مقالات

قصة شهيد (7) غسيل الملائكة

بسم الله الرحمن الرحيم

قصة شهيد (7)

غسيل الملائكة

خطبة 12 جُمادى الآخرة 1446 | 13/ 12/ 2024م

دنقلا، مسجد الهداية بحي الهدى (7)

مهران ماهر عثمان

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛

فالموعد اليوم مع غسيل الملائكة، حَنْظَلَة بن أبي عامر رضي الله عنه الذي استشهد في أحد.

هل يغسل الشهيد؟

نص المالكيَّة والشافعية والحنابلة على تحريمِ غُسلِ الشَّهيد، فالشهيد لا يغسل عند جمهور العلماء؛ لحديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يَقُولُ: «أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ»، فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ، وَقَالَ: «أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلاَءِ يَوْمَ القِيَامَةِ»، وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ فِي دِمَائِهِمْ، وَلَمْ يُغَسَّلُوا، وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ.

ما هي الحكمة من ذلك؟

للإبقاء على أثر العبادة.

فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَتْلَى أُحُدٍ: «زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ كَلْمٌ يُكْلَمُ فِي اللَّهِ إِلَّا يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدْمَى، لَوْنُهُ لَوْنُ الدَّمِ، وَرِيحُهُ رِيحُ الْمِسْكِ» رواه النسائي.

فما قصة شهيدنا؟ ([1]).

تزوج جميلة بنتَ عبد الله بن أبي بن سلول، أبوها رأس المنافقين، وهي من الصحابيات رضي الله عنهن، قال تعالى: ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾ [الأنعام: 95]، ومن أوجه التفسير لهذه الآية: أن المراد: “إخراج المؤمن الحي بالإيمان من الكافر الميت بالكفر” [زاد المسير في علم التفسير 1/ 271].

فأدخلت عليه في الليلة التي في صبحها قتال أحد، وكان قد استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيت عندها فأذن له، فبات عند زوجه، وصلى الفجر مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عاد إلى زوجه وأصابها وأجنب منها، وخرج إلى أحد.

وهذا يدل على جواز تأخير الغسل لمن وجب عليه ما لم يخرج وقت الصلاة التي تليه.

ففي الصحيحين، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَهُ فِي بَعْضِ طَرِيقِ المَدِينَةِ وَهُوَ جُنُبٌ، فَانْخَنَسَ مِنْهُ([2])، فَذَهَبَ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: «أَيْنَ كُنْتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ» قَالَ: كُنْتُ جُنُبًا، فَكَرِهْتُ أَنْ أُجَالِسَكَ وَأَنَا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، فَقَالَ: «سُبْحَانَ اللَّهِ، إِنَّ المُسْلِمَ لاَ يَنْجُسُ».

وبوب له البخاري رحمه الله: “بَابٌ: الجُنُبُ يَخْرُجُ وَيَمْشِي فِي السُّوقِ وَغَيْرِهِ” [صحيح البخاري 1/ 65].

قال ابن حجر رحمه الله: “وَفِيهِ جَوَازُ تَأْخِيرِ الِاغْتِسَالِ عَنْ أَوَّلِ وَقت وُجُوبه” [فتح الباري لابن حجر 1/ 391].

وقال النووي رحمه الله: “هذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي طَهَارَةِ الْمُسْلِمِ حَيًّا وَمَيِّتًا” [شرح النووي على مسلم 4/ 66].

أخذ حنظلة بن أبي عامر سلاحه، ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد وهو يسوي الصفوف.

فلما انكشف المشركون اعترض حنظلة ابن أبى عامر لأبي سفيان بن حرب فضرب عرقوب فرسه فوقع منها أبو سفيان إلى الأرض، فجعل يصيح: يا معشر قريش، أنا أبو سفيان بن حرب! وحنظلة يريد ذبحه بالسيف، فأسمع الصوت رجالا لا يلتفتون إليه من الهزيمة، وهذا في بداية المعركة قبل أن يبرح الرماة أماكنهم، حتى عاينه الأَسْوَدُ بن شَعُوب، فطعن حنظلة بالرمح.

لم يستسلم شهيدُنا رضي الله عنه!

مشى حنظلة إليه بالرمح، فضربه الثانية فقتله، وهرب أبو سفيان يعدو على قدميه، حتى لحق بقريش.

فمرَّ به أبوه وكان في جيش المشركين، فرآه وهو مقتول إلى جنب حمزة بن عبد المطلب وعبد الله بن جحش رضي الله عنهما، فقال:

“إن كنتُ لأحذرك هذا الرجل (يريد نبينا صلى الله عليه وسلم) من قبل هذا الـمَصْرَع، والله إن كنت لباراً بوالدك، شريفاً في حياتك، وإن مماتك لمع سَرَاةِ([3]) أصحابك وأشرافِهم، وإن جزى الله هذا القتيل (يريد حمزة) خيرا، أو أحدا من أصحاب محمد، فجزاك الله خيرا”.

ثم نادى: “يا معشر قريش، حنظلة لا يمثل به وإن كان خالفني وخالفكم”.

فمُثِّلَ بشهداء أحد، وترك فلم يمثَّل به.

غسيل الملائكة

في المستدرك على الصحيحين للحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعد استشهاد حنظلة: «إِنَّ صَاحِبَكُمْ تُغَسِّلُهُ الْمَلَائِكَةُ». فَسَأَلُوا صَاحِبَتَهُ فَقَالَتْ: إِنَّهُ خَرَجَ لَمَّا سَمِعَ الْهَائِعَةَ([4]) وَهُوَ جُنُبٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِذَلِكَ غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ»، وصححه الألباني في الصحيحة (326).

فهل غسلته الملائكة في الأرض أم في السماء؟

قالت زوجته: “رأيت كأنَّ السماء فُرِجَت، فدخل فيها حنظلة، ثم أطبقت، فقلت: هذه الشهادة! فأشهدت عليه أنه قد دخل بها” [المغازي للواقدي 1/ 274].

فأعيد ورأسة يقطر ماءً [المغازي للواقدي 1/ 274].

فهل يدل ذلك على أن الشهيد يُغسَّل إذا استشهد وهو جنب؟

قال ابن عثيمين رحمه الله: “فإن كان الشهيد جنُباً فقد اختلف العلماء في تغسيله، والراجح أنه لا يُغسل؛ إذ لا فرق بين الجُنب وغيره، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يغسل الذين قتلوا في أُحد، ولأن الشهادة تكفر كل شيء. أما ما يُذكر من أن عبد الله بن حنظلة غسلته الملائكة فهذا إن صح([5]) فليس فيه دليل على أنه يُغسله البشر؛ لأن تغسيل الملائكة له ليس شيئاً محسوساً لنا، وأحكام البشر لا تقاس على أحكام الملائكة، وما حصل لحنظلة رضي الله عنه هو من باب الكرامة وليس من باب التكليف” [الشرح الممتع 5/ 365].

بمثل حنظلة يفاخر الناس.

عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: “افْتَخَرَ الْحَيَّانِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، فَقَالَ الْأَوْسُ مِنَّا أَرْبَعَةٌ، وَقَالَ الْخَزْرَجُ: مِنَّا أَرْبَعَةٌ، قَالَ الْأَوْسُ: مِنَّا مَنِ اهْتَزَّ لَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَمِنَّا مَنْ عَدَلَتْ شَهَادَتُهُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ، وَمِنَّا مَنْ غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ حَنْظَلَةُ بْنُ الرَّاهِبِ وَمِنَّا مَنْ حَمَى لَحْمَهُ الدَّبْرُ: عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ الْأَفْلَحِ، وَقَالَ الْخَزْرَجُ: مِنَّا أَرْبَعَةٌ جَمَعُوا الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمْ يَجْمَعْهُ غَيْرُهُمْ: أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو زَيْدٍ “، قُلْتُ لِأَنَسٍ: مَنْ أَبُو زَيْدٍ؟ قَالَ: “أَحَدُ عُمُومَتِي” رواه الطبراني في الكبير، وصحَّحه الألبانيُّ في الإرواء (3/ 168).

رب صل وسلم على نبينا محمد.

[1] / يُنظر: المغازي للواقدي (1/ 273- 274).

[2] / تأخَّر عنه.

[3] / أفضلهم وأعلاهم شأناً.

[4] / الهائعة: الصوت الشديد، والمراد هنا: منادي الجهاد.

.

[5] / تقدم أنه صحيح كما في السلسلة الصحيحة للألباني، وممن صحَّحه الشيخ مصطفى العدوي.

شارك المحتوى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *