مقالات

الغضب

بسم الله الرحمن الرحيم

لا تغضب

مهران ماهر عثمان

خطبة 26صفر 32

مسجد السلام بالطائف

الحمد لله، وأصلي وأسلم على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛

فقد جاء الإسلام بمكارم الأخلاق، وبالنهي عن كل ما من شأنه أن يوقع العداوة والبغضاء بين المسلمين، ومن ذرائع ذلك: الغضب، وهذا مقال في التحذير من سبيله، وتذكير ببعض ما يتعلق به من المباحث المهمة.

 

الأمر بالحلم وعدم الغضب

قال تعالى: ﴿ادفع بالتي هي أحسن﴾. قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيرها: “الصبر عند الغضب، والعفو عند الإساءة”.

النهي عن الغضب

نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغضب في سنته.

ففي صحيح البخاري، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْصِنِي؟ قَالَ: «لَا تَغْضَبْ». فَرَدَّدَ مِرَارًا قَالَ: «لَا تَغْضَبْ». وفي المسند قال الرجل: ففكرت حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال فإذا الغضب يجمع الشر كلَّه.

والنهي عن الغضب يتضمن أمرين:

الأول: البعد عما يثير الغضب.

والثاني: كف النفس عن آثاره إن وقع.

 

الترغيب في كظم الغيظ وترك الغضب

وقبل ذكرها لابد من التفريق بين الغيظ والغضب..

قال القرطبي رحمه الله: “الغيظ أصل الغضب، وكثيرا ما يتلازمان، لكن فُرقان ما بينهما، أنَّ الغيظ لا يظهر على الجوارح، بخلاف الغضب؛ فإنّه يظهر في الجوارح”.

ولكظم الغيظ وعدم الغضب فضائل كثيرة؛ منها:

الأجر العظيم

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا تَجَرَّعَ عَبْدٌ جُرْعَةً أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ جُرْعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُهَا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى» رواه أحمد.

الشديد القوي من يملك نفسه عند الغضب

عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يرفعون حجراً فقال: «ما يصنع هؤلاء»؟ فقالوا: يرفعون حجراً يريدون الشدة. فقال: «أفلا أدلُّكم على ما هو أشدُّ منه؟ الذي يملِك نفسه عند الغضب». وفي رواية: أنه صلى الله عليه وسلم مرَّ بقوم يصطرعون، فقال: «ما هذا»؟ قالوا: يا رسول الله هذا فلان الصريع، ما يصارع أحداً إلا صرعه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أدلُّكم على من هو أشد منه؟ رجل ظلمه رجل، فكظم غيظه، فغلبه، وغلب شيطانه، وغلب شيطان صاحبه» رواه البزار في مسنده وصححه الألباني رحمهما الله.

فأرشد النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إلى كظم الغيظ، وبين صلى الله عليه وسلم أن من أوذي فكظم غيظه فقد غلب ثلاثةً: المعتدي، وشيطان نفسه، وشيطان صاحبه.

وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما تعدُّون الصُّرَعةَ فيكم»؟ قلنا: الذي لا تصرعه الرجال، قال: «ليس كذلك ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب» رواه مسلم.

الحلم يحبه الله

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لأَشَجِّ عَبْدِ القَيْسِ: «إنَّ فيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ وَالأنَاةُ» رواه مسلم. ولأبي داود: قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَتَخَلَّقُ بِهِمَا أَمْ اللَّهُ جَبَلَنِي عَلَيْهِمَا؟ قَالَ: «بَلْ اللَّهُ جَبَلَكَ عَلَيْهِمَا». قَالَ: الحمد لله الذي جبلني على خَلَّتين يحبهما الله ورسوله.

عدم الغضب وقاية من غضب الله

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَاذَا يُبَاعِدُنِي مِنْ غَضَبِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ قَالَ: «لَا تَغْضَبْ» رواه أحمد.

وكظم الغيظ تنال به كرامة الله في الآخرة

روى أحمد عن معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه مرفوعاً: «من كظم غيظاً وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره في أي الحور شاء».

وهو من أسباب دخول الجنة

قال تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾.

وقال: ﴿فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾.

آثار الغضب

آثار الغضب كثيرة؛ منها:

عدم القدرة على الإمساك بزمام النفس، القتل، التشريد، الطلاق، الهجر، قطع الرحم، الظلم، الإضرار بالبدن والوقوع في المهلكة، وقوع الفرقة بين المسلمين، والغضب يمنع من قول الحق؛ ولذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أسألك كلمة الحق في الغضب والرضا» رواه أحمد.

ورد في صحيح مسلم أَنَّ عَلْقَمَةَ بْنَ وَائِلٍ حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ قَالَ: إِنِّي لَقَاعِدٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ يَقُودُ آخَرَ بِنِسْعَةٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا قَتَلَ أَخِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَقَتَلْتَهُ»؟ فَقَالَ: إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ أَقَمْتُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ. قَالَ: نَعَمْ قَتَلْتَهُ. قَالَ: «كَيْفَ قَتَلْتَهُ»؟ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَهُوَ نَخْتَبِطُ مِنْ شَجَرَةٍ – يَضْرِب الشَّجَر بِالْعَصَا فَيَسْقُط وَرَقه فَيَجْمَعهُ عَلَفًا – فَسَبَّنِي، فَأَغْضَبَنِي، فَضَرَبْتُهُ بِالْفَأْسِ عَلَى قَرْنِهِ فَقَتَلْتُهُ.

والنِّسعة: حبل من جلد مضفور.

ولذلك ثبت في المسند أن الذي أوصاه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «لا تغضب»، قال: فكرت حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال فإذا الغضب يجمع الشر كلَّه.

أسباب الغضب

العدوان من الآخرين؛ السخرية، الاستهزاء، الغيبة، النميمة، السب، التجريح، التعذيب، التذكير بالعداوات والثأرات القديمة كما حصل بين الأوس والخزرج، ويحصل بين القبائل اليوم.

علاج الغضب

مما ينبغي أن يفعله الغاضب أن يسكت؛ فإنه قد يتكلم بالكفر عياذا بالله، روى الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إذا غضب أحدكم فليسكت.

ومما يسكِّت الغضب الاستعاذة من الشيطان.

روى البخاري ومسلم أن رجلين استبا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما أحدهما فقد احمر وجهه، وانتفخت أوداجه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم».

ومما يَذهب بالغضب تغيير الهيئة.

روى أحمد وأبو داود عن أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع».

ولو توضأ الغاضب لكان خيرا له.

روى أحمد وأبو داود عن عطية مرفوعاً: «إن الغضب من الشيطان، والشيطان خلق من النار، وإنما تُطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ».

ومما يقلِّل من الغضب تذكرُ عاقبته.

ومنها تذكر فضائل كظم الغيظ. وقد غضب عمر رضي الله عنه، فذكر بهذه الآية: ﴿والكاظمين الغيظ والعافينعن الناس والله يحب المحسنين﴾، فسكت غضبه.

وأول عمل ينبغي على الغاضب أن يفعله: إسكات الغضب؛ لأن أي فعل يقوم به حال الغضب لن يكون مرضياً.

آثار في التحذير من الغضب

قال عروة بن الزبير رضي الله عنهما: “مكتوبٌ في الحِكم: يا داود إياك وشدة الغضب؛ فإن شدة الغضب مفسدة لفؤاد الحكيم”.

وروي عن ذي القرنين رحمه الله تعالى أنه لقي ملكاً من الملائكة فقال: علمني علماً أزدد به إيماناً. قال: “لا تغضب؛ فإن الشيطان أقدر ما يكون على ابن آدم حين يغضب، فرُدّ الغضب بالكظم، وسكّنه بالتؤدة، وإياك والعجلة فإنك إذا عجلت أخطأت حظّك، وكن سهلاً ليّناً للقريب والبعيد، ولا تكن جبّاراً عنيداً”.

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “أول الغضب جنون وآخره ندم، وربما كان العطب في الغضب”.

وقد قيل قيل لعبد الله بن المبارك رحمه الله: “اجمع لنا حسن الخلق في كلمة. قال: تركُ الغضب”.

الغضب المحمود

الغضب لله هو الغضب المحمود.

عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما خير النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يأثم، فإذا كان الإثم كان أبعدهما منه، والله ما انتقم لنفسه في شيء يؤتى إليه قط حتى تنتهك حرمات الله فينتقم لله” متفق عليه.

وروى مسلم عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنى لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل بنا. فما رأيت النبى صلى الله عليه وسلم غضب فى موعظة قط أشد مما غضب يومئذ فقال: «يا أيها الناس إنَّ منكم منفرين، فأيكم أم الناس فليوجز؛ فإن من ورائه الكبير، والضعيف، وذا الحاجة

عن عائشة رضي الله عنها أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد -حب رسول الله صلى الله عليه وسلم-؟ فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أتشفع في حد من حدود الله»؟ ثم قام فاختطب، ثم قال: «إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة ابنة محمد سرقت لقطعت يدها» متفق عليه.

طلاق الغضبان

أنْ يعتقد الإنسان أنَّ كل غضب يمنع من وقوع الطلاق فهذا خطأ، وهل يطلق الزوج زوجه إلا في غضب؟!

ولكن ما هو حد الغضب الذي يمنع من وقوع الطلاق؟

لابن القيم رحمه الله رسالة بعنوان: إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان، مما جاء فيها:

“الغضب ثلاثة أقسام:

أحدها: أن يحصل للإنسان مبادئه وأوائله بحيث لا يتغير عليه عقله ولا ذهنه, ويعلم ما يقول, ويقصده; فهذا لا إشكال في وقوع طلاقه وعتقه وصحة عقوده.

القسم الثاني: أن يبلغ به الغضب نهايته بحيث ينغلق عليه باب العلم والإرادة; فلا يعلم ما يقول ولا يريده, فهذا لا يتوجه خلاف في عدم وقوع طلاقه, فإذا اشتد به الغضب حتى لم يعلم ما يقول فلا ريب أنه لا ينفذ شيء من أقواله في هذه الحالة, فإن أقوال المكلف إنما تنفذ مع علم القائل بصدورها منه، ومعناها، وإرادته للتكلم.

القسم الثالث: من توسط في الغضب بين المرتبتين, فتعدى مبادئه, ولم ينته إلى آخره بحيث صار كالمجنون, فهذا موضع الخلاف, ومحل النظر, والأدلة الشرعية تدل على عدم نفوذ طلاقه وعتقه وعقوده التي يعتبر فيها الاختيار والرضا, وهو فرع من الإغلاق كما فسره به الأئمة”.

وينظر: (مطالب أولي النهى 5/323)، و(زاد المعاد 5/215)، و(الموسوعة الفقهية الكويتية 29/ 18

رب صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

شارك المحتوى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *