قصة شهيد (6) ظليل الملائكة
بسم الله الرحمن الرحيم
قصة شهيد (6)
ظليل الملائكة
خطبة 05 جمادى الآخرة 1446 | 06/ 11/ 2024م
دنقلا، مسجد الهداية بحي الهدى (7)
مهران ماهر عثمان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛
فالموعد اليوم مع ظليل الملائكة، عبدِ الله بن عمرو بن حَرام، والد جابرٍ رضي الله عنهما.
شهد بدراً، واستشهد في أحد.
وسيأتي الحديث بمشيئة الله عن شهداء بدر وما لهم من المكانة عبد الله تعالى.
وصية عبد الله بن عمرو
في صحيح البخاري عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: “لَمَّا حَضَرَ أُحُدٌ دَعَانِي أَبِي مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ: مَا أُرَانِي إِلَّا مَقْتُولًا فِي أَوَّلِ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنِّي لاَ أَتْرُكُ بَعْدِي أَعَزَّ عَلَيَّ مِنْكَ، غَيْرَ نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ عَلَيَّ دَيْنًا فَاقْضِ، وَاسْتَوْصِ بِأَخَوَاتِكَ خَيْرًا، فَأَصْبَحْنَا فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ”.
وفي وصيته دروس:
توقع عبد الله رضي الله عنه أمرين:
أنه سيكون شهيداً، وسيكون أول من قتل، وقد صدق توقُّعُه.
فكان أول قتيل كما قال ابنه جابر.
ومنها: أنه أخبر ولده بما له من المكانة في نفسه، وبمحبته له، وهذا أمر ينبغي أن يفعله الوالد مع ولده.
ومنها: وصيته لولده بأخواته.
وهذا من البر بالوالد بعد موته، أن يحسن الإخوة بعضهم إلى بعض، وألا ينقطع التواصل بينهم بعد موت أبيهم. جاء رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ بَقِيَ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا؟ قَالَ: «نَعَمْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا، وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا تُوصَلُ إِلَّا بِهِمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا» واه أبو داود.
ومن الدروس: اهتمامه بقضاء دينه.
كيف لا! وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلَّا الدَّيْنَ» رواه مسلم.
فكيف بغير الشهيد؟ وكيف بالاعتداء على حقوق الناس!؟
ظليل الملائكة
قال جابرٌ: أُصِيبَ أَبِي يَوْمَ أُحُدٍ، فَجَعَلْتُ أَكْشِفُ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ، وَأَبْكِي وَجَعَلُوا يَنْهَوْنَنِي، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنْهَانِي، قَالَ: وَجَعَلَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَمْرٍو، تَبْكِيهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَبْكِين، أَوْ لَا تَبْكِين، مَا زَالَتِ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا، حَتَّى رَفَعْتُمُوهُ» متفق عليه.
ولهذا الحديث لُقِّب عبد الله بظليل الملائكة.
لم ينه النبي صلى الله عليه وسلم جابراً عن كشف وجهه وعن البكاء عليه، وهذا يدل على جواز ذلك، إنما حرَّم النبي صلى الله عليه وسلم النياحة.
وفي الصحيحين لما بكى النبي صلى الله عليه وسلم على إبراهيم ابنه قال له عبد الرحمن بن عَوْفٍ رضي الله عنه: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ»، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، وَالقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلاَ نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ».
كلَّمه ربُّه!
قال جابر بنُ عَبْدِ اللهِ، يَقُولُ: لَقِيَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِي: يَا جَابِرُ مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ اسْتُشْهِدَ أَبِي، وَتَرَكَ عِيَالاً وَدَيْنًا، قَالَ: أَفَلاَ أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللَّهُ بِهِ أَبَاكَ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلاَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَأَحْيَا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا. فَقَالَ: يَا عَبْدِي تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ. قَالَ: يَا رَبِّ تُحْيِينِي فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيَةً. قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لاَ يُرْجَعُونَ قَالَ: وَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا﴾ رواه الترمذي.
وفيه: المواساة بالكلمة.
وفيه: السؤال عن حال المسلم، والاهتمام به.
وفيه: جواز أن يقال فلان شهيد.
ومن أدلة الجواز هذا الحديث، وحديثٌ في صحيح مسلم، عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ، أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: فُلَانٌ شَهِيدٌ، فُلَانٌ شَهِيدٌ، حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ، فَقَالُوا: فُلَانٌ شَهِيدٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَلَّا، إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فِي عَبَاءَةٍ غَلَّهَا».
ولم ينه أصحابه عن هذه الكلمة.
وأما قول البخاري رحمه الله في الصحيح: “باب لاَ يَقُولُ فُلاَنٌ شَهِيدٌ”، فالمراد ما قاله ابن حجر رحمه الله: “أَيْ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ بِذَلِكَ إِلَّا إِنْ كَانَ بِالْوَحْيِ… فَالْمُرَادُ النَّهْيُ عَنْ تَعْيِينِ وَصْفِ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ بِأَنَّهُ شَهِيدٌ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْإِجْمَال”([1]).
وفيه مكانة هذا الصحابي رضي الله عنه.
وفيه: مكانة الشهادة، فلا أحد من الصالحين يحب أن يعود إلى الدنيا بعد أن يكرمه الله تعالى بما أعده له في برزخه سوى الشهيد، يتمنى أن يعود ليقتل ثانية.
ففي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ، لَهَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ، يَسُرُّهَا أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى الدُّنْيَا، وَلَا أَنَّ لَهَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، إِلَّا الشَّهِيدُ، فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ، فَيُقْتَلَ فِي الدُّنْيَا لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ».
ولا تعارض بين هذا الحديث وبين قول ربنا: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الشورى: 51]، فالمراد من الآية أن هذا لا يقع في الدنيا، وأحوال البرزخ والآخرة غير أحوال الدنيا.
وفيها: أن من صدق في إرادة قضاء الدين وأوصى لم يُحَلْ بينه وبين نعيم القبر.
فقد ثبت عند الترمذي قول نبينا صلى الله عليه وسلم: «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ»، والمراد: “مَحْبُوسَةٌ عَنْ مَقَامِهَا الْكَرِيمِ”([2]).
وهذا فيمن لم يوص ولم يصدُق.
قصة قضاء دينه
في صحيح البخاري، أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَخْبَرَهُ: أَنَّ أَبَاهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَاشْتَدَّ الغُرَمَاءُ فِي حُقُوقِهِمْ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَهُمْ أَنْ يَقْبَلُوا تَمْرَ حَائِطِي وَيُحَلِّلُوا أَبِي، فَأَبَوْا، فَلَمْ يُعْطِهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَائِطِي، وَقَالَ: «سَنَغْدُو عَلَيْكَ»، فَغَدَا عَلَيْنَا حِينَ أَصْبَحَ، فَطَافَ فِي النَّخْلِ وَدَعَا فِي ثَمَرِهَا بِالْبَرَكَةِ، فَجَدَدْتُهَا([3])، فَقَضَيْتُهُمْ، وَبَقِيَ لَنَا مِنْ تَمْرِهَا.
عرض النبي صلى الله عليه وسلم على الدائنين أن يأخذوا الحائط ويسقطوا الدين، فأبوا خوفا من ألَّا يفيَ ذلك بديونهم، وكان الثمر قليلاً، فدعا بالبركة فكثُر، فقُضِي الدين وبقي منه.
لم تأكله الأرض!
قال جابر: ودفن مَعَ أبي آخَرُ فِي قَبْرٍ، ثُمَّ لَمْ تَطِبْ نَفْسِي أَنْ أَتْرُكَهُ مَعَ الآخَرِ، فَاسْتَخْرَجْتُهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا هُوَ كَيَوْمِ وَضَعْتُهُ هُنَيَّةً عند أذنه” رواه البخاري.
والهَنَةُ الشيء، فصغرها وقال: هُنيّة؛ لكون الذي طرأ على أذنه شيء يسير.
وبعد أن جعله في قبر واحد جاء سيل فألصق القبرين مرة أخرى فكانا كالقبر الواحد.
قال ابن حجر رحمه الله: “خَرَقَ –أي: السيل- أَحَدَ الْقَبْرَيْنِ فَصَارَا كقبر وَاحِد”([4]).
وفي الموطأ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْجَمُوحِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيَّيْنِ ثُمَّ السَّلَمِيَّيْنِ كَانَا قَدْ حَفَرَ السَّيْلُ قَبْرَهُمَا، وَكَانَ قَبْرُهُمَا مِمَّا يَلِي السَّيْلَ، وَكَانَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، وَهُمَا مِمَّنْ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَحُفِرَ عَنْهُمَا لِيُغَيَّرَا مِنْ مَكَانِهِمَا فَوُجِدَا لَمْ يَتَغَيَّرَا كَأَنَّهُمَا مَاتَا بِالْأَمْسِ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا قَدْ جُرِحَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى جُرْحِهِ فَدُفِنَ وَهُوَ كَذَلِكَ فَأُمِيطَتْ يَدُهُ عَنْ جُرْحِهِ ثُمَّ أُرْسِلَتْ فَرَجَعَتْ كَمَا كَانَتْ، وَكَانَ بَيْنَ أُحُدٍ وَبَيْنَ يَوْمَ حُفِرَ عَنْهُمَا سِتٌّ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً. رواه مالك في الموطأ.
رب صل وسلم على نبينا محمد.
[1] / فتح الباري لابن حجر (6/ 90).
[2] / مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (5/ 1948).
[3] / الجِدادُ: صِرام النخل وقطع التمر.
[4] / فتح الباري لابن حجر (3/ 216).