
العفو
بسم الله الرحمن الرحيم
العفو
مهران ماهر عثمان
3رمضان 31
أول خطبة لي بمسجد السلام بالطائف (22)
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ فمن أخلاق الإسلام التي دعا إليه: العفو، والتجاوز، فما هو العفو؟ وما ثمراته؟ في هذا المقال جواب عن هذين السؤالين وغيرهما.
معنى العفو
العفو لغة: مصدر قولهم عفا يعفو عفوا وهو مأخوذ من مادة (ع ف و) التي تدل على ترك الشيء، قال الخليل: العفو تركك إنسانا استوجب عقوبة فعفوت عنه.
الفرق بين العفو والصفح
قال القرطبي رحمه الله: “وَالْعَفْوُ: تَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ بِالذَّنْبِ. وَالصَّفْحُ: إِزَالَةُ أَثَرِهِ مِنَ النَّفْسِ” [الجامع لأحكام القرآن 2/ 71].
فما الفرق بين العفو والغفران؟
قال ابن جزي رحمه الله: “﴿وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا﴾، ألفاظ متقاربة المعنى، وبينها من الفرق أنّ: العفو ترك المؤاخذة بالذنب، والمغفرة تقتضي مع ذلك الستر، والرحمة تجمع ذلك مع التفضل بالإنعام” [التسهيل لعلوم التنزيل 1/ 143].
العفو من أسماء الله تعالى
قال ابن الأثير: من أسماء الله تعالى “العفو”، وهو فعول من العفو، وهو التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه، وأصله المحو والطمس، وهو من أبنية المبالغة [النهاية في غريب الحديث 3/ 265]
قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ [النساء : 43].
وقال: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ [النساء : 99].
وقال: ﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾ [النساء : 149].
وثبت عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله تعالى حدثنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «﴿وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير﴾ [الشورى: 30]. وَسَأُفَسِّرُهَا لَكَ يَا عَلِيُّ: مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مَرَضٍ، أَوْ عُقُوبَةٍ، أَوْ بَلاءٍ فِي الدُّنْيَا، فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُثَنِّيَ عَلَيْهِمِ الْعُقُوبَةَ فِي الْآخِرَةِ، وَمَا عَفَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي الدُّنْيَا، فَاللَّهُ تَعَالَى أَحْلَمُ مِنْ أَنْ يَعُودَ بَعْدَ عَفْوِهِ» رواه أحمد وحسن إسناده أحمد محمد شاكر.
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله، يدعون له الولد ثم يعافيهم ويرزقهم» رواه البخاري ومسلم.
الأمر بالعفو
قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران : 159].
وقال: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور : 22].
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كم نعفو عن الخادم؟ فصمت، ثم أعاد عليه الكلام، فصمت، فلما كان في الثالثة، قال: «اعفوا عنه في كل يوم سبعين مرة» أبو داود.
قال المباركفوري: “والمراد به الكثرة دون التحديد، كذا قيل والله تعالى أعلم” [تحفة الأحوذي 6/ 69].
فضل العفو
1/ من مكارم الأخلاق
عن الحسن البصري رحمه الله قال: “أفضل أخلاق المؤمن العفو” [الآداب الشرعية 1/71].
2/ التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن عطاء بن يسار سأله أن يخبره عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، قال: أجل، إنه لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي القُرْآنِ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ [الأحزاب: 45]، وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلاَ غَلِيظٍ، وَلاَ سَخَّابٍ فِي الأَسْوَاقِ، وَلاَ يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ المِلَّةَ العَوْجَاءَ، بِأَنْ يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا” رواه البخاري.
شاهدا: تشهد عليهم بأنك بلغتهم رسالة ربك يوم القيامة.
مبشراً: تبشر المؤمنين بالجنة.
نذيراً: تخوِّف الكافرين من عذاب الله.
وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ: “أَي حَافِظًا لدينهم، وَالْمرَاد الْعَرَب، وَسموا بالأميين لِأَن الْكِتَابَة كَانَت فيهم قَليلَة، وكل من لَا يكْتب وَلَا يقْرَأ أُمِّي، نسب بذلك إِلَى أمه” [كشف المشكل من حديث الصحيحين 4/ 119].
أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي: عبدٌ لا يعبد، ورسول لا يُكذَّب.
سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ: الذي يفوِّض أمره إلى الله.
لَيْسَ بِفَظٍّ: سيء الخلق.
وَلاَ غَلِيظٍ: شديد، بل هو هين سهل.
وَلاَ سَخَّابٍ فِي الأَسْوَاقِ: يرفع صوته.
وَلاَ يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ: لا يقابل الإساءة بالإساءة.
وَلَكِنْ يَعْفُو: يتجاوز.
وَيَغْفِرُ: يصفح ويستر.
وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ المِلَّةَ العَوْجَاءَ: يمحو بك الشرك، ويثبت التوحيد.
وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا: العمى ألا يبصر الحق، والصمم: أن لا يسمعه، والقلوب الغلف: التي غطاها الشرك بالله.
3/ العز
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما نقصت صدقة من مال([1])، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا([2])، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله» رواه مسلم.
وروي أن راهبا دخل على هشام بن عبد الملك، فقال للراهب: أرأيت ذا القرنين أكان نبيا؟ فقال: لا، ولكنه إنما أعطي ما أعطي بأربع خصال كن فيه: كان إذا قدر عفا، وإذا وعد وفى، وإذا حدث صدق، ولا يجمع شغل اليوم لغد [الإحياء 3/ 184].
4/ أجر الله
قال تعالى: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [الشورى : 40].
وعن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: بلغنا أن الله تعالى يأمر مناديا يوم القيامة فينادي: من كان له عند الله شي ء فليقم، فيقوم أهل العفو، فيكافئهم الله بما كان من عفوهم عن الناس [الإحياء 3/ 195].
4/ نيل عفو الله
قال ربنا تعالى: ﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾ [النساء : 149].
وقال: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور : 22].
وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التغابن : 14].
5/ محبة الله
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهمَّ إِنَّكَ عُفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي» رواه الترمذي.
وعن سعيد بن المسيب رحمه الله قال: “ما من شيء إلا والله يحب أن يعفى عنه ما لم يكن حدا عن عباده”.
6/ الجنة
قال تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ [آل عمران : 133 – 136].
نماذج من العفو في حياة السلف
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “كلُّ الناس مني في حَلِّ” [الآداب الشرعية 1/ 71].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة، فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولا كانوا أو شبانا. فقال عيينه لابن أخيه: يا ابن أخي لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه. قال: سأستأذن لك عليه. قال ابن عباس: فاستأذن الحر لعيينة فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب، فو الله ما تعطينا الجزل ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى هم به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين! إن الله تعالى قال لنبيه: ﴿خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين﴾، وإن هذا من الجاهلين. والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافا عند كتاب الله. رواه البخاري.
وجلس ابن مسعود في السوق يبتاع طعاما فابتاع، ثم طلب الدراهم وكانت في عمامته فوجدها قد حلت، فقال: لقد جلست وإنها لمعي، فجعلوا يدعون على من أخذها ويقولون: اللهم اقطع يد السارق الذي أخذها، اللهم افعل به كذا، فقال عبد الله: “اللهم إن كان حمله على أخذها حاجة فبارك له فيها، وإن كان حملته جراءة على الذنب فاجعله آخر ذنوبه” [الإحياء 3/ 196].
فأي أخلاق هذه التي تخلق بها صحابة نبينا صلى الله عليه وسلم؟
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.
[1] / المراد: أن ينجبر نقص الصورة بالبركة الخفية.
[2] / يعلو في الدنيا والآخرة.

