
تأمُّلات في حجة الوداع
بسم الله الرحمن الرحيم
تأمُّلات في حجة الوداع
مهران ماهر عثمان
خطبة 20 ذو القعدة 33
مسجد السلام بالطائف 22
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛
ففي السادس والعشرين من شهر ذي القعدة في العام العاشر من الهجرة خرج النبي صلى الله عليه وسلم للحج، وشهد هذه الحجة من الصحابة مائة ألف وأربعة وأربعون ألفا، وهذه بعض الدروس المستفادة من تلك الحجة المباركة، وهي:
عنايته بالإخلاص فيها
فلقد قال بعدما أهلَّ بتوحيد الله: «اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة» رواه ابن ماجة.
عنايته ببيان فضل الحج ومكانته.
فقد جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنصاري في أيام منى، فأَقْبَلَ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «سَلْ عَنْ حَاجَتِكَ وَإِنْ شِئْتَ أَخْبَرْتُكَ»؟ قَالَ: فَذَلِكَ أَعْجَبُ إِلَيَّ. قَالَ: «فَإِنَّكَ جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنْ خُرُوجِكَ مِنْ بَيْتِكَ تَؤُمُّ الْبَيْتَ الْحَرَامَ , وَتَقُولُ: مَاذَا لِي فِيهِ؟ وَجِئْتَ تَسْأَلُ عَنْ وُقُوفِكَ بِعَرَفَةَ, وَتَقُولُ: مَاذَا لِي فِيهِ؟ وَعَنْ رَمْيِكَ الْجِمَارَ, وَتَقُولُ: مَاذَا لِي فِيهِ؟ وَعَنْ طَوَافِكَ بِالْبَيْتِ, وَتَقُولُ: مَاذَا لِي فِيهِ؟ وَعَنْ حَلْقِكَ رَأْسَكَ , وَتَقُولُ: مَاذَا لِي فِيهِ»؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ. قَالَ: «أَمَّا خُرُوجُكَ مِنْ بَيْتِكَ تَؤُمُّ الْبَيْتَ فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ وَطْأَةٍ تَطَأُهَا رَاحِلَتُكَ يَكْتُبُ اللَّهُ لَكَ بِهَا حَسَنَةً, وَيَمْحُو عَنْكَ بِهَا سَيِّئَةً. وَأَمَّا وُقُوفُكَ بِعَرَفَةَ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُبَاهِي بِهِمُ الْمَلائِكَةَ، فَيَقُولُ: هَؤُلاءِ عِبَادِي جَاءُونِي شُعْثًا غُبْرًا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ يَرْجُونَ رَحْمَتِي, وَيَخَافُونَ عَذَابِي, وَلَمْ يَرَوْنِي, فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟ فَلَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِثْلُ رَمْلِ عَالِجٍ, أَوْ مِثْلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا, أَوْ مِثْلُ قَطْرِ السَّمَاءِ ذُنُوبًا غَسَلَ اللَّهُ عَنْكَ. وَأَمَّا رَمْيُكَ الْجِمَارَ فَإِنَّهُ مَذْخُورٌ لَكَ. وَأَمَّا حَلْقُكَ رَأْسَكَ فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ شَعْرَةٍ تَسْقُطُ حَسَنَة. فَإِذَا طُفْتَ بِالْبَيْتِ خَرَجْتَ مِنْ ذُنُوبِكَ كَيَوْمِ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ» رواه الطبراني في الجامع الكبير.
عنايته فيها بالدعاء
فأكثر من دعاء الله في حجه، ثبت في مسند أحمد أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان يقول بين الركن اليماني والحجر الأسود : «ربنا آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار».
وأكثر من الدعاء في سعيه، ففي صحيح مسلم من الحديث الطويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه جابر، وفيه: “فبدأ بالصفا، فَرقىَ حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحد الله، وكبَّره، وقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده»، ثم دعا بين ذلك، قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نـزل المروة، حتى إذا انصبَّت قدماه في بطن الوادي سعى، حتى إذا صَعِدتا مشى، حتى إذا أتى المروة ففعل على المروة كما فعل في الصفا”.
وأكثر من الدعاء بعرفة، وهو القائل: «أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له» رواه مالك، والترمذي، وحسنه الألباني.
وأكثر منه في المشعر الحرام، : قال جابر رضي الله عنه: “ثم ركب القصواء حتى إذا أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعاه، وكبره، وهلله، ووحده، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً”.
وأكثر من الدعاء في أيام التشريق، في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كـان إذا رمى الجمرة التي تلي مسجد منى يرميها بسبع حصيات، ثم يكبر كلما رمى بحصاة، ثم تقدم أمامها فوقف مستقبل القبلة، رافعاً يديه يدعو، وكان يطيل الوقوف، ثم يأتي الجمرة الثانية فيرميها بسبع حصيات، يكبر كلما رمى بحصاة، ثم ينحدر ذات اليسار مما يلي الوادي، فيقف مستقبل القبلة رافعاً يديه يدعو، ثم يأتي الجمرة التي عند العقبة فيرميها بسبع حصيات، يكبر عند كل حصاة ثم ينصرف، ولا يقف عندها”.
عنايته صلى الله عليه وسلم بشعار الحج
قال نبينا صلى الله عليه وسلم: «أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: ارْفَعْ صَوْتَكَ بِالْإِهْلَالِ؛ فَإِنَّهُ شِعَارُ الْحَجِّ» رواه ابن حبان. وشعاره: أعلامه وعلاماته.
وفي سنن الترمذي، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ: أَيُّ الحَجِّ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «العَجُّ وَالثَّجُّ». والعج: رفع الصوت بالتلبية، والثج: سيلان الدم.
عنايته بتقصد مخالفة المشركين
ففي التلبية كانوا يقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إلا شريكا هو لك! فأهل بتوحيد الله.
وخالفهم في طوافهم، ففي صحيح مسلم، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: ” كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَهِيَ عُرْيَانَةٌ، فَتَقُولُ: مَنْ يُعِيرُنِي تِطْوَافًا؟ تَجْعَلُهُ عَلَى فَرْجِهَا، وَتَقُولُ:
الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ * فَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ.
فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ [الأعراف: 31]”. وفي الصحيحين أمر نبينا صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه لما حج بالناس أن يعلن: «لا يطوف بالبيت عريان»، وأمره أن يعلن كذلك: «لا يحج بعد هذا العام مشرك».
وكان المشركون من أهل قريش لا يفيضون من عرفات، ففي صحيح مسلم، عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: “الْحُمْسُ هُمُ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ [البقرة: 199] قَالَتْ: كَانَ النَّاسُ يُفِيضُونَ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَكَانَ الْحُمْسُ يُفِيضُونَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ، يَقُولُونَ: لَا نُفِيضُ إِلَّا مِنَ الْحَرَمِ”. فأوجب النبي صلى الله عليه وسلم الوقوف بعرفة قائلا: «الحج عرفة» رواه الشيخان.
وخالفهم في الدفع من عرفة إلى مزدلفة، ومنها إلى منى كما في مسند الشافعي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَدْفَعُونَ مِنْ عَرَفَةَ حِينَ تَكُونُ الشَّمْسُ كَأَنَّهَا عَمَائِمُ الرِّجَالِ فِي وُجُوهِهِمْ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ، وَمِنَ الْمُزْدَلِفَةِ بَعْدَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ حِينَ تَكُونُ كَأَنَّهَا عَمَائِمُ الرِّجَالِ فِي وُجُوهِهِمْ، وَإِنَّا لَا نَدْفَعَ مِنْ عَرَفَةَ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَنَدْفَعُ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، هَدْيُنَا مُخَالِفٌ لِهَدْيِ أَهْلِ الْأَوْثَانِ وَالشِّرْكِ».
وكانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، ففي سنن أبي داود، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: “وَاللَّهِ مَا أَعْمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِشَةَ فِي ذِي الْحِجَّةِ إِلَّا لِيَقْطَعَ بِذَلِكَ أَمْرَ أَهْلِ الشِّرْكِ، فَإِنَّ هَذَا الْحَيَّ مِنْ قُرَيْشٍ وَمَنْ دَانَ دِينَهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِذَا عَفَا الْوَبَرْ وَبَرَأَ الدَّبَرْ وَدَخَلَ صَفَرْ فَقَدْ، حَلَّتِ الْعُمْرَةُ لِمَنِ اعْتَمَرْ فَكَانُوا يُحَرِّمُونَ الْعُمْرَةَ حَتَّى يَنْسَلِخَ ذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ”.
وأمر أصحابه بالتمتع، وفيه يأتي الحاج بالعمرة قبل الحج.
وحج سيد الحجاج والمعتمرين صلى الله عليه وسلم قارناً، وبالقران يُجمع بين الحج والعمرة.
وخالفهم في السعي، فالأنصار ما كانوا يسعون بين الصفا والمروة كما قالت عائشة رضي الله عنها في الصحيحين: “كَان الأنصار يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ، وَكَانَتْ مَنَاةُ حَذْوَ قُدَيْدٍ، وَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَطُوفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ، فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلاَمُ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ [البقرة: 158]، مَا أَتَمَّ اللَّهُ حَجَّ امْرِئٍ، وَلاَ عُمْرَتَهُ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ”.
ومن دروسها: عنايته بالاستكثار من الخير
فقد أهدى مائة بدنة كما في صحيح البخاري، وكان يكفيه سبع بدنة.
ومن دروسها: حرصه صلى الله عليه وسلم على تعليم أصحابه وإفادة السائلين.
ففي الصحيحين، عَنْ جَرِيرٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ: «اسْتَنْصِتِ النَّاسَ»، فَقَالَ: «لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ».
وفيهما، عن ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنها أرادت الحج وكانت شاكية، فَقَالَ لَهَا: «حُجِّي وَاشْتَرِطِي، وَقُولِي: اللَّهُمَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي».
وفي صحيح مسلم وسنن النسائي، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: “رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمى الجمرة وهو على بعيره, وهو يقول: «يا أيها الناس خذوا مناسككم؛ فإنى لا أدرى لعلى لا أحج بعد عامي هذا».
وقال لغلمان بني عبد المطلب: «أُبَيْنِيَّ، لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس» رواه أبو داود.
وفي المعجم الكبير للطبراني، عن أبي المنتفق رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة، فقال له: يا رسول الله، أنبئني بعمل ينجيني من عذاب الله ويدخلني جنته، فقال له: «اعبد الله ولا تشرك به شيئا، وأقم الصلاة المكتوبة، وأد الزكاة المفروضة، وحج واعتمر، وصم رمضان، وانظر ماذا تحب من الناس أن يأتوه إليك فافعله بهم، وما تكره من الناس أن يأتوه إليك فذرهم منه».
وفي الصحيحن، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، بمنى، للناس يسألونه، فجاء رجل فقال: يا رسول الله، لم أشعر، فحلقت قبل أن أنحر، فقال: «اذبح ولا حرج» ثم جاءه رجل آخر، فقال: يا رسول الله، لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي، فقال: «ارم ولا حرج» قال: فما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم ولا أخر، إلا قال: «افعل ولا حرج».
التأكيد على حرمة المسلم
خطب النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في يوم النحر فقال: «أيُّ يومٍ أعظمُ حرمةً»؟ فقالوا: يومنا هذا. قال: «فأي شهر أعظم حرمة»؟ قالوا: شهرنا. قال: «أي بلد أعظم حرمة»؟ قالوا: بلدنا هذا. قال: «فإن دماءكم، وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا. هل بلغت»؟ قالوا: نعم. قال: «اللهم اشهد» رواه أحمد. وفي رواية للبخاري: «وأعراضكم». وقال صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ» رواه مسلم.
وأكد على هذا في يوم النحر كما في صحيح البخاري، وأوسط أيام التشريق كما في مسند أحمد.
وفي سنن أبي داود، عن أسامة بن شَرِيك، قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم حاجا فكان الناس يأتونه، فمن قال: يا رسول الله، سعيت قبل أن أطوف أو قدمت شيئا أو أخرت شيئا فكان يقول: «لا حرج لا حرج، إلا على رجل اقترض عرض رجل مسلم وهو ظالم، فذلك الذي حَرِج وهَلَك».
حرصه فيها على تربية أصحابه على متابعته
فقد قال لأصحابه: «لتأخذوا عني مناسككم؛ لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا» رواه مسلم والنسائي.
وفي مصنف ابن أبي شيبة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةَ الْعَقَبَةِ: «الْقُطْ لِي حَصًى»، فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ مِنْ حَصَى الْخَذْفِ قَالَ: فَقَالَ: «بِمِثْلِ هَذَا فَارْمُوا»: ثُمَّ قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ».
وفي خطبة عرفة قال لأصحابه: «وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ» رواه مسلم.
فهذه التربية أثمرت في نفوس أصحابه تمسكاً عظيما بسنته، ومما يبين ذلك:
أن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قال: “فِيمَ الرَّمَلَانُ الْيَوْمَ وَالْكَشْفُ عَنِ المَنَاكِبِ، وَقَدْ أَطَّأَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ، وَنَفَى الْكُفْرَ وَأَهْلَهُ؟! مَعَ ذَلِكَ لَا نَدَعُ شَيْئًا كُنَّا نَفْعَلُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ” رواه أبو داود.
والمعنى: إنما شرع النبي صلى الله عليه وسلم الاضطباع والرمل لإظهار القوة للمشركين لما أحاطوا بالبيت في عمرة القضاء، فلمَ نفعل ذلك الآن؟ ويجيب نفسه بنفسه قائلا: “لَا نَدَعُ شَيْئًا كُنَّا نَفْعَلُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”.
وعنه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قال لما جَاءَ إِلَى الحَجَرِ الأَسْوَدِ وقَبَّلَهُ: “إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ، لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ، وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ” رواه الشيخان.
ولما استلم ابن عمر رضي الله عنهما الحجر الأسود وقبَّله قال: “اللهم إيمانا بك، وتصديقا بكتابك، واتباعا لسنة نبيك” رواه الطبراني في الأوسط.
وفي مسند أحمد، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه طاف مع معاوية بالبيت، فجعل معاوية يستلم الأركان كلَّها، فقال له ابن عباس: لم تستلم هذين الركنين ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهما؟ فقال معاوية: ليس شيء من البيت مهجورا. فقال ابن عباس: “﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة﴾ [الأحزاب: 21]”، فقال معاوية: صدقت.
أسأل الله أن يسلك بنا سبيل نبينا صلى الله عليه وسلم.
والحمد لله رب العالمين.
