مقالات

قصة شهيد (9) الرعاة الشهداء

بسم الله الرحمن الرحيم

قصة شهيد (9)

الرعاة الشهداء

خطبة 4 رجب 1446 | 4/ 1/ 2025م

دنقلا، مسجد الهداية بحي الهدى (7)

مهران ماهر عثمان

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛

في الصحيحين، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، أَنَّ نَاسًا مِنْ عُرَيْنَةَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَاجْتَوَوْهَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ شِئْتُمْ أَنْ تَخْرُجُوا إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ، فَتَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا»، فَفَعَلُوا، فَصَحُّوا، ثُمَّ مَالُوا عَلَى الرِّعَاءِ، فَقَتَلُوهُمْ وَارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَسَاقُوا ذَوْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَعَثَ فِي أَثَرِهِمْ فَأُتِيَ بِهِمْ، فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ، وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ، وَتَرَكَهُمْ فِي الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ، فَلَا يُسْقَوْنَ حَتَّى مَاتُوا.

 

هؤلاء من عُرَيْنَة.

وهم حي من قبيلة بَجِيلَة، قبيلةٌ عربية معروفة، وقد كانوا ثلثَ المسلمين في القادسية.

وقد جاء في رواية البخاري أنهم تكلموا بالإسلام، حَتَّى إِذَا كَانُوا نَاحِيَةَ الحَرَّةِ، كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِ.

والذين ارتدوا بعد إسلامهم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد موته كثر، قاتل الصديق رضي الله عنهم هؤلاء المرتدين، وفي مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تَرِدُ عَلَيَّ أُمَّتِي الْحَوْضَ، أَلَا وَإِنَّهُ سَيُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي، فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أَصْحَابِي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ، كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ، فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ، فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [المائدة: 118]، قَالَ: فَيُقَالُ لِي: إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذ فارقتهم».

 

قدموا المدينة فاجتووها.

قال النووي رحمه الله: “فَاجْتَوَوْهَا، هِيَ بِالْجِيمِ وَالْمُثَنَّاةِ فَوْقُ، وَمَعْنَاهُ: اسْتَوْخَمُوهَا كَمَا فَسَّرَهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، أَيْ: لَمْ تُوَافِقْهُمْ وَكَرِهُوهَا لِسَقَمٍ أَصَابَهُمْ” [شرح النووي على مسلم 11/ 154].

 

فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يشربوا من أبوال وألبان الإبل، ففعلوا، فصحت أجسادهم.

وهذه سنة مقيدة، ليست مطلقة، فيشربه من ثبت أن به داءً ينفع معه بول الإبل.

فهل ثبت أنَّ له فائدة طيبةً؟

لنترك المجال إلى أهل الشأن..

في رسالة الماجستير المقدمة من مهندس تكنولوجيا الكيمياء التطبيقية محمد أوهاج محمد، التي أجيزت من قسم الكيمياء التطبيقية بجامعة الجزيرة بالسودان، واعتمدت من عمادة الشئون العلمية والدراسات العليا بالجامعة في نوفمبر 1998م بعنوان: “دراسة في المكونات الكيميائية وبعض الاستخدامات الطبية لبول الإبل العربية”، يقول محمد أوهاج: “إن التحاليل المخبرية تدل على أن بول الجمل يحتوي على تركيز عالٍ من: البوتاسيوم، والبولينا، والبروتينات الزلالية، والأزمولارتي، وكميات قليلة من حامض اليوريك، والصوديوم، والكرياتين”.

وأوضح في هذا البحث أن ما دعاه إلى تقصي خصائص بول الإبل العلاجية هو ما رآه من سلوك بعض أفراد قبيلة يشربون هذا البول حينما يصابون باضطرابات هضمية، واستعان ببعض الأطباء لدراسة بول الإبل؛ حيث أتوا بمجموعة من المرضى ووصفوا لهم هذا البول لمدة شهرين، فصحت أبدانهم مما كانوا يعانون منه، وهذا يثبت فائدة بول الإبل في علاج بعض أمراض الجهاز الهضمي، كما أثبت أن لهذا البول فائدة في منع تساقط الشعر.

 

ثُمَّ مَالُوا عَلَى الرِّعَاءِ، فَقَتَلُوهُمْ وَارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَسَاقُوا ذَوْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

قتلوا،وارتدوا، ونهبوا!!

قتلوا الرعاة فكانوا شهداء.

في الموسوعة الفقهية: “ذهب الفقهاء إلى أن للظلم أثرا في الحكم على المقتول بأنه شهيد، ويقصد به غير شهيد المعركة مع الكفار، ومن صور القتل ظلما: قتيل اللصوص والبغاة وقطاع الطرق، أو من قتل مدافعا عن نفسه أو ماله أو دمه أو دينه أو أهله أو المسلمين أو أهل الذمة، أو من قتل دون مظلمة، أو مات في السجن وقد حبس ظلما.

واختلفوا في اعتباره شهيد الدنيا والآخرة، أو شهيد الآخرة فقط؟

فذهب جمهور الفقهاء: إلى أن من قتل ظلما يعتبر شهيد الآخرة فقط، له حكم شهيد المعركة مع الكفار في الآخرة من الثواب، وليس له حكمه في الدنيا، فيغسل ويصلى عليه. وذهب الحنابلة في المذهب: إلى أن من قتل ظلما فهو شهيد يلحق بشهيد المعركة في أنه لا يغسل ولا يصلى عليه” [29/ 174- 175].

ومن الأدلة على ذلك حديث البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أحدا، وأبو بكر، وعمر، وعثمان فرجف بهم، فقال: «اثبت أحد فإنما عليك نبي، وصديق، وشهيدان».

والشهيدان: الفاروق رضي الله عنه، الذي قتله مجوسي.

وعثمان رضي الله عنه الذي قتله الخوارج، وليسوا بكفار، فقد قال فيهم سيدنا علي رضي الله عنه: “هم من الكفر فروا”.

ونعتا بالشهادة لأنهما قتلا ظلماً.

 

وبعدما قتلوا الرعاة ارتدوا..

وهذا يبيِّن لك أن الهداية والثبات عليها من الله! أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يشربوا من ألبان وأبوال الإبل ففعلوا، وعُوفوا، بدلاً من أن يكون ما جرى لهم سبباً في رسوخ إيمانهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، ارتدوا بعد ذلك!!

أبو طالب الذي قال:

ولقد علمت بأن دين محمد

من خير أديان البرية ديناً

لولا الملامة أو حذار مسبة

لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً

يعلم أنه رسول الله، ولما حضرته الوفاة دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ: «أَيْ عَمِّ، قُلْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ» فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، تَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَلَمْ يَزَالاَ يُكَلِّمَانِهِ، حَتَّى قَالَ آخِرَ شَيْءٍ كَلَّمَهُمْ بِهِ: عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، مَا لَمْ أُنْهَ عَنْهُ» فَنَزَلَتْ: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجَحِيمِ﴾ [التوبة: 113]. وَنَزَلَتْ: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [القصص: 56].

فالهداية والثبات عليها من الله تعالى.

 

ثم ساقوا ذود رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: إبله.

 

فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَعَثَ فِي أَثَرِهِمْ فَأُتِيَ بِهِمْ، فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ، وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ، وَتَرَكَهُمْ فِي الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ، فَلَا يُسْقَوْنَ حَتَّى مَاتُوا.

فإن قيل: أليس قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المُثْلَة؟ فلماذا مُثِّل بهؤلاء؟!

فالجواب:

بلى، قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة.

قال الخطابي رحمه الله: “المثلة تعذيبُ المقتول بقطع أعضائه وتشويه خَلْقه قبل أن يقتل أو بعده، وذلك مثل أن يُجْدَعَ أنفُه أو أذنُه، أو يُفقأ عينُه، أو ما أشبه ذلك من أعضائه” [معالم السنن 2/ 280].

فقد ثبت عن عبد الله بن يزيد رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: “أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْمُثْلَةِ‏” رواه البخاري.

وعن بريدة رضي الله عنه قال قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ‏«اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ، فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا وَلاَ تَغُلُّوا، وَلاَ تَغْدِرُوا، وَلاَ تَمْثُلُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا» رواه مسلم.

وهؤلاء قوم فُعل بهم ما فعلوه في الرعاة.

“وَمَعْنَى سَمَّرَ بِالرَّاءِ كَحَّلَهَا بِمَسَامِيرَ مَحْمِيَّةٍ” [شرح النووي على مسلم 11/ 155].

وكل هذا الذي فُعل بهم كان قصاصاً.

قال أنس بن مالك رضي الله عنه: “إِنَّمَا سَمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْيُنَ أُولَئِكَ؛ لِأَنَّهُمْ سَمَلُوا أَعْيُنَ الرِّعَاءِ” رواه مسلم.

وقال ابن القيم رحمه الله: “وفيها من الفقه … أنه يفعل بالجاني كما فعل، فإنهم لما سملوا عين الراعي، سمل أعينهم [زاد المعاد  3 / 255].

وقال ابن حجر رحمه الله: “وفي هذا الحديث من الفوائد … المماثلة في القصاص ، وليس ذلك من المثلة المنهي عنها” [فتح الباري 1 / 341].

وقال الشيخ المفسر محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: “استشكل بعض العلماء تمثيله صلى الله عليه وسلم بالعُرَنيين؛ لأنه سمل أعينهم، مع قطع الأيدي والأرجل، مع أن المرتد يقتل ولا يمثل به … والتحقيق في الجواب: هو أنه صلى الله عليه وسلم فعل بهم ذلك قصاصا، وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم إنما سمل أعينهم قصاصا؛ لأنهم سملوا أعين رعاة اللِّقاح” [أضواء البيان 2/ 115 – 116].

وفي القرآن قول ربنا: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾ [النحل: 126]

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: “فأمّا التّمثيل في القتل فلا يجوز إلّا على وجه القصاص، وقد قال عمران بن حصين رضي اللّه عنهما: مَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْبَةً إلَّا أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ، وَنَهَانَا عَنْ الْمُثْلَةِ، حتى الكفار إذا قتلناهم فإنا لا نمثل بهم بعد القتل، ولا نجدع آذانهم وأنوفهم، ولا نبقُرُ بطونهم إلا أن يكونوا فعلوا ذلك بنا فنفعل بهم مثل ما فعلوا، والتّرك أفضل كما قال اللّه تعالى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ﴾” [مجموع الفتاوى 28/ 314].

وفي المنتقى شرح الموطأ (3/ 172) “مَنْ مَثَّلَ بِمُسْلِمٍ أَنْ يُمَثَّلَ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الْقِصَاصِ”.

رب صل وسلم على نبينا محمد.

شارك المحتوى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *