التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: «فَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ»”
وعلى هذا يكون المراد: أن الرائي كأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، فهو تشبيه لحاله بحال من رآه.
“ثَانِيهَا: أَنَّ مَعْنَاهَا سَيَرَى فِي الْيَقَظَةِ تَأْوِيلَهَا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ أَوِ التَّعْبِيرِ”.
فيكون ما رأى حقاً، وقد يكون على ظاهره، وقد يحتاج إلى تأويل يُطلب عند من عُرف بالتعبير.
قال ابن بطال: “يعنى تصديق تلك الرؤيا فى اليقظة وصحتها وخروجها على الحق” [شرح صحيح البخارى: 9/ 527]
“ثَالِثُهَا: أَنَّهُ خَاصٌّ بِأَهْلِ عَصْرِهِ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ”.
فتكون بشارةً لمن رآه في النوم من أهل عصره أنه يمكَّن من الهجرة إليه والتمتّع برؤياه.
قال النووي رحمه الله: “قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنْ كَانَ الْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَكَأَنَّمَا رَآنِي، فَهُوَ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَقَدْ رَآنِي، أَوْ فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ كَمَا سَبَقَ تَفْسِيرُهُ، وَإِنْ كَانَ سَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ فَفِيهِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: الْمُرَادُ بِهِ أَهْلُ عَصْرِهِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ مَنْ رَآهُ فِي النَّوْمِ وَلَمْ يَكُنْ هَاجَرَ يُوَفِّقُهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْهِجْرَةِ وَرُؤْيَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَقَظَةِ عِيَانًا” [شرح النووي على مسلم: 15/ 26].
“رَابِعُهَا أَنَّهُ يَرَاهُ فِي الْمِرْآةِ الَّتِي كَانَتْ لَهُ إِنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ وَهَذَا مِنْ أَبْعَدِ الْمَحَامِلِ”!!
فهذا قولٌ شاذٌ كما نص عليه الحافظ، أنه إذا رآه فنهض من نومه ونظر إلى المرآة رأى صورة النبي صلى الله عليه وسلم!! فهذا يغني ذكرُه عن ردِّه!
“خَامِسُهَا أَنَّهُ يَرَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَزِيدِ خُصُوصِيَّةٍ”.
فيكون المعنى أنه سيراه في الآخرة، فإن قيل: الأمة كلها ستراه؟ فالجواب كما قال: يراه بمزيد خصوصية، فيكون أقربَ إليه، ويراه أكثرَ من غيره، ويحظى منه بما لا يحظى به غيرُه.
“سَادِسُهَا: أَنَّهُ يَرَاهُ فِي الدُّنْيَا حَقِيقَةً وَيُخَاطِبُهُ وَفِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِشْكَالِ”.
وهذا أشدُّ شذوذاً من قول المرآة!!
قال الحافظ رحمه الله: “وَهَذَا قَوْلٌ يُدْرَكُ فَسَادُهُ بِأَوَائِلِ الْعُقُولِ! وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ إِلَّا عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي مَاتَ عَلَيْهَا، وَأَنْ لَا يَرَاهُ رَائِيَانِ فِي آنٍ وَاحِدٍ فِي مَكَانَيْنِ، وَأَنْ يَحْيَا الْآنَ وَيَخْرُجَ مِنْ قَبْرِهِ وَيَمْشِيَ فِي الْأَسْوَاقِ وَيُخَاطِبَ النَّاسَ وَيُخَاطِبُوهُ، وَيَلْزَمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَخْلُوَ قَبْرُهُ مِنْ جَسَدِهِ فَلَا يَبْقَى مِنْ قَبْرِهِ فِيهِ شَيْءٌ، فَيُزَارَ مُجَرَّدَ الْقَبْرِ وَيُسَلَّمَ عَلَى غَائِبٍ؛ لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يُرَى فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَعَ اتِّصَالِ الْأَوْقَاتِ عَلَى حَقِيقَتِهِ فِي غَيْرِ قَبْرِهِ، وَهَذِهِ جَهَالَاتٌ لَا يَلْتَزِمُ بِهَا مَنْ لَهُ أَدْنَى مُسْكَةٍ مِنْ عَقْلٍ!!” [فتح الباري: 12/ 384].
رابعاً: لا تستفاد الأحكام الشرعية من المنامات
لأن الدَّين قد كمُل فلا يزاد عليه.
قال الشاطبي رحمه الله : “وَرُبَّمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: رأَيت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ، فَقَالَ لِي كَذَا، وأَمرني بِكَذَا؛ فَيَعْمَلُ بِهَا، وَيَتْرُكُ بِهَا، مُعْرِضًا عَنِ الْحُدُودِ الْمَوْضُوعَةِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ خَطَأٌ؛ لأَن الرُّؤْيَا مِنْ غَيْرِ الأَنبياءِ لَا يُحْكَمُ بِهَا شَرْعًا عَلَى حَالٍ، إِلا أَن نعرضها عَلَى مَا فِي أَيدينا مِنَ الأَحكام الشَّرْعِيَّةِ، فإِن سَوَّغَتْهَا عُمل بِمُقْتَضَاهَا، وإِلا وَجَبَ تَرْكُهَا والإعراض عنها، وإِنما فائدتها البشارة والنذارة خَاصَّةً، وأَما اسْتِفَادَةُ الأَحكام فَلَا” [الاعتصام: 2/ 93].
خامساً: لا يعتد بمثل هذه المنامات في أمور الدنيا
لأن الأمور التي تتعلق بالدنيا نختار منها ما هو أصلح لنا، وهذا يُعرف بالتجربة وسؤال أهل الاختصاص وبالاستخارة التي ندب إليها النبي صلى الله عليه وسلم، والمنامات لا يُجزم بأنها حق فلا يعتد بما فيها؛ لكون الرائي قد يظن أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، أو يرى غيره، أو تُعَبَّر المنامات على غير وجهها، فتصدُق الرؤيا، ويخيبُ تأويلها.
لهذا كله لا يعتد العاقل بشيء منها، ولا يسلك سبيلاً معينا بسببها، وإنما يفرح إذا بُشِّر فيها بشيء، ولا يتكل عليها.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في قصة تأبير النخل: «أنتم أعلم بأمر دنياكم» رواه مسلم.
قال المناوي رحمه الله: “«أنتم أعلم بأمر دنياكم» مني، وأنا أعلم بأمر أخراكم منكم” [فيض القدير: 3/ 50].
رب صل وسلم على نبينا محمد.