مقالات

عذاب القبر

بسم الله الرحمن الرحيم

عذاب القبر

22 جمادى الآخرة 1437هـ

مهران ماهر عثمان

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛

فالحياة التي يعيشها الإنسان تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

1- الحياة الدنيا، والتي تنتهي بالموت.

2- حياة البرزخ، وهي التي تكون بعد الموت إلى قيام الساعة.

3- حياة الآخرة، وهي التي تكون بعد قيام الناس من قبورهم.

ولا ريب أن في القبر عذاباً، وهذه مباحث مهمة تتعلق بذلك.

 

عذاب القبر في القرآن

فمن أدلة القرآن الكريم على ذلك:

1/

قوله تعالى: ﴿وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ سورة غافر (45-46)

قال ابن كثير رحمه الله: “﴿وحاق بآل فرعون سوء العذاب﴾، وهو الغرق في اليم، ثم النقلة منه إلى الجحيم، فإن أرواحهم تعرض على النار صباحاً ومساءً إلى قيام الساعة، فإذا كان يوم القيامة اجتمعت أرواحهم وأجسادهم في النار، ولهذا قال: ﴿ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب﴾ أي: أشده ألما وأعظمه نكالاً. وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور” [تفسير القرآن العظيم (4/103)].

وعرض الروح على العذاب عذاب، كما في الآية، ﴿وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ﴾.

والعجيب أن بعض الناس يؤمن بذلك، ويستنكف أن يسمي ذلك عذاباً، فيقول: ليس في القبر عذاب، ويؤمن بأن أرواح الكفار تُعرض على النار، وهذا نوع من العذاب بنص الآية الكريمة.

وفي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة» رواه البخاري ومسلم.

والغُدْوَة ما بين صلاة الغَدَاةِ وطُلُوع الشَّمْس.

والعَشِيُّ: الوقت من زوال الشَّمس إِلى المغرب، أَو من صلاة المغرب إِلى العَتَمَةِ.

2/

قال تعالى: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾  [التكاثر/1-8].

قال ابن جرير رحمه الله: “﴿حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾: يعني: حتى صرتم إلى المقابر فدفنتم فيها؛ وفي هذا دليل على صحة القول بعذاب القبر؛ لأن الله تعالى ذكره، أخبر عن هؤلاء القوم الذين ألهاهم التكاثر، أنهم سيعلمون ما يلقون إذا هم زاروا القبور وعيدا منه لهم وتهدّدا.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل”.

ثم أورد تفسير علي رضي الله عنه لها: “عن علي، قال: نزلت ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾ في عذاب القبر” [تفسير الطبري (ج24/ص580)].

3/

قال ربنا: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ﴾ [التوبة/101].

قال مجاهد رحمه الله: “﴿سنعذبهم مرتين﴾، بالجوع، وعذاب القبر. قال: ﴿ثم يردون إلى عذاب عظيم﴾، يوم القيامة”. وهو قول قتادة، والربيع بن أنس [ينظر: تفسير الطبري (ج14/ص442)].

4/

ومن أدلة القرآن على العذاب في البرزخ قوله تعالى: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا﴾ [نوح/25].

والفاء العاطفة تدل على الترتيب والتعقيب كما لا يخفى.

الأدلة من السنة النبوية على إثبات عذاب القبر، وأسباب العذاب فيه

وأما السنة النبوية فأحاديثها أشد وضوحاً في إثبات ذلك من الشمس في رابعة النهار، فمن ذلك:

1/

أمر النبي صلى الله عليه وسلم لنا أن نستعيذ بالله من عذاب القبر بعد التشهد، فقد قال: «إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ: يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ» رواه مسلم.

ولولا أنه حقٌّ لما أمر بالتعوُّذ منه.

2/

عن عوف بن مَالِكٍ رضي الله عنه، قال: صَلَّى رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَنَازَةٍ، فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِهِ وَهُوَ يَقُولُ: «اللهمَّ اغْفِرْ لَهُ، وَارْحَمْهُ، وَعَافِهِ، وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنْ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الْأَبْيَضَ مِنْ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ، وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وعَذَابِ النَّارِ» قَالَ: حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْمَيِّتَ. رواه مسلم.

وعافه، أي: مما يسوؤه في قبره ومعاده.

فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالنجاة من عذاب القبر، مما يدل على وقوعه، ولو لم يكن واقعاً لكان الدعاء بذلك عبثاً، ورسولنا صلى الله عليه وسلم منزه عن ذلك.

3/

عن أَبِي أَيُّوب رضي الله عنه قَالَ:خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ وَجَبَتْ الشَّمْسُ فَسَمِعَ صَوْتًا فَقَالَ: «يَهُودُ تُعَذَّبُ فِي قُبُورِهَا» رواه الشيخان.

4/

عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَيَّ عَجُوزَانِ مِنْ عُجُزِ يَهُودِ الْمَدِينَةِ فَقَالَتَا لِي: إِنَّ أَهْلَ الْقُبُورِ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ. فَكَذَّبْتُهُمَا وَلَمْ أُنْعِمْ أَنْ أُصَدِّقَهُمَا، فَخَرَجَتَا وَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عَجُوزَيْنِ وَذَكَرْتُ لَهُ فَقَالَ: «صَدَقَتَا، إِنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ عَذَابًا تَسْمَعُهُ الْبَهَائِمُ كُلُّهَا». قالت: فَمَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ فِي صَلَاةٍ إِلَّا تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. أخرجه الشيخان.

5/

قال زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رضي الله عنه: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَائِطٍ لِبَنِي النَّجَّارِ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ وَنَحْنُ مَعَهُ إِذْ حَادَتْ بِهِ، فَكَادَتْ تُلْقِيهِ، وَإِذَا أَقْبُرٌ سِتَّةٌ أَوْ خَمْسَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ، فَقَالَ: «مَنْ يَعْرِفُ أَصْحَابَ هَذِهِ الْأَقْبُرِ»؟ فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا. قَالَ:«فَمَتَى مَاتَ هَؤُلَاءِ»؟ قَالَ: مَاتُوا فِي الْإِشْرَاكِ. فَقَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، فَلَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ». ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ». قَالُوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ. فَقَالَ: «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ». قَالُوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. قَالَ: «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ». قَالُوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ. قَالَ: «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ». قَالُوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ. رواه مسلم.

6/

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: في الكافر الذي لا يثبته الله في فتنة القبر: «فَيُقَالُ لِلْأَرْضِ الْتَئِمِي عَلَيْهِ، فَتَلْتَئِمُ عَلَيْهِ، فَتَخْتَلِفُ فِيهَا أَضْلَاعُهُ، فَلَا يَزَالُ فِيهَا مُعَذَّبًا حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ» رواه الترمذي.

7/

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِنَازَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، فَإِذَا الْإِنْسَانُ دُفِنَ فَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ جَاءَهُ مَلَكٌ … وَإِنْ كَانَ كَافِرًا أَوْ مُنَافِقًا يَقُولُ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولَ: لَا أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا، فَيَقُولُ: لَا دَرَيْتَ، وَلَا تَلَيْتَ، وَلَا اهْتَدَيْتَ. ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ فَيَقُولُ هَذَا مَنْزِلُكَ لَوْ آمَنْتَ بِرَبِّكَ، فَأَمَّا إِذْ كَفَرْتَ بِهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَبْدَلَكَ بِهِ هَذَا، وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ، ثُمَّ يَقْمَعُهُ قَمْعَةً بِالْمِطْرَاقِ يَسْمَعُهَا خَلْقُ اللَّهِ كُلُّهُمْ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ». فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَحَدٌ يَقُومُ عَلَيْهِ مَلَكٌ فِي يَدِهِ مِطْرَاقٌ إِلَّا هُبِلَ عِنْدَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ﴾». رواه أحمد.

8/

في حديث البراء المشهور: «فينادي مناد من السماء: أن كذب، فافرشوا له من النار، وافتحوا له بابا إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوءك، هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول: وأنت فبشرك لله بالشر من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالشر فيقول: أنا عملك الخبيث، فوالله ما علمت إلا كنت بطيئا عن طاعة الله، سريعا إلى معصية الله، فجزاك الله شرا، ثم يقيض له أعمى، أصم، أبكم، في يده مرزبة، لو ضرب بها جبل كان ترابا، فيضربه ضربة حتى يصير ترابا، ثم يعيده الله كما كان، فيضربه ضربة أخرى فيصيح صيحة يسمعه كل شيء إلا الثقلين، ثم يفتح له باب من النار ويمهد من فرش النار. فيقول: رب لا تقم الساعة» أخرجه أبو داود والحاكم.

9/

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا وُضعت الجنازة، واحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدِّموني، وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها أين يذهبون بها؟ يسمع صوتَها كلُّ شيء إلا الإنسانَ ولو سمعه صَعِق» رواه البخاري.

وإنما تقول: يا ويلها؛ لأنها بشرن بهذا العذاب الذي يكون في قبرها قبل موتها.

10/

عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عامة عذاب القبر من البول» رواه الحاكم في المستدرك.

فحري بالمسلم أن يحرص على إزالة النجاسات من بدنه وثوبه ومكان صلاته؛ فذلك من شروط الصلاة. ولكن لا يُفضي به هذا الحرص إلى فتحِ باب الوسوسة.

11/

عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَبْرَيْنِ فَقَالَ: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِر مِنْ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ». ثُمَّ أَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ، فَغَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَالَ: «لَعَلَّهُ يُخَفِّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا» رواه الشيخان.

ومعنى لا يستتر: لا يجعل ستراً بينه وبين بوله، فيصيب ثوبه وبدنه ولا يعبأ به.

12/

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ. فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ» رواه أبو داود.

13/

قال أبو هريرة رضي الله عنه: افْتَتَحْنَا خَيْبَرَ وَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً إِنَّمَا غَنِمْنَا الْبَقَرَ وَالْإِبِلَ وَالْمَتَاعَ وَالْحَوَائِطَ، ثُمَّ انْصَرَفْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمإِلَى وَادِي الْقُرَى وَمَعَهُ عَبْدٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ مِدْعَمٌ أَهْدَاهُ لَهُ أَحَدُ بَنِي الضِّبَابِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَهُ سَهْمٌ عَائِرٌ حَتَّى أَصَابَ ذَلِكَ الْعَبْدَ، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «بَلْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنْ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا». فَجَاءَ رَجُلٌ حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم  بِشِرَاكٍ أَوْ بِشِرَاكَيْنِ. فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ كُنْتُ أَصَبْتُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ» رواه الشيخان.

14/

عَنْ أَبِي رَافِعٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى الْعَصْرَ رُبَّمَا ذَهَبَ إِلَى بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ فَيَتَحَدَّثُ حَتَّى يَنْحَدِرَ لِلْمَغْرِبِ، فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْرِعًا إِلَى الْمَغْرِبِ إِذْ مَرَّ بِالْبَقِيعِ، فَقَالَ: «أُفٍّ لَكَ، أُفٍّ لَكَ»، فَكَبُرَ فِي ذَرْعِي، وَتَأَخَّرْتُ، وَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُرِيدُنِي،فَقَالَ: «مَا لَكَ؟ امْشِ». قَالَ: أَحْدَثْتُ حَدَثًا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَمَا ذَاكَ»؟ قُلْتُ: أَفَّفْتَ بِي. قَالَ: «لَا، وَلَكِنَّ هَذَا قَبْرُ فُلَانٍ، بَعَثْتُهُ سَاعِيًا عَلَى بَنِي فُلَانٍ فَغَلَّ نَمِرَةً، فَدُرِّعَ الْآنَ مِثْلَهَا مِنْ نَارٍ» رواه أحمد.

والنمرة ثوب معين.

15/

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بينا أنا نائم إذ أتاني رجلان، فأخذا بضبعي، فأتيا بي جبلاً فقالا لي: اصعد. فقلت: إني لا أطيق. فقالا: إنا سنسهِّله لك. فصعِدت، حتى كنت في سواء الجبل إذا أنا بأصوات شديدة، قلت: ما هذه الأصوات؟ قالوا: هذه هو عواء أهل النار. ثم انطلُق بي، فإذا بقوم معلقين بعراقيبهم، مشققة أشداقهم، تسيل أشداقهم دماً، فقلت: ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء يفطرون قبل تحلة صومهم» رواه الحاكم والطبراني في الكبير وابن خزيمة في الصحيح.

16/

قال نبينا صلى الله عليه وسلم: «القبر كقطع الليل المظلم، أيها الناس لو تعلمون ما أعلم بكيتم كثيراً وضحكتم قليلاً، أيها الناس استعيذوا بالله من عذاب القبر؛ فإن عذاب القبر حقٌّ» رواه أحمد.

17/

عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا»؟ قَالَ: فَإِنْ رَأَى أَحَدٌ قَصَّهَا، فَيَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ فَسَأَلَنَا يَوْمًا فَقَالَ: «هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا»؟ قُلْنَا: لَا. قَالَ: «لَكِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ، أَتَيَانِي فَأَخَذَا بِيَدِي، فَأَخْرَجَانِي إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ وَرَجُلٌ قَائِمٌ بِيَدِهِ كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ،  وإِنَّهُ يُدْخِلُ ذَلِكَ الْكَلُّوبَ فِي شِدْقِهِ حَتَّى يَبْلُغَ قَفَاهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِشِدْقِهِ الْآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَيَلْتَئِمُ شِدْقُهُ هَذَا فَيَعُودُ فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ! قُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَا: انْطَلِقْ. فَانْطَلَقْنَا، حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ عَلَى قَفَاهُ، وَرَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ بِفِهْرٍ أَوْ صَخْرَةٍ، فَيَشْدَخُ بِهِ رَأْسَهُ، فَإِذَا ضَرَبَهُ تَدَهْدَهَ الْحَجَرُ، فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ؛ لِيَأْخُذَهُ، فَلَا يَرْجِعُ إِلَى هَذَا حَتَّى يَلْتَئِمَ رَأْسُهُ وَعَادَ رَأْسُهُ كَمَا هُوَ، فَعَادَ إِلَيْهِ فَضَرَبَهُ! قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟قَالَا: انْطَلِقْ. فَانْطَلَقْنَا إِلَى ثَقْبٍ مِثْلِ التَّنُّورِ، أَعْلَاهُ ضَيِّقٌ وَأَسْفَلُهُ وَاسِعٌ، يَتَوَقَّدُ تَحْتَهُ نَارًا، فَإِذَا اقْتَرَبَ ارْتَفَعُوا حَتَّى كَادَ أَنْ يَخْرُجُوا، فَإِذَا خَمَدَتْ رَجَعُوا فِيهَا، وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ، فَقُلْتُ: مَنْ هؤلاء؟ قَالَا انْطَلِقْ. فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ، فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى وَسَطِ النَّهَرِ، وَعَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ، فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهَرِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فِي فِيهِ فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ، فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ رَمَى فِي فِيهِ بِحَجَرٍ فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَا: انْطَلِقْ. فَانْطَلَقْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ، فِيهَا شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ، وَفِي أَصْلِهَا شَيْخٌ وَصِبْيَانٌ، وَإِذَا رَجُلٌ قَرِيبٌ مِنْ الشَّجَرَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ نَارٌ يُوقِدُهَا، فَصَعِدَا بِي فِي الشَّجَرَةِ، وَأَدْخَلَانِي دَارًا لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا، فِيهَا رِجَالٌ شُيُوخٌ وَشَبَابٌ وَنِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ، ثُمَّ أَخْرَجَانِي مِنْهَا، فَصَعِدَا بِي الشَّجَرَةَ، فَأَدْخَلَانِي دَارًا هِيَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ، فِيهَا شُيُوخٌ وَشَبَابٌ، قُلْتُ: طَوَّفْتُمَانِي اللَّيْلَةَ فَأَخْبِرَانِي عَمَّا رَأَيْتُ. قَالَا: نَعَمْ، أَمَّا الَّذِي رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ فَكَذَّابٌ، يُحَدِّثُ بِالْكَذْبَةِ فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ، فَيُصْنَعُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالَّذِي رَأَيْتَهُ يُشْدَخُ رَأْسُهُ فَرَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ، فَنَامَ عَنْهُ بِاللَّيْلِ وَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ بِالنَّهَارِ، يُفْعَلُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالَّذِي رَأَيْتَهُ فِي الثَّقْبِ فَهُمْ الزُّنَاةُ، وَالَّذِي رَأَيْتَهُ فِي النَّهَرِ آكِلُوا الرِّبَا، وَالشَّيْخُ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام، وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهُ فَأَوْلَادُ النَّاسِ، وَالَّذِي يُوقِدُ النَّارَ مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ، وَالدَّارُ الْأُولَى الَّتِي دَخَلْتَ دَارُ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَمَّا هَذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ، وَأَنَا جِبْرِيلُ، وَهَذَا مِيكَائِيلُ، فَارْفَعْ رَأْسَكَ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا فَوْقِي مِثْلُ السَّحَابِ، قَالَا: ذَاكَ مَنْزِلُكَ. قُلْتُ: دَعَانِي أَدْخُلْ مَنْزِلِي. قَالَا: إِنَّهُ بَقِيَ لَكَ عُمُرٌ لَمْ تَسْتَكْمِلْهُ، فَلَوْ اسْتَكْمَلْتَ أَتَيْتَ مَنْزِلَكَ» رواه البخاري.

والأرض المقدسة: أرض بيت المقدس.

والكلوب:حديدة معطوفة الرأس. في طرفها انحناء.

والشدق: جانب الوجه.

والشَّدْخ: كسر الأجوف.

وتدهده: تدحرج.

وطوفتماني: أتيتما بي أماكن كثيرة.

وتبلغ الآفاق: تنتشر.

وفي رواية: «أَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالْحَجَرِ فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَأْخُذُ الْقُرْآنَ فَيَرْفُضُهُ، وَيَنَامُ عَنْ الصَّلاةِ الْمَكْتُوبَةِ» رواه البخاري.

قال ابن حجر: “قال ابن هبيرة: رفض القرآن بعد حفظه جناية عظيمة؛ لأنه يوهم أنه رأى فيه ما يوجب رفضه، فلما رفض أشرف الأشياء وهو القرآن عوقب في أشرف أعضائه وهو الرأس” [فتح الباري (ج3/ص251)].

18/

روى ابن حبان بإسناد صحيحٍ قول نبينا صلى الله عليه وسلم: «أمر بعبد من عباد الله أن يضرب في قبره مائة جلدة، فلم يزل يسأل ويدعو حتى صارت جلدة واحدة، فجلد جلدة واحدة، فامتلأ قبره عليه ناراً، فلما ارتفع عنه قال:علام جلدتموني؟ قالوا:إنك صليت صلاة بغير طهور، ومررت على مظلوم فلم تنصره».

19/

عن العَوام بن حَوْشَب رضي الله عنه قال: نزلت مرة حيا وإلى جانب ذلك الحي مقبرة، فلما كان بعد العصر انشق منها قبر، فخرج رجل رأسه رأس الحمار وجسده جسد إنسان، فنهَق ثلاث نهقات ثم انطبق عليه القبر، فإذا عجوز تغزِلُ شعرا أو صوفا، فقالت امرأة: ترى تلك العجوز؟ قلت: ما لها؟ قالت: تلك أم هذا، قلت: وما كان قصته؟ قالت: كان يشرب الخمر، فإذا راح تقول له أمُّه: يا بني اتق الله، إلى متى تشرب هذه الخمر؟ فيقول لها: إنما أنت تنهِقين كما ينهِق الحمار. قالت: فمات بعد العصر، فهو ينشق عنه القبر بعد العصر كل يوم فينهق ثلاث نهقات ثم ينطبق عليه القبر. رواه الأصبهاني وغيره، وصحح إسنادها الألباني.

20/

والدليل على أن ذلك الإلحاد في شرع الله تعالى سبب من أسباب العذاب في القبر قول النبي صلى الله عليه وسلم: «رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ؛ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ » رواه البخاري.

قُصْبه: أَمْعَاءه.

والسائبة: هي ناقة، أو بقرة، أو شاة، كانوا يسيبونها، فلا تُركب، ولا تُؤكل، ولا يُحمل عليها، وكان بعضهم ينذر شيئا من ماله يجعله سائبة.

21/

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «رأيت ليلة أسري بي رجالاً تُقرض شفاههم بمقاريض من نار، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: الخطباء من أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون»؟! أخرجه أحمد.

وفي رواية: «أتيت ليلة أُسري بي على قوم تُقرض شفاههم بمقاريض من نار، كلما قرضت وفت، فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون، ويقرءون كتاب الله ولا يعملون به» رواه البيهقي في شعب الإيمان.

22/

عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بينما رجلٌ يجر إزاره إذ خُسف به، فهو يتجلجل إلى يوم القيامة» رواه الشيخان.

والتجلجل: أن يسوخ في الأرض مع اضطراب شديد ويندفع من شق إلى شق.

فالمعنى: يتجلجل في الأرض أي ينزل فيها مضطرباً متدافعاً.

23/

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ جِيءَ بِالنَّارِ، وَذَلِكُمْ حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَنِي مِنْ لَفْحِهَا، وَحَتَّى رَأَيْتُ فِيهَا صَاحِبَ الْمِحْجَنِ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ؛ كَانَ يَسْرِقُ الْحَاجَّ بِمِحْجَنِهِ، فَإِنْ فُطِنَ لَهُ قَالَ: إِنَّمَا تَعَلَّقَ بِمِحْجَنِي، وَإِنْ غُفِلَ عَنْهُ ذَهَبَ بِهِ» رواه مسلم.

والمحجن: عصا معوجة الرأس.

24/

عن جابر رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «رَأَيْتُ فِيهَا (أي: النار) صَاحِبَةَ الْهِرَّةِ الَّتِي رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ، حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا» رواه مسلم.

 

شبهات المنكرين لعذاب القبر، والرد عليها

1/ تتحدثون عن عذاب القبر، فكيف بمن لا قبر له؟

قال ابن القيم رحمه الله:” ومما ينبغي أن يُعلم أن عذاب القبر هو عذاب البرزح، فكل من مات وهو مستحقٌ للعذاب ناله نصيبه منه، قبر أو لم يقبر، فلو أكلته السباع، أو أُحْرق حتى صار رماداً ونسف في الهواء، أو صُلب، أو غرق في البحر، وصل إلى روحه وبدنه من العذاب ما يصل إلى القبور” [الروح، ص 58].

ويقول عليه رحمة الله معلقاً على حديث: «تعاد روحه في جسده»: “لا يدل على حياة مستقرة، وإنما يدل على إعادةٍ لها إلى البدن وتعلقٍ به، والروح لم تزل متعلقة ببدنها وإن بلى وتمزق، وسر ذلك أن الروح لها بالبدن خمسة أنواع من التعلق متغايرة الأحكام:

أحدها: تعلقها به في بطن الأم جنيناً.

الثاني: تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض.

الثالث: تعلقها به في حال النوم، فلها به تعلق من وجه ومفارقة من وجه.

الرابع: تعلقها به في البرزخ، فإنها وإن فارقته وتجردت عنه فإنها لم تفارقه فراقاً كلياً بحيث لا يبقى لها التفات إليه ألبتة، وقد ذكرنا في أول الجواب من الأحاديث والآثار ما يدل على ردها إليه وقت سلام المسلم، وهذا الرد إعادة خاصة لا يوجب حياة البدن قبل يوم القيامة.

الخامس: تعلقها به يوم بعث الأجساد، وهو أكمل أنواع تعلقها بالبدن… لا يقبل البدن معه موتاً ولا نوماً ولا فساداً ” [الروح، ص43-44].

 

2/ أنكر المعتزلة عذاب القبر، واستدلوا بقوله تعالى: ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾ [غافر/11].

قالوا: فلم يذكر الله في الآية حياةً ثالثةً، فالحياتان: حياة الدنيا، وحياة الآخرة. والموتتان: العدم قبل أن نُخلق، والموت المعروف.

والجواب:

قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران: 169].

فهل تثبتون هذه الحياة التي لم تذكر في آية الحياتين أم لا؟

فإن قالوا: نقر بهذه الحياة التي نصَّت الآية عليها، فقد ناقضوا أنفسهم؛ فإنه لا ذكر لهذه الحياة في الآية التي استدلوا بها، وإن قالوا: لا نقر بها كفروا.

فرق بين أن يُقال: هناك حياتان، وبين قولك: لا وجود إلا لحياتين. فالآية الكريمة أثبتت حياتين، ولكنها لم تنف وجود ما سواهما! فرق بين أن أقول: أملك درهمين، وبين: لا أملك إلا درهمين. فالأول لا يفيد الحصر بخلاف الثاني.

نقول لهم: أليس الله قد جعل النوم موتاً بقوله: ﴿وهو الذي يتوفاكم بالليل﴾؟ فلم لم تذكر هذه الميتة في الآية التي ذكرتموها ونفيتم بها عذاب القبر؟!

فلا جرمَ أنَّ الحصر ليس بمرادٍ من الآية التي تلاعبوا بالاستدلال بها.

 

3/ مما استدل به المنكرون لعذاب القبر ونعيمه قول الله عز وجل: ﴿لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى﴾ [الدخان/56]. قالوا: لو صاروا أحياءً في القبور لذاقوا الموت مرتين مرة في حياتهم الدنيا، ومرة في حياتهم البرزخية.

والجواب أن يقال: نعم الدليل، وبئس الاستدلال!

فالآية جاءت في سياق الامتنان على أهل الجنة بأنهم خالدون فيها لا يذوقون الموت سوى ما ذاقوه أول مرة في حياتهم الأولى، فليس في الآية حديث عن عذاب القبر ولا نعيمه ولا تعلق للآية به، فالاستدلال بها إقحام لها في غير مساقها.

فالآية تتحدث عن موت معين، ولا تنفي ما سواه.

ويقال لهم ما قيل قبل قليل: أليس النوم موتا بنص القرآن؟ أيعني ذلك أن الآية تنفيه؟!!

 

4/ واستشهدوا على إنكارهم أيضا بقوله تعالى: ﴿وما أنت بمسمع من في القبور﴾ [فاطر/22]. وبقوله: ﴿إنك لا تسمع الموتى﴾.

قالوا: إن الغرض من سياق الآية تشبيه الكفرة بأهل القبور في عدم السماع، ولو كان الميت حيا في قبره أو حاسا لم يستقم التشبيه.

أما استشهادهم بقوله تعالى:﴿وما أنت بمسمع من في القبور﴾ [فاطر/22] فالجواب عنه بأن الآية وردت في سياق تشبيه حال الكفار من حيث عدم انتفاعهم بسماع المواعظ والآيات بحال أهل القبور الذين لا ينتفعون بشيء مما يلقى عليهم، فالآية تنفي سماع الانتفاع لا مطلق السماع بدليل أن الكفار وهم المرادون في الآية بالأموات يسمعون الآيات بلا شك ولكنهم لا ينتفعون بها.

قال الشنقيطي رحمه الله: “لا تسمع الكفار الذين أمات اللَّه قلوبهم، وكتب عليهم الشقاء في سابق علمه إسماع هدى وانتفاع، فختم على قلوبهم، وعلى سمعهم، وجعل على قلوبهم الأكنة، وفي آذانهم الوقر، وعلى أبصارهم الغشاوة، فلا يسمعون الحقّ سماع اهتداء وانتفاع. ومن القرائن القرءانية الدالَّة على ما ذكرنا، أنّه جلَّ وعلا قال بعده: ﴿إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ﴾. فاتّضح بهذه القرينة أن المعنى: ﴿إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى﴾، أي: الكفار الذين هم أشقياء في علم اللَّه إسماع هدى وقبول للحق، ما تسمع ذلك الإسماع ﴿إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ﴾، فمقابلته جلَّ وعلا بالإسماع المنفي في الآية عن الموتى بالإسماع المثبت فيها، لمن يؤمن بآياته، فهو مسلم دليل واضح على أن المراد بالموت في الآية موت الكفر والشقاء، لا موت مفارقة الروح للبدن، ولو كان المراد بالموت في قوله: ﴿إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى﴾، مفارقة الروح للبدن لما قابل قوله: ﴿إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى﴾، بقوله: ﴿إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا﴾، بل لقابله بما يناسبه، كأن يقال: آن تسمع إلاّ من لم يمت، أي: يفارق روحه بدنه، كما هو واضح.” [أضواء البيان – (ج 6 / ص 124-125].

وإطلاق الموت على الكفر كثير، قال ربنا: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً﴾، أي: كافرًا فأحييناه، أي: بالإيمان والهدى، وهذا لا نزاع فيه، وفيه إطلاق الموت وإرادة الكفر بلا خلاف كما قال الشنقيطي رحمه الله (الأضواء 6/126).

“ولا فرق بي قوله: ﴿إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى﴾، وبين قوله: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾؛ لأن المراد بالموتى ومن في القبور واحد” [أضواء البيان (ج 6/ص127)].

وقد ثبت في الصحيحين عن عمر في ذكر إلقاء جيف المشركين بعد بدر في بئر، قال: فَجُعِلُوا فِي بِئْرٍ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: «يَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ، وَيَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ، هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ حَقًّا؟ فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي اللَّهُ حَقًّا». قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ تُكَلِّمُ أَجْسَادًا لَا أَرْوَاحَ فِيهَا؟ قَالَ: «مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَرُدُّوا عَلَيَّ شَيْئًا».

ولذا قال الشنقيطي في الأضواء: “اعلم أن الذي يقتضي الدليل رجحانه هو أن الموتى في قبورهم يسمعون كلام من كلمهم” [أضواء البيان (ج 6/ ص 128 وما بعدها)].

 

5/ قالوا: لا عذاب قبل الحساب؟!!

وهذه دعوى يكذِّبها القرآن.

قال تعالى بعد ذكر غزوة حنين: ﴿وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾ [التوبة/26].

وقال: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾  [الطلاق/8-10].

فالحساب والعذب في الدنيا، بدليل: ﴿أعد الله لهم عذابا شديدا﴾ في الآخرة. ففي الدنيا حساب وعذاب.

فما الحساب؟ وما العذاب؟ “حاسبناها بعملها في الدنيا، فجازيناها بالعذاب على مقدار عملها؛ فذلك قوله تعالى: ﴿وعذَّبناها﴾، فجعل المجازاة بالعذاب محاسبة. والحساب الشديد: الذي لا عفو فيه، والنكر: المنكر ﴿ فذاقت وبال أمرها ﴾ أي: جزاء ذنبها ﴿ وكان عاقبة أمرها خسراً ﴾ في الدنيا، والآخرة، وقال ابن قتيبة: الخسر: الهلكة ” [زاد المسير (ج 6/ص43)].

وقال تعالى: ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾  [السجدة/21].

وقال: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ﴾ [المائدة/18].

وقال: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ﴾ [التوبة/14].

 

6/ الاستدلال بالآية: ﴿وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [غافر/45، 46].

قالوا: ليس في القبر سوى العرض، أما دخول النار ففي الآخرة وليس في القبر!!

والجواب:

قال الإمام ابن كثير رحمه الله: “﴿وحاق بآل فرعون سوء العذاب﴾، وهو الغرق في اليم، ثم النقلة منه إلى الجحيم، فإن أرواحهم تعرض على النار صباحاً ومساءً إلى قيام الساعة، فإذا كان يوم القيامة اجتمعت أرواحهم وأجسادهم في النار، ولهذا قال:}ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب{ أي: أشده ألما وأعظمه نكالاً. وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور” [تفسير القرآن العظيم (ج4/ص103)].

وقد ذكر الله العرض ولم ينف غيره، بل تحدث عن العذاب في موضع آخر كما في قوله تعالى: ﴿ مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا﴾ [نوح/25].

وذكر الشيء في موضع، وذكر غيره مما يتعلق به في غيره كثير في كتاب الله.

مثاله:

قال تعالى: ﴿وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ [البقرة/168]، و[البقرة/208[، و[الأنعام/142].

قال الشنقيطي رحمه الله: “لم يذكر هنا ما يترتب على اتباع خطواته من الضرر، ولكنه أشار إلى ذلك في سورة “النور”، بقوله: ﴿وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ الآية [24/21]..

مثال آخر:

قوله تعالى: ﴿وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ الآية،لم يذكر هنا كيفية كفه إياهم عنه، ولكنه بينه في مواضع أخر، كقوله: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾” [أضواء البيان (ج1/ص467)].

مثال آخر:

قوله تعالى: ﴿وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ﴾.

“لم يذكر هنا شيء من صفات هذه الفاكهة ولا هذا اللحم إلا أنه ﴿مِمَّا يَشْتَهُونَ﴾ , وقد بين صفات هذه الفاكهة في مواضع أخر كقوله تعالى: ﴿وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ, لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ﴾ [الواقعة:32-33], وبين أنها أنواع في مواضع أخر كقوله: ﴿وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ [محمد:15], وقوله تعالى: ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً﴾[البقرة:25]. وقوله تعالى ﴿أولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ, فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ﴾ [الصافات:41-42] إلى غير ذلك من الآيات” [أضواء البيان (ج7/ص 454)].

مثال أخير:

قال ربنا: ﴿جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ [ص/56]، ولم تذكر هذه الآية الفراش، فقد ذُكِر في آية أخرى، قال ربنا: ﴿لهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ﴾ [الأعراف/41]، ولم تذكر الآيتان مسألة عدم خرومج الكفار من النار، فهذا في قول ربنا: ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾[البقرة/167].

فالآية التي استدل بها المنكرون لم تنف عذاب القبر، بل ذكرت نوعاً معيناً من العذاب، وغير هذا النوع مذكور في غيرها من الأدلة التي مضى ذكرها.

 

7/ الجسد في القبر يصير تراباً، فكيف يعذب!؟

والجواب:

دلت النصوص على أن العذاب ينال البدون والروح، في في حديث التطاول على المال العام والنميمة وغير ذلك. فهذه الذرات التي اختلطت بتربة الأرض تذوق العذاب وتشعر به، وأي دليل يمنع من ذلك؟!!

قال ابن القيم رحمه الله: “ومما ينبغي أن يُعلم أن عذاب القبر هو عذاب البرزح، فكل من مات وهو مستحقٌ للعذاب ناله نصيبه منه، قبر أو لم يقبر، فلو أكلته السباع، أو أُحْرق حتى صار رماداً ونسف في الهواء، أو صُلب، أو غرق في البحر، وصل إلى روحه وبدنه من العذاب ما يصل إلى القبور” [الروح، ص 58].

فالميت يصير عدماً عندي وعندك، أما الله فما من ذرة من ذرات بدن الفاسق والكافر غابت في باطن الأرض وصارت جزء من تربتها إلا يعلمها، ويصلها عذابها الذي قضى به الله كاملاً غير منقوص.

 

8/ قالوا: نكشف القبر ولا نجد شيئا مما تقولون؟

والجواب بأن يقال لهم:

أولا: قال ربنا: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 154]. فعدم شعورنا بما يكون بعد الموت في القبور أمر نصت هذه الآية عليه، وعدم الرؤيا ليس دليلاً على العدم بلاخلاف بين العقلاء!

ثانياً: قال ربنا: ﴿فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ﴾ [الواقعة: 83 – 85]. وهذا لا نراه بنص القرآن، أفيمكن إنكار ذلك بحجة أننا لا نراه!!؟

ثالثاً: قال ربنا: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾ [الأنعام: 93].

فهل يرى أحدنا ذلك إن حضر كافراً محتضراً؟!!

فيا معشر العقلاء!

يا معشر المستنيرين!

يا عقلانيون!

عدم الرؤيا ليس دليلا على العدم، وأمور الآخرة لا تقاس بأمور الدنيا.

 

9/ قالوا: لم يدل عليه القرآن؟

وقراءة أول البحث هذا تكفي لبيان بطلان هذه الدعوى!

 

10/ قالوا: أنكره فلان وفلان؟ وهذا مما يقال فيه: يغني سرده عن رده!!

والله الإله الحق قد أنرك فلان وفلان!!

 

أسباب النجاة من عذاب القبر

من نجا من فتنة القبر نجا من العذاب، والناجون من الفتنة هم:

1/ الشهيد:

فقد سأل رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم:لا مَا بَالُ الْمُؤْمِنِينَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ إِلَّا الشَّهِيدَ؟ قَالَ: «كَفَى بِبَارِقَةِ السُّيُوفِ عَلَى رَأْسِهِ فِتْنَةً» رواه النسائي.

2/ المرابط:

والرباط: حراسة ثغور المسلمين.

حدَّث فَضالةُ بن عبيد رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ، إِلَّا الَّذِي مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يُنْمَى لَهُ عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيَأْمَنُ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ» رواه أبو داود والترمذي.

وعَنْ سَلْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  يَقُولُ: «رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأَمِنَ الْفَتَّانَ» رواه مسلم.

3/ من مات يوم الجمعة أو ليلتها:

قال صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يموت يوم الجمعة، ليلة الجمعة، إلا وقاه الله فتنة القبر» رواه أحمد.

4/ من مات بداء البطن:

قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يَقْتُلْهُ بَطْنُهُ فَلَنْ يُعَذَّبَ فِي قَبْرِهِ» رواه الترمذي.

والإنسان لا يملك أن يكون شهيداً، أو يموت مرابطاً، ولا تملك أن تموت صحيحاً أو سقيماً ، ولكن هناك سبب يملكه كل أحد منَّا، وهو:

5/ قراءة سورة الملك كل ليلة:

قال نبينا صلى الله عليه وسلم: «سورة الملك هي المانعة من عذاب القبر» رواه ابن مردويه.

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: “من قرأ }تبارك الذي بيده الملك{ كل ليلة منعه الله بها من عذاب القبر، وكنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نسمِّيها المانعة، وإنها في كتاب الله، سورة من قرأ بها في كل ليلة فقد أكثر وأطاب” رواه النسائي في السنن الكبرى.

وليس من المنجيات ما يتوهمه بعض الدجَّالين المشعوذين من الطُّرُقِيِّين، الذين يزعمون أنَّ من جملة المنجيات من عذاب القبر أن تذكر اسم الشيخ (أحمد الطيب البشير) قبل أن تُدخلَ ميتَك قبره، فتقول: هذا قبر الشيخ أحمد، قالوا: لو فعلت ذلك أنجاه الله من العذاب!! ولا أعلم سبب ذلك، هل لأنك تكون قد خدعت الله فلا يُرسل إليه من يعذبه لأنك خدعته!!! أم أنك خدعت ملائكته !! لا أعلم ما هذا السَّفه. يقول قائلهم:

من قال هذا قبر أحمد أولاً

فصاحبه في القبر ليس يُعذبُ!!

وقال آخر:

بأكفان من قد مات إن كُتب اسمه

يكن له ستراً من النار والهون!

أي: اكتب اسم شيخهم بكفن ميِّتِك ليستره ذلك من عذاب الله ﴿سبحانك هذا بهتان عظيم{!

فهل من المنجيات وضع جريد النخل على القبر؟

مسألة خلافية، والصحيح: لا يشرع لنا ذلك.

وأما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فخاصٌّ به؛ لقول النبي النبي صلى الله عليه وسلم في رواية الإمام مسلم: «فأحببت بشفاعتي أن يُرفَّه عنهما».

ثم يُقال لمن يضع هذا الجريد: ألا تتفق معي في أنَّ فعلك هذا فيه تزكية؟ من أنت حتى يُخفف الله العذاب بسببك؟

ثالثاً: وضع النبي صلى الله عليه وسلم الجريد بعدما علم بعذابهما، فمن أدراك أن صاحب القبر مُعَذَّب؟

اللهم قنا من فتنة القبر، ومن عذابه، ومن فتنة النار، ومن عذابها.

ربِّ صلِّ وسلِّم على نبيِّنا محمَّد، والحمد لله ربِّ العالمين.

شارك المحتوى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *