
الحفاظ على الأسرة في الإسلام
بسم الله الرحمن الرحيم
الحفاظ على الأسرة في الإسلام
مهران ماهر عثمان
3 ذو القعدة1439هـ
الحمد لله، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛
فإن من يقف على أسباب استقرار الأسرة وعوامل الإبقاء على العلاقة بين الزوجين يعلم يقيناً أهميتها في شريعة الإسلام، وهذه تدابير شرعية من شأنها تقليل فرص الطلاق، وإدامة الحياة بين الزوجين.
فمن ذلك:
1/ الأمر بمراعاة حقوق الزوجية.
قال تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: 228].
قال الطبري رحمه الله: “ولهن من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن مثل الذي عليهن لهم من الطاعة فيما أوجب الله تعالى ذكره له عليها”([1]).
وقال القرطبي رحمه الله: “أي: لهن من حقوق الزوجية على الرجال مثل ما للرجال عليهن، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي ، وما أحب أن أستنظف كل حقي الذي لي عليها فتستوجب حقها الذي لها علي؛ لأن الله تعالى قال: ﴿ولهنَّ مثل الذي عليهن بالمعروف﴾”([2]).
فلو قام كل واحد من الزوجين بما يجب عليه لم تقع خصومةٌ بينهما.
2/ الترغيب في الصبر على المرأة ولو ساءت أخلاقها.
قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 19].
ومعنى الآية: إن كرهتم النساء لوجه فاصبروا عليه؛ فعسى أن يجعل الله الخير في وجه آخر.
وهذا موافق لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يَفْرَكْ مؤمن مؤمنةً ؛ إن كره منها خلقاً رضي منها آخر»([3]). ولا يفرك: لا يبغض . فهذا الحديث ينبئ عن أنه لا ينبغي إيجاد مساحة للبغض والكره في حياة من قال الله في شأنهما: ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ [الروم: 21].
ومن قلَّب النظر في أقوال المفسرين لهذه الآية أيقن أن المراد منها: أن الإبقاء على المرأة والصبر على أخلاقها خير من فصم عرى الزوجية بطلاقها، فإن الأمر بيد الله تعالى، وهو الذي يصرف قلوب عباده ويغيِّر أحوالها.
قال الرازي رحمه الله: “حثَّ على استمرار الصحبة وعدم المفارقة”([4]).
وقديماً قالوا: ما كل البيوت بُنيت على الحب.
وفي الصحيحين، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ، فَإِنَّ المَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلاَهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ»([5]).
قال النووي رحمه الله: “وفي هذا الحديث ملاطفة النساء، والإحسان إليهن، والصبر على أخلاقهن، واحتمال ضعف عقولهن، وكراهة طلاقهن بلا سبب، وأنه لا يطمع باستقامتها، والله أعلم”([6]).
وقال الحافظ رحمه الله: “والوصية بالنساء آكد؛ لضعفهن واحتياجهن إلى من يقوم بأمرهن … «وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه»، قيل: فيه إشارة إلى أن أعوج ما في المرأة لسانها … وفائدة هذه المقدمة: أن المرأة خلقت من ضلع أعوج فلا ينكر اعوجاجها، أو الإشارة إلى أنها لا تقبل التقويم كما أن الضلع لا يقبله. قوله: «فإن ذهبت تقيمه كسرته»، قيل: هو ضرب مثل للطلاق، أي إن أردت منها أن تترك اعوجاجها أفضى الأمر إلى فراقها”([7]).
3/ كون الطلاق بيد الرجل.
وذلك لكمال عقله، وعدم تسرعه، ولو كان الطلاق بيد المرأة لما أمكن الحفاظ على استقرار أسرة من الأسر؛ لنقص عقولهن، وسرعة تأثرهن. لا سيما إن كان رب الأسرة من أهل التعدد.
والدليل على أن الطلاق بيد الرجل قول ربنا: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: 1]، فقد خاطب الله تعالى به الرجال.
ومن الأدلة: حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل ، فقال: يا رسول الله إن سيدي زوجني أمته، وهو يريد أن يفرق بيني وبينها؟ قال: فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فقال: «يا أيها الناس ما بال أحدكم يزوج عبده أمته ثم يريد أن يفرق بينهما، إنما الطلاق لمن أخذ بالساق»([8]).
وقد قال بعض الحكماء: لو كان الطلاق بيد المرأة لما كان مرتين!
4/ نهي المرأة عن طلب الطلاق إلا بعذر.
وهذه مما يبين لنا عظيم حكمة الله تعالى؛ فإن المرأة تطلب طلاقها لأي مشكلة تعترض طريق حياتها مع زوجها، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم النساء عن ذلك بقوله: «أيما امرأة سألت زوجها طلاقاً بغير بأس فحرام عليها رائحة الجنة»([9]).
5/ أمر الله تعالى المؤمنين أن يكون طلاقهم في حال تستقبل به النساء عدتهنَّ.
قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾ [الطلاق: 1].
أي : “طلقوهن مستقبلات لعدتهن”([10]).
فلا يطلقها حال حيضها، فهذا مما لا يجوز بإجماع العلماء([11])، ولا يطلقها في طهر مسها فيه.
قال ابن جرير رحمه الله: “فطلقوهن لطهرهن الذي يحصينه من عدتهن طاهراً من غير جماع، ولا تطلقوهن بحيضهن الذي لا يعتددن به”([12]).
وقد ثبت أن ابن عمر رضي الله عنهما طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس. فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء». وفي رواية لمسلم: «مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهراً أو حاملاً»([13]).
والحديث واضح الدلالة على ما سبق ذكره.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «وإن شاء طلق قبل أن يمس»، يفهم منه تحريم الطلاق في الطهر الذي مسها فيه، ولذا قال ابن حجر رحمه الله: “وقد ثبت النهي عن الطلاق في طهر جامعها فيه”([14]).
قال ابن قدامة رحمه الله: “وإذا طلقها للبدعة وهو أن يطلقها حائضاً أو في طهر أصابها فيه أثم في قول عامة أهل العلم، قال ابن المنذر وابن عبد البر: لم يخالف في ذلك إلا أهل البدع”([15]).
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر رضي الله عنهما أن يمسك إلى طهر بعد طهر؛ لئلا تكون رجعته بنية الطلاق، ولأنه إذا راجعها ربما يجامعها فيذهب ما في نفسه من سبب طلاقها([16]).
فهذا يوضح أن الإبقاء على الحياة الزوجية من مقاصد ديننا، حتى إذا أراد الزوج فصام وشاجها انتظر؛ ليكون طلاقه موافقاً للسنة، ولئلا يكون للغضب والانفعالات الوقتية دور في تحديد مصير حياتهما.
6/ أمر الله للأزواج أن لا يُخرجوا المطلقات من البيوت ؛ ليسهل على الزوج إرجاع زوجته.
وذلك في الآية آنفة الذكر: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾ [الطلاق: 1]. قال الطبري رحمه الله: “لا تخرجوا مَن طلقتم من نسائكم لعدتهن من بيوتهن التي كنتم أسكنتموهن فيها قبل الطلاق حتى تنقضي عدتهن”([17]).
ولا تُخرج المرأة من بيتها إلا إذا ألمَّت بفاحشة، فإنها تُخرج لإقامة الحد عليها([18]).
ومن تأمل في هذا الحكم أحس بما فيه من جوانب الرحمة والحكمة؛ فإن الزوج إذا طلق أهله –والمرأة لا تبين من زوجها ما دامت في عدتها – وكانت بجواره في بيته فهذا من أكبر ما يدعوه إلى إرجاعها، ولولا وجود الأمل في رجوع الحياة إلى سيرتها الأولى ما كان في بقائها فائدة.
قال ابن كثير رحمه الله –موضحاً معنى قوله تعالى: ﴿لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾-: “أي إنما أبقينا المطلقة في منزل الزوج في مدة العدة لعل الزوج يندم على طلاقها ويخلق الله تعالى في قلبه رجعتها”([19]).
وتأمل في إضافة البيوت إلى الزوجات، والبيوت للأزواج، وأضافهن في الآية إلي الزوجات؛ للتأكيد على حرمة إخراجهن منها، فهي بيوتهن لا يضيق عليهن فيها ما دمن في عدتهنَّ؛ ﴿لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً﴾، فسبحان ربك رب العزة ما أرحمه وأحكمه!
7/ الطلاق مرتان
قال تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 229، 230].
أي : الطلاق الذي يملك فيه الزوج الرجعة مرتان.
قال ابن كثير رحمه الله: “إذا طلقتها واحدة أو اثنتين فأنت مخير فيها مادامت عدتها باقية بين أن تردها إليك ناوياً الإصلاح بها والإحسان إليها، وبين أن تتركها حتى تنقضي عدتها فتبين منك وتطلق سراحها محسناً إليها، لا تظلمها من حقها شيئاً، ولا تضار بها”([20]).
أمَا عقل أعداء الإسلام هذه المعاني النبيلة التي يؤصل لها ويندب إليها ويذم بمخالفتها!!؟
8/ الزوج أحق بمراجعة زوجه.
قال تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾ [البقرة: 228]. فليس له أن يرجعها للإضرار بها، أو لإذهاب ما في صدره من الغل لها.
فإذا أرجعها فليس لأحد كلمة معه، فهو أولى بها من كل أحد.
قال القرطبي رحمه الله: “وأجمع العلماء على أن الحر إذا طلق زوجته الحرة وكانت مدخولاً بها تطليقة أو تطليقتين أنه أحق برجعتها ما لم تنقض عدتها وإن كرهت المرأة، فإن لم يراجعها المطلق حتى انقضت عدتها فهي أحق بنفسها، وتصير أجنبية منه لا تحل له إلا بخطبة ونكاح مستأنف بولي وإشهاد، ليس على سنة المراجعة، وهذا إجماع من العلماء” ([21]).
وهذه هي البينونة الصغرى.
9/ الترغيب في الفيئة من الإيلاء
قال تعالى: ﴿للذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 226، 227].
والإيلاء: يمين على ترك وطء منكوحة فوق أربعة أشهر([22]).
ومعنى الآية: من حلف على أن لا يُجامع أهله فإنه يُنظر أربعة أشهر ثم يُخيَّر بين أمرين ندب القرآن إلى أولهما، وهو الفيئة، فإن رجع عن يمينه فإن الله يغفر له ما كان من تقصير منه في حقها، وإلا أُجبر على طلاقها لئلا يُضار بها.
فتأمل في ترغيب القرآن في الفيئة بوعد المغفرة والرحمة من ربنا سبحانه!
10/ علاج القرآن لحالات النشوز والإعراض بين الزوجين.
النشوز في اللغة: كراهة كل من الزوجين صاحبه، وسوءُ عشرته له. ومادة هذه الكلمة تدل على العلو والارتفاع، فالنَّشَز: ما ارتفع من الأرض([23]).
وللنشوز ثلاث حالات:
أن يكون من الزوج، أومن الزوجة، أو منهما.
قال الله تعالى في الحالة الأولى: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [النساء: 128].
ففي الآية نشوز، وإعراض معطوف عليه، مما يدل على تغاير في المعنى بينهما.
فالنشوز من الزوج: “أن يتعدى على زوجته، ويضارها بالهجر والضرب بغير موجب شرعي، والأذى والشتم والسب كلعنٍ وغيره”([24]).
وأما الإعراض فهو: “أن يُقِلَّ محادثتها ومؤانستها لما يقتضي ذلك من الدواعي والأسباب”([25]).
وبذا يتضح أن النشوز من حيث المعنى يشمل الإعراض وغيره.
قالت عائشة رضي الله عنها في معنى الآية: “هي المرأة تكون ثم الرجل لا يستكثر منها، فيريد طلاقها ويتزوج غيرها، تقول له: أمسكني ولا تطلقني ثم تزوج غيري، فأنت في حلٍّ من النفقة علي والقسمة لي”([26]).
وثبت أن سودة بنت زمعة لما كبرت سنها وهبت يومها لعائشة رضي الله عنهما([27]).
وفي الآية دليل على أن صلح الزوجين خير من فراقهما، وكل ما تراضيا عليه من أجل دوام الحياة وبقاء رباط الزوجية بينهما مما لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً فهو جائز.
وأما نشوز الزوجة فقد ورد في قول ربنا: ﴿وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾ [النساء: 34]
وهو: “خروج المرأة عن الطاعة الواجبة، المانعة عن الاستمتاع بها، الخارجة بغير إذن لمحل تعلم أنه لا يأذن فيه، التاركة لحقوق الله تعالى كغسل الجنابة وصيام رمضان، الغالقة الباب دونه”([28]).
فإن ظهر من المرأة بعض هذه الأشياء سلك الزوج معها الطرق التالية:
الأول: الموعظة، بأن يأمرها بتقوى الله تعالى، ويعرفها بحقه عليها، ونحو ذلك.
الثاني: فإن أبت ترك مضاجعتها وجماعها. وقيل: يطؤها ولا يكلمها.
الثالث: فإن لم يُجْدِ ذلك ضربها ضرباً غير مبرِّح، أي: لا يحدث أثراً بجسمها، فلا يدميها، ولا يكسر عظمها، ولا يصيب وجهها، ويكون ذلك بسواك ونحوه([29]).
والضرب وسيلة، فإذا تحقق عدم نفعها أو مفسدتها فلا فائدة من سلوكها.
الحالة الثالثة: أن يقع النشوز منهما.
قال تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾ [النساء: 35].
ومعنى الشقاق: أن يأتي كل واحد بما يشق على صاحبه؛ لكراهيته إياه.
قال ابن كثير رحمه الله: “قَالَ الْفُقَهَاءُ: إِذَا وَقَعَ الشِّقَاقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، أَسْكَنَهُمَا الْحَاكِمُ إِلَى جَنْبِ ثِقَةٍ، يَنْظُرُ فِي أَمْرِهِمَا، وَيَمْنَعُ الظَّالِمَ مِنْهُمَا مِنَ الظُّلْمِ، فَإِنْ تَفَاقَمَ أَمَرُهُمَا وَطَالَتْ خُصُومَتُهُمَا، بَعَثَ الْحَاكِمُ ثِقَةً مَنْ أَهْلِ الْمَرْأَةِ، وَثِقَةً مِنْ قَوْمِ الرَّجُلِ، لِيَجْتَمِعَا وَيَنْظُرَا فِي أَمْرِهِمَا، وَيَفْعَلَا مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ مِمَّا يَرَيَانِهِ مِنَ التَّفْرِيقِ أَوِ التَّوْفِيقِ، وتَشَوف الشَّارِعُ إِلَى التَّوْفِيقِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا﴾”([30]).
فياليت شعري هل وقف أصحاب القوانين الوضعية على هذه الحِكم العلية؟! أهذا خير أم سن قوانين لا يقرها عقل ولا دين؛ كإجبار المرأة على المكث مع زوجها في بيت الطاعة، وكعدم تمكين الزوج من إيقاع الطلاق إلا أمام القاضي ،مع أن الطلاق حق للزوج لا للقاضي!؟ ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82].
رب صل وسلم على نبينا محمد، والحمد لله في البدء والختام.
([2]) الجامع لأحكام القرآن (3/123-124).
([5]) البخاري (3331)، ومسلم (5185).
([8]) ابن ماجه (2081)، وهو في صحيح الجامع برقم (3958).
([10]) التسهيل للكلبي (4/125).
([11]) انظر: شرح مسلم للنووي (10/60).
([13]) البخاري (4953)، ومسلم (1471).
([16]) راجع شرح مسلم للإمام النووي (10/60)، وفتح الباري (9/349).
([19]) تفسير القرآن العظيم (4/379).
([20]) تفسير القرآن العظيم (1/273).
([21]) الجامع لأحكام القرآن (3/120).
([22]) انظر: التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي، ص(106).
([23]) لسان العرب، مادة (نشز) (5/418).
([24]) جواهر الإكليل شرح مختصر خليل (1/328).
([25]) تفسير أبي السعود (2/239).
([29]) انظر: جامع البيان للطبري (5/62- 69).
([30]) تفسير القرآن العظيم (2/296).

