مقالات

هدايا العمال غلول

بسم الله الرحمن الرحيم

هدايا العمال غلول

23 شعبان 1446هـ وفق: 21/ 2 / 2025م

مسجد الهداية بحي الهدى مربع7 – دنقلا

مهران ماهر عثمان

الحمد لله حمداً  كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأصلي وأسلم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛

فهذا بيان لحكم ما يُبذل للموظفين في القطاعين العام والخاص من العطايا، وللضوابط التي تبين: متى تكون من الهدايا المقبولة؟ ومتى تكون غلولاً؟

وهذه خمسة أحاديث في التحذير من الهدايا التي تبذل للعمال والموظفين:

 

الحديث الأول:

رواه الإمام أحمد عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «هَدَايَا الْعُمَّالِ غُلُولٌ». وصححه الألباني في صحيح الجامع (7021).

قال النووي رحمه الله: “وفي هذا الحديث بيان أن هدايا العمال حرام، وغلول؛ لأنه خان في ولايته، وأمانته… وقد بيَّن صلى الله عليه وسلم في نفس الحديث السبب في تحريم الهدية عليه، وأنها بسبب الولاية ، بخلاف الهدية لغير العامل، فإنها مستحبة” [شرح مسلم 12/219].

والعمال يتناول الموظفين، فكل هدية تعطى للموظف بسبب وظيفته فهي خيانة محرمة.

 

الحديث الثاني:

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا، فَمَا أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ» رواه أبو داود.

ومعنى الحديث: من جعلناه على عمل وأعطيناه على ذلك مالاً، فلا يحل له أن يأخذ شيئاً بعد ذلك، فإن أخذ فهو غلول، والغلول: الخيانة في الغنيمة وفي مال بيت مال المسلمين.

 

الحديث الثالث:

لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذًا إلى اليمن أرسل في أثره، فلما جاءه قال: «أتدري لِمَ بعثتُ إليك؟ لا تصيبن شيئًا بغير إذني؛ فإنه غلول، ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة، لهذا دعوتك فامض لعملك» رواه الترمذي.

 

الحديث الرابع:

رواه البخاري ومسلم، عن أبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ رضي الله عنه قَالَ: اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ بَنِي أَسْدٍ عَلَى صَدَقَةٍ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي. فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَأْتِي يَقُولُ: هَذَا لَكَ وَهَذَا لِي، فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لا؟! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا يَأْتِي بِشَيْءٍ إِلا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ: أَلا هَلْ بَلَّغْتُ-ثَلاثًا-».

والرغاء: صوت البعير، والخُوار: صوت البقرة، واليُعار: صوت الشاة. وعُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ، أي: بياضهما.

فهذا الحديث الشريف يدل على تحريم ما يهدى للعمال؛ لأجل عملهم ، وأن العامل يأتي يوم القيامة وهو يحمل ما أَخذ منها، ولو كان بعيرا أو بقرة أو شاة عياذا بالله من ذلك.

 

الحديث الخامس:

عَنْ عَدِيِّ بْنِ عَمِيرَةَ الْكِنْدِيِّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمْنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ أَسْوَدُ مِنْ الْأَنْصَارِ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْبَلْ عَنِّي عَمَلَكَ. قَالَ: «وَمَا لَكَ»؟ قَالَ: سَمِعْتُكَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: «وَأَنَا أَقُولُهُ الْآنَ: مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَجِئْ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَ، وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى» رواه مسلم.

 

علة التحريم

لماذا حرمت الهدية للعمال والموظفين والمسؤولين؟

لعلتين:

الأولى:

لما يترتب عليها من المحاباة وتقديم مصلحة صاحبها على غيره، وعدم مراعاة الإخلاص في العمل.

والثانية:

لما تتسبب فيه من إفسادٍ له.

فإعطاء العامل هدية يفسده على الآخرين؛ فبعض الناس فقراء لا يستطيعون إعطاءهم، فهذا العمل سنة سيئة، وهي تفسد قلبه العامل على الآخرين الذين لا يدفعون له شيئاً، فلا يحسن العمل لهم، ويقصر في إكماله.

وقد تفضي إلى تعليم العمال السؤال والطلب، وتستشرف أنفسهم عطايا الناس.

 

فما هو الفارق بين الهدية والرشوة لمن يعمل في القطاع العام أو الخاص؟

1/ ما يُبذل من الهدايا لموظفِ القطاع العام أو الخاص إذا كان ممن يهاديه قبل وظيفته فهذه هدية تُقبل ولا حرج.

فقد دل حديث أبي حميد في الصحيحين على أن الـمُهدى إليه إذا جلس في بيته  وأُهدي إليه فهي هدية مقبولة لا حرج فيها؛ لكونها تتعلق بشخصه لا بعمله.

قال ابن حجر رحمه الله: “بيَّن له –لساعي الزكاة- النبي صلى الله عليه وسلم أن الحقوق التي عمل لأجلها هي السبب في الإهداء له، وأنه لو أقام في منزله لم يُهد له شيء، فلا ينبغي له أن يستحلها بمجرد كونها وصلت إليه على طريق الهدية” [فتح الباري 12/349].

فمن جاءته من العمال هدية فعليه أن يسأل نفسه:

هل أهديت إليه لشخصه أو لوظيفته؟

الذي يعمل في مصلحة الأراضي لو فصل من عمله أكان هذا الشخص يهدي إليه؟

الذي يعمل في الشرطة لو لم يكن فيها هل كان سيُهدى إليه؟

فلو أهدى صديق قديم لقاضٍ هدية اعتاد على أن يهديها إليه من زمن الدراسة –مثلاً- فلا حرج عليه في قبولها بعد أن يصير قاضياً.

 

2/ فإن كانت ممن لم يكن يهاديه.

فلا تكون هديةً إلا بشرطين:

الشرط الأول:

أن يأذن فيها صاحب العمل الخاص، أو مسؤول القطاع العام.

دل عليه حديث مسلم: «مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَجِئْ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَ، وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى»، على التفريق بين ما أذن فيه وما لم يؤذن للآخذ فيه.

ودل على ذلك حديث معاذ السابق: «لا تصيبن شيئًا بغير إذني».

الشرط الثاني:

ألا يُتصور في بذلها ترتُّبُ محاباة أو إفسادٍ للموظف.

لأنَّ هاتين علتا التحريم، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.

مثال ذلك:

طالبة أهدت لمعلمتها هدية وهي لا تزال في الصف تدرس عندها، فهذه قد يترتب عليها محاباة للطالبة، أما إذا كانت الهدية بعد تخرج الطالبة، أو بعد أن انتقلت المعلمة إلى مدرسة أخرى، فهنا تقبل الهدية؛ لأن مسألة المحاباة أُمن جانبها.

وكذلك إذا غلب على الظنِّ أن المهدى إليه تفسُد أخلاقه، ولا يعمل إذا بذلت إليه هذه الهدية إلا بمثلها ممن يراجعه للعمل فلا يُعطى شيئاً.

فإذا تحقق هذان الشرطان فلا حرج في قبول الموظف لها.

وبالإمكان الإحسان إلى العامل الذي أحسن إلينا بإعطاء مديره المباشر حافزاً مالياً؛ ليدفع به إلى عامله وموظفه، باعتبار أنه حافز من مديره ومن إدارة عمله، لا ممن يتعامل معهم، ولا يعلم بأن من أعطاه ذلك زيد أو عمرو؛ إذ القصد أن يُكرم، لا أن يعلم من أكرمه، وبهذا نكون قد أحسنَّا إلى من أحسن إلينا بدون وقوع في المحظور.

 

نقول ماتعة!

قال الشوكاني رحمه الله: “وقد كان بعض أهل العلم والفضل يمتنع هو وأصحابه من قبول الهدية من أحد أصلاً لا من صديق ولا من قريب ولا غيرهما وذلك لفساد النيات في هذا الزمان” [نيل الأوطار 6/6]

وقال الحافظ في الفتح (5/ 21): “اشْتَهَى عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز التُّفَّاح، فَلَمْ يَجِدْ فِي بَيْته شَيْئًا يَشْتَرِي بِهِ، فَتَلَقَّاهُ غِلْمَان الدَّيْر بِأَطْبَاقِ تُفَّاح، فَتَنَاوَلَ وَاحِدَة فَشَمَّهَا ثُمَّ رَدَّ الْأَطْبَاق، وقال: لَا حَاجَة لِي فِيهِ. فقيل له: أَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّه  صلى الله عليه وسلم  وَأَبُو بَكْر وَعُمَر يَقْبَلُونَ الْهَدِيَّة؟ فَقَالَ: إِنَّهَا لِأُولَئِكَ هَدِيَّة وَهِيَ لِلْعُمَّالِ بَعْدهمْ رِشْوَة”.

وسئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى: نحن موظفون حكوميون تأتينا في رمضان إكراميات وزكوات من بعض رجال الأعمال، ولا نستطيع التفرقة بين الزكوات والإكراميات لعدم علمنا بذلك.

والسؤال: إذا أخذنا هذه الأموال ونحن في غنى عنها وأنفقناها على الأرامل والأيتام والفقراء ما الحكم؟ وإذا أنفقنا منها على أسرنا وأكلنا منها، ما الحكم؟

فأجاب:

“هدايا العمال من الغلول، يعني: إذا كان الإنسان في وظيفة حكومية وأهدى إليه أحد ممن له صلة بهذه المعاملة فإنه من الغلول، ولا يحل له أن يأخذ من هذا شيئاً ولو بطيب نفس منه.

مثال ذلك: لنفرض أن لك معاملة في دائرة ما، وأهديت لمدير هذه الدائرة أو لموظفيها هدية، فإنه يحرم عليهم قبولها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن اللُّتْبيَّة على الصدقة فلما رجع قال: هذا أهدي إلي وهذا لكم، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فخطب الناس وقال: «ما بال الرجل منكم نستعمله على العمل فيأتي ويقول: هذا لكم، وهذا أهدي إلي، فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا»، فلا يحل لأحد موظف في دائرة من دوائر الحكومة أن يقبل الهدية في معاملة تتعلق بهذه الدائرة، ولأننا لو فتحنا هذا الباب وقلنا: يجوز للموظف قبول هذه الهدية؛ لكنا قد فتحنا باب الرشوة، والرشوة خطيرة جداً، وهي من كبائر الذنوب، فالواجب على الموظفين إذا أهدي لهم هدية فيما يتعلق بعملهم أن يردوا هذه الهدية، ولا يحل لهم أن يقبلوها، سواء جاءتهم باسم هدية، أو باسم الصدقة، أو باسم الزكاة، ولاسيما إذا كانوا أغنياء، فإن الزكاة لا تحل لهم كما هو معلوم” [فتاوى الشيخ العثيمين 18/ السؤال رقم 270].

رب صل وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 

 

شارك المحتوى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *