مقالات

مصلحون

بسم الله الرحمن الرحيم

مصلحون

 

الحمد لله، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛

فإن شريعة ربنا نادت إلى يكون المسلم مستقيماً صالحاً في نفسه، مصلحاً في مجتمعه بقيامه بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا موضوع خطبتنا هذه.

 

تعريف المعروف والمنكر

المعروف: اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه، والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع، والمنكر اصطلاحا: كل ما قبَّحه الشرع وحرمه ونهى عنه.

 

أهمية القيام بهما

تبين أهمية القيام بهذه الشعيرة أحاديث في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها:

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الإسلام أن تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتسليمك على أهلك، فمن انتقص شيئا منهن فهو سهم من الإسلام يدعه، ومن تركهن فقد ولى الإسلام ظهره» رواه الحاكم.

فهي من فرائض دين الإسلام.

وقال صلى الله عليه وسلم: «الإسلام ثمانية أسهم، الإسلام سهم (أي: التوحيد)، والصلاة سهم، والزكاة سهم، والصوم سهم، وحج البيت سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم، والجهاد في سبيل الله سهم، وقد خاب من لا سهم له»  رواه البزار.

ومصلحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تربو على مفسدة الجلوس في الطرقات، ولذا أذن النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة في ذلك بشرط القيام بهما، ففي الصحيحين، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والجلوس على الطرقات»، فقالوا: ما لنا بد، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها. قال: «فإذا أتيتم إلى المجالس فأعطوا الطريق حقها». قالوا: وما حق الطريق؟ قال: «غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر».

وثبت في مسلم عن تميم بن أوس الداري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة»، قال: قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم».

 

الأمر بالإصلاح

قال تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران/104].

وقال تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف/199]. والعرف: كل قول حسن وفعل جميل.

والصالحون يوصون أبناءهم بالقيام بهما، قال لقمان لابنه: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [لقمان/17].

وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: “بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم”  رواه البخاري ومسلم.

 

مراتب تغيير المنكر

ثلاثة مراتب، يبينها حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» رواه مسلم.

فيغير بيده إذا كانت له ولاية عامة أو خاصة على مرتكب المنكر كسلطان وزج وأب.

وإلا فإنه يغير بيده ما لم يؤدي التغيير إلى منكر أكبر.

فإن خيف الضرر انتقل إلى التغيير باللسان أو القلب.

 

النهي عن التفريط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام خطيبا فكان فيما قال: «ألا لا يمنعن رجلا هيبةُ الناس أن يقول بحق إذا علمه» رواه ابن ماجه.

 

الترغيب في القيام بالإصلاح والأمر والنهي

القيام بهما إيمان بالله

قال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [التوبة/71].

وثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا مِنْ نَبيٍّ بَعَثَهُ اللهُ في أمَّة قَبْلِي إلاَّ كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأصْحَابٌ، يَأخُذُونَ بِسنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ، يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لا يُؤْمَرونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلبِهِ فَهُوَ مُؤمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلسَانِهِ فَهُوَ مُؤمِنٌ، وَلَيسَ وَرَاءَ ذلِكَ مِنَ الإيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَل» رواه مسلم.

والحواريون: الأنصار. قل تعالى: ﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ﴾ [آل عمران/52]

والقيام بهما سنة نبينا صلى الله عليه وسلم

قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [الأعراف/157].

والقيام بهما من الصدقات

قال صلى الله عليه وسلم: «وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة» رواه مسلم. وإنما كان صدقة؛ لأنه دليل على صدق إيمان فاعليه.

والخيرية إنما تنال بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران/110].

وقال: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء/114].

والإصلاح فلاح في الدراين

قال تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران/104].

وهو من أسباب دخول الجنة

قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة/111، 112].

وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: جاء أعرابي فقال: يا نبي الله علمني عملا يدخلني الجنة، قال: «لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة؛ أعتق النسمة، وفك الرقبة». قال: أوليستا بواحد؟ قال: «لا، إن عتق النسمة أن تفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في عتقها، والمنحة الوكوف، والفيء على ذي الرحم الظالم، فإن لم تطق ذلك فأطعم الجائع، واسق الظمآن، وأمر بالمعروف، وانه عن المنكر. فإن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من الخير» رواه أحمد.

 

الترهيب من التفريط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

تركهما سبب لعدم استجابة الدعاء

عن عائشة رضي الله عنها قالت دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم فعرفت في وجهه أن قد حضره شيء، فتوضأ وما كلم أحدا، فلصقت بالحجرة أستمع ما يقول، فقعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: «يا أيها الناس، إن الله يقول لكم: مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَانْهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ، مِنْ قَبْلِ أَنْ تَدْعُونِي فَلَا أُجِيبُكُمْ، وَتَسْأَلُونِي فَلَا أُعْطِيكُمْ، وَتَسْتَنْصِرُونِي فَلَا أَنْصُرُكُمْ» رواه أحمد وابن ماجه وابن حبان.

وتركهما جالب للعنة الله

قال تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [المائدة/78، 79]. تلك عقوبة أصابت أمة سابقة، وربنا يقول: ﴿ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ﴾ [هود/83].

ولا فرق عند الله بين من فعل المنكر ومن لم يتمعر وجهه ويقوم بتغييره

عن عرس بن عميرة الكندي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فأنكرها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها» رواه أبو داود.

وهل أدل على ذلك من قول الله تعالى: ﴿قال إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [الحجرات/4]؟ فالذي نادى على رسول الله صلى الله عليه وسلم واحد فقط، فتأمل كيف أشرك الله معه غيره في فعل لم يفعلوه لكنهم لم ينكروه، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ﴾، ولم يقل: إن الذي ينادي عليك!

وأوضح منها في الدلالة على ذلك: أن الذي عقر ناقة صالح عليه السلام واحد، قال تعالى: ﴿فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ﴾ [القمر/29]، وهو قُدَّار بن سالف، ولما سكت من معه وأقره على باطله أشركهم الله في الحكم والعقوبة، قال ربنا: ﴿فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ [الأعراف/77، 78]، وقال: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا﴾ [الشمس/14].

إن ترك الإصلاح سبب لنزول العقاب الإلهي، ولا نجاة بعد نزوله إلا للمصلحين

عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «مَثَلُ القَائِمِ في حُدُودِ اللهِ وَالوَاقعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَومٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فَصَارَ بَعْضُهُمْ أعْلاها وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، وَكَانَ الَّذِينَ في أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أنَّا خَرَقْنَا في نَصِيبِنَا خَرْقاً وَلَمْ نُؤذِ مَنْ فَوقَنَا، فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَمَا أرَادُوا هَلَكُوا جَميعاً، وَإنْ أخَذُوا عَلَى أيدِيهِمْ نَجَوا وَنَجَوْا جَميعاً» رواه البخاري.

والقَائِمُ في حُدُودِ اللهِ تَعَالَى: القائم في دفعِ المنكرات وإزالتِها، وَالمُرادُ بالحُدُودِ: مَا نَهَى الله عَنْهُ.

وعن زينب بنت جحش رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعا يقول: «لا إله إلا الله! ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه»، وحلق بين أصبعيه الإبهام والتي تليها، قالت: فقلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث» رواه البخاري ومسلم.

وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه ولا يغيرون إلا أصابهم الله منه بعقاب قبل أن يموتوا» رواه أبو داود.

وربنا يقول: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ [هود/117].

ويقول في شأن من اعتدى من يهود في السبت: ﴿أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ [ الأعراف/165].

رب صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

شارك المحتوى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *