مقالات

قصة شهيد (8) شهداء بدر

بسم الله الرحمن الرحيم

قصة شهيد (8)

شهداء بدر

خطبة 19 جُمادى الآخرة 1446 | 19/ 12/ 2024م

دنقلا، مسجد الهداية بحي الهدى (7)

مهران ماهر عثمان

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛

فمن سادات الشهداء: شهداء بدر الكبرى.

وغزوة بدر معركة فاصلة في تاريخ الإسلام كله، وقد سُمِّيت بهذا الاسم نسبةً إلى مكان بئر بدر بين مكة والمدينة النبوية.

وسميت في القرآن بيوم الفرقان؛ قال تعالى: ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الفُرْقَانِ﴾ [الأنفال:41]، فبها فرِّق بين الحق والباطل.

كانت في يوم الجمعة السابع عشر من رمضان، في السنة الثانية من الهجرة.

عدد من خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثُمائة وتسعة عشر رجلاً.

استشهد منهم أربعة عشر.

وكل نص جاء في بيان فضل أهل بدر يدخل فيه هؤلاء الشهداء الذين منّ الله عليهم بشُهود بدرٍ وبالاستشهاد فيها.

 

فضل أهل بدر

زكى الله إيمانهم وبيَّن صدقهم

فقال: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنفال: 17].

أي: ” فلم تقتلوا -أيها المؤمنون- يوم بدر المشركين بحولكم وقوتكم، ولكن الله أعانكم على ذلك، وما رميت -أيها النبي- المشركين حين رميتهم، ولكن الله هو الذي رماهم حين أوصل رميتك إليهم، وليختبر المؤمنين بما أنعم عليهم من إظهارهم على عدوهم مع ما هم فيه من قلة العَدَدِ والعُدَدِ ليشكروه، إن الله سميع لدعائكم وأقوالكم، عليم بأعمالكم، وبما فيه صلاحكم” [المختصر في تفسير القرآن الكريم، ص: 179].

وقال: ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ﴾ [آل عمران: 124].

وقال تعالى: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الأنفال: 12].

وبين لنا ربنا أنهم خرجوا للقتال في سبيل الله فقال : ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْىَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِى ذلِكَ لَعِبْرَةً لأوْلِى الأبْصَارِ﴾ [آل عمران:13].

اعملوا ما شئتم

لما أرسل حاطب إلى أهل مكة يخبرهم بمقدم النبي صلى الله عليه وسلم قال له صلى الله عليه وسلم: «يَا حَاطِبُ مَا هَذَا»؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا تَعْجَلْ، عَلَيَّ، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ([1]) وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي، وَمَا فَعَلْتُ كُفْرًا وَلَا ارْتِدَادًا وَلَا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ صَدَقَكُمْ». قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ. قَالَ: «إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ» رواه الشيخان.

قال ابن حجر رحمه الله: “الرَّاجِحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الذُّنُوبَ تَقَعُ مِنْهُمْ لَكِنَّهَا مَقْرُونَةٌ بِالْمَغْفِرَةِ تَفْضِيلًا لَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْمَشْهَدِ الْعَظِيمِ”([2]).

أفضل خلق الله.

وعَنْ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ عَنْ أَبِيهِ -وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ – قَالَ جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا تَعُدُّونَ أَهْلَ بَدْرٍ فِيكُمْ ؟ قَالَ: «مِنْ أَفْضَلِ الْمُسْلِمِينَ» -أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا -قَالَ: وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنْ الْمَلَائِكَة. رواه البخاري.

قوم حفظ الله بهم دينه.

عن عمر بن الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: «اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ». فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ، مَادًّا يَدَيْهِ، مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ.  فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ رواه مسلم.

وفيه:

  • أهمية الدعاء وأنه من أسباب النصر على الأعداء.
  • التضرع لله هدي الأنبياء.
  • أن الله تعالى سميع الدعاء.

 

من خبر شهدائهم

في صحيح مسلم قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم بدر: «قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ»، فقال عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ:  يَا رَسُولَ اللهِ، جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: بَخٍ بَخٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ؟» قَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا، قَالَ: «فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا»، فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، قَالَ: فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ.

أيُّ شوقٍ إلى لقاء الله هذا الذي جعل عمير بن الحُمام يقول ذلك بعدما بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة: “لئن بقيت حتى آكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة”!!

ما أسعد من عرف حقيقة الدنيا وهيأ نفسه لما بعدها!

وجاءت أُمُّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ إلى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَلَا تُحَدِّثُنِي عَنْ حَارِثَةَ؟- وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ([3])– فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ صَبَرْتُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ فِي الْبُكَاءِ. قَالَ :«يَا أُمَّ حَارِثَةَ إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى» رواه البخاري.

قال ابن كثير رحمه الله: “وفي هذا تنبيه عظيم على فضل أهل بدر؛ فإنَّ هذا لم يكن في ساحة القتال ولا في حومة الوغى بل كان من النظارة من بعيد، وإنما أصابه سهم غرب وهو يشرب من الحوض ومع هذا أصاب بهذا الموقف الفردوسَ”([4]).

والنَّظَّارة من يخرج مع الجيش لغير القتال، هذا حاله، فما بالك بمن قاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم؟!!

قال ابن حجر -معلقا على قول أمه: اجتهدت عليه في البكاء-: “كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ النَّوْحِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ فَإِنَّ تَحْرِيمَهُ كَانَ عَقِبَ غَزْوَةِ أُحُدٍ وَهَذِهِ الْقِصَّةُ كَانَتْ عَقِبَ غَزْوَةِ بَدْرٍ”([5]).

أعظم دروس غزوة بدر

أن ما اختاره الله لنا أبرك مما يختاره العبد لنفسه.

قال تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ﴾ [البقرة:216]، وفي النساء: ﴿ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 19]. فلقد كان رغبة من خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم ملاقاة العير، قال الله: ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ الله أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾ [الأنفال: 5 – 8]. فالمؤمن بطبعه يكره التعرض لمعامع القتال ومواقع النزال، لكن كيف يكون الحال إذا منَّ الله عليه بالشهادة في هذا المكان الذي كان يكره المجيء إليه؟! في الحديث المتفق عليه عن أنس رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُوتُ، لَهُ عِنْدَ الله خَيْرٌ، يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، وَأَنَّ لَهُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، إِلَّا الشَّهِيدَ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى»! فعلى المسلم أن يسلم لأمر الله، فإنه لا يدري أين الخير لنفسه، فخيرة الله لنا خير من خيرة أنفسنا لأنفسنا، ﴿وَالله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216 و232، وآل عمران: 66، والنور: 19].

رب صل وسلم على نبينا محمد.

 

[1] / غريباً فيهم ولست منهم.

[2] / فتح الباري لابن حجر (8/ 480).

[3] / هو الذي لا يعلم راميه، أو لا يعرف من أين أتى، أو جاء دون قصد راميه .

[4] / البداية والنهاية (3/361).

[5] /  فتح الباري لابن حجر (6/ 27).

شارك المحتوى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *