مقالات

سبُّ الدِّين

سب الدينبسم الله الرحمن الرحيم
سب الدين
جمعة: 04 جمادى الآخرة 1443 الموافق: 07 يناير 2022
مهران ماهر عثمان
مسجد السلام بالطائف مربع (22)

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛
فإن الكلمة التي تسخط الله تعالى من أسباب دخول النار، ففي الحديث المتفق على صحته، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ، مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا، يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِب».
ما يتبين فيها: لا يتدبرها، ولا يتفكر في قبحها وما يترتب عليها.
وإنَّ من المهلكات التي يرتد بها الإنسان عن دين الله تعالى: سبَّ دين الله! فهذه ردة لا خلاف بين أهل العلم في ذلك، ولا أعلم والله كيف يجرؤ مسلم على ذلك؟!
ومن أوضح الأدلة على بيان كذلك:
قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ﴾ [التوبة: 65، 66].
ولابد من التعرف على سبب نزول هاتين الآيتين، وعلى معناهما.
.
.
سبب النزول
قال الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله: “عن عبد الله بن عمر قال: قال رجل في غزوة تبوك في مجلس يوما: ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء -أي النبي وأصحابه- لا أرغب بطونا ولا أكذب ألسنة ولا أجبن عند اللقاء , فقال رجل في المجلس: كذبت ولكنك منافق لأخبرن رسول الله , فبلغ ذلك النبي ونزل القرآن قال عبد الله: فأنا رأيته متعلقا بحقب ناقة رسول الله تنكبه الحجارة ويقول: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب, ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «﴿أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون﴾، فأنزل الله هذه الآية على رسوله صلى الله عليه وسلم” [الصحيح المسند من أسباب النزول، ص: 122 طـ دار ابن حزم].
ومعنى الآيتين:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ: والله لَئِن سألتهم يا محمَّد عما كانوا يتحدثون به استهزاء وهم سائرون معك إِلى تبوك، بعد أَن فضح الله أَمرهم بما أَوحاه الله إِليك.
لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ: ندخل ونمضى في الكلام نشغل به أَنفسنا.
وَنَلْعَبُ: ولم نكن جادين فيما تحدثنا به.
قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ: أَبالله القادر على كشف أَسراركم، وآياته المجيدة ورسوله الصادق، كنتم تلهون وتعبثون وتسخرون.
لَا تَعْتَذِرُوا: لا تعتذروا بهذه الأعذار الكاذبة.
قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ: فقد أظهرتم الكفر باستهزائكم بعد أن كنتم تضمرونه.
إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ: إن نتجاوز عن فريق منكم لتركه النفاق وتوبته منه وإخلاصه لله.
نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ: نعذب فريقًا منكم بسبب إجرامهم بهذه المقالة الفاجرة الخاطئة.
.
.
فإن قيل: إنما تحدثت الآية عن الاستهزاء بالدين ولم تتكلم عن سبه!؟ فالجواب: أنها دلَّت على ذلك بطريق الأولى، فإذا كان مجرد الاستهزاء بالدين كفر، فكيف بسبه؟!
قال تعالى في بيان حق الوالدين: ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا﴾ [الإسراء: 23]، فإذا كان قول الأف منهياً عنه فكيف بضربهما، هل يقول عاقل: لم تنه الآية عن ضرب الوالد وإنما نهت عن انتهاره!؟ الجواب: لا، فإن ذلك يدخل في الآية بطريق الأولى.
أقوال الأئمة في هذه الآية
قال ابن حزم رحمه الله: “فنص تَعَالَى على أَن الِاسْتِهْزَاء بِاللَّه تَعَالَى أَو بآياته أَو برَسُول من رسله كفر، فَخرج عَن الْإِيمَان، وَلم يقل تَعَالَى فِي ذَلِك أَنِّي علمت أَن فِي قُلُوبكُمْ كفرا بل جعلهم كفَّارًا بِنَفس الِاسْتِهْزَاء، وَمن ادّعى غير هَذَا فقد قَول الله تَعَالَى مَا لم يقل، وَكذب على الله تَعَالَى” [الفصل في الملل والأهواء والنحل 3/ 114].
وقال القرطبي رحمه الله: “قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَا قَالُوهُ مِنْ ذَلِكَ جِدًّا أَوْ هَزْلًا، وَهُوَ كَيْفَمَا كَانَ كُفْرٌ، فَإِنَّ الْهَزْلَ بِالْكُفْرِ كُفْرٌ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ” [الجامع لأحكام القرآن 8/ 197].
وقال السعدي رحمه الله: “فإن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر مخرج من الدين؛ لأن أصل الدين مبني على تعظيم الله وتعظيم دينه ورسوله والاستهزاء بشئ من ذلك مناف لهذا الأصل ومناقض له أشد المناقضة” [تفسير السعدي، ص: 442].
لا خلاف بين العلماء في هذه المسألة.
.
.
وقد حكى الإجماع غير واحد من أهل العلم.
قال ابن تيمية رحمه الله: “إن سب الله أو سب رسوله كفر ظاهراً وباطنا، وسواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم أو كان مستحلا له أو كان ذاهلا عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل” [الصارم المسلول على شاتم الرسول، ص: 512].
وجاء في الموسوعة الفقهية: “اتفق الفقهاء على أن من سب ملة الإسلام أو دين المسلمين يكون كافرا” [الموسوعة الفقهية الكويتية 24/ 139].
.
.
ومن الأدلة على كفر من سب الدين:
أنَّ سب الصحابة كفر ونفاق، فكيف بسب الدين الذي يحملونه، وهل نال الصحابة ما نالوه من الدرجة العالية عند الله إلا بنصرة هذا الدين؟! وهل سالت دماؤهم ودماء نبينا صلى الله عليه وسلم إلا بسبب الذب عن الدين وفي سبيل الدين؟!!
قال تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الفتح: 29].
قال ابن كثير رحمه الله: “وَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ انْتَزَعَ الْإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِتَكْفِيرِ الرَّوَافِضِ الَّذِينَ يُبْغِضُونَ الصَّحَابَةَ، قَالَ: لِأَنَّهُمْ يَغِيظُونَهُمْ، وَمَنْ غَاظَ الصَّحَابَةُ فَهُوَ كَافِرٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَوَافَقَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى ذَلِكَ” [تفسير القرآن العظيم 7/ 362].
فإذا كان هذا في سب حملة الدين، فكيف بالدين الذي لا يقبل الله سواه.
.
.
هل تُقبل توبة ساب الدين؟
لا ريب في ذلك.
قال تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال: 38].
لكن لابد من أن يؤدب ولو تاب؛ ليكون عبرةً لغيره.
في المغني لابن قدامة (9/ 28) “فَصْلٌ: وَمَنْ سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى، كَفَرَ، سَوَاءٌ كَانَ مَازِحًا أَوْ جَادًّا. وَكَذَلِكَ مَنْ اسْتَهْزَأَ بِاَللَّهِ تَعَالَى، أَوْ بِآيَاتِهِ أَوْ بِرُسُلِهِ، أَوْ كُتُبِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ﴾ [التوبة: 65]، ﴿لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ [التوبة: 66]. وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُكْتَفَى مِنْ الْهَازِئِ بِذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الْإِسْلَامِ، حَتَّى يُؤَدَّبَ أَدَبًا يَزْجُرُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُكْتَفَ مِمَّنْ سَبَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالتَّوْبَةِ فَمِمَّنْ سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْلَى”.
.
.
أما من سب النبي صلى الله عليه وسلم فقد نص أهل العلم على أن توبته تقبل ديانةً وترد قضاءً، أي: تقبل فيما بينه وبين الله، لكنه يقتل حداً لأنه لا يملك أحد أن يتنازل عن حق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته. [تراجع مقالتي: ثمانية عشر قولاً على وجوب قتل من سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم وإن تاب].
إذا لم يتب من سب الدين وجب على الحاكم قتله
“قال عِيَاضٌ: مَنْ سَبَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ عَابَهُ، أَوْ أَلْحَقَ بِهِ نَقْصًا فِي نَفْسِهِ أَوْ دِينِهِ أَوْ نَسَبِهِ أَوْ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِهِ، أَوْ عَرَّضَ بِهِ، أَوْ شَبَّهَهُ بِشَيْءٍ عَلَى طَرِيقِ السَّبِّ لَهُ وَالْإِزْرَاءِ عَلَيْهِ أَوْ التَّصْغِيرِ لِشَأْنِهِ أَوْ الْغَضِّ مِنْهُ أَوْ الْعَيْبِ لَهُ، فَهُوَ سَابٌّ لَهُ، وَالْحُكْمُ فِيهِ حُكْمُ السَّابِّ يُقْتَلُ كَمَا نُبَيِّنُهُ” [التاج والإكليل لمختصر خليل 8/ 381].
.
.
ومن أعظم ألأسباب التي توقع في هذا: الغضب
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغضب في سنته.
ففي صحيح البخاري، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْصِنِي؟ قَالَ: «لَا تَغْضَبْ». فَرَدَّدَ مِرَارًا قَالَ: ¬«لَا تَغْضَبْ». وفي المسند قال الرجل: ففكرت حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال فإذا الغضب يجمع الشر كلَّه.
والنهي عن الغضب يتضمن أمرين:
الأول: البعد عما يثير الغضب.
والثاني: كف النفس عن آثاره إن وقع.
.
.
ذكرى!
هل تعلم أيها المسلم أن هذا الدين سالت فيه دماء سيد النبيين عليه الصلاة والتسليم؟
كسرت رباعية النبي صلى الله عليه وسلم في أحد، ولما خرج إلى أهل الطائف ليبلغ دين الله أغروا به السفهاء والمجانين، وحصبوا نبينا صلى الله عليه وسلم بالحجارة حتى غطت الدماء نعليه!
من أجل هذا الدين شلت في هذا اليوم يد طلحة بن عبيد الله الأنصاري رضي الله عنه، وكان الصديق رضي الله عنه يقول إذا ذكر الناس يوم أحد: “هذا اليوم كله لطلحة”.
استشهد في سبيله في أحد سبعون من الصحابة.
واستشهد سبعون من القراء كانوا يحتطبون بالنهار ويعلمون الناس القرآن بالليل، فبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم مه بعض المنافقين أخفوا كفرهم وطلبوا من نبينا صلى الله عليه وسلم أن يبعث معهم من يعلم الناس الدين، فبعث سبعين من القراء غدروا بهم وقتلوهم، ولم ينج منهم سوى واحد.
كل ذلك في سبيل دين الله الذي يسبه من لا يرجو لله وقاراً.
رب صل وسلم على نبينا محمد.

شارك المحتوى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *