
العدل
بسم الله الرحمن الرحيم
العدل
جمعة 5 فبراير 2019
مسجد السلام بالطائف (22)
مهران ماهر عثمان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛
فالعدل مما تواطأت الشرائع على حسنه، واتفقت الملل على الدعوة إليه وترسيخه، وما من نبي إلا وجاء به، قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد/25]. فكتبُ الله المنزلة دساتير العدل، ومنبع الهداية، ولكل رسول كتاب.
فما هو العدل؟
العدل ضد الجور.
وفي الشرع: فصل الحكومة على ما في كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وهل العدل إلا في شرع الله؟ وهو: بذل الحقوق الواجبة وتسوية المستحقين في حقوقهم، وهو: إعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه.
الأمر به
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل/90].
ويقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [النساء/58].
وقال: ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾ [الشورى/15].
وقال: ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ [سورة ص/26].
ويقول: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحديد/25].
أي: وأنزلنا معهم الكتاب بالأحكام والشرائع، وأنزلنا الميزان؛ ليتعامل الناس بينهم بالعدل.
ومن نصوص السنة قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إذا حكمتم فاعدلوا» رواه الطبراني في الأوسط.
وقد قال ربعي بن عامر رضي الله عنه -لرستم قائد الفرس لما سأله ما جاء بكم؟- “الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام” [البداية والنهاية: 7/46].
الترغيب في العدل
1/ بالعدل تحفظ البلاد
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: “إن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة، وعاقبة العدل كريمة، ولهذا يروى: الله ينصر الدولة العادلة، وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة، ولو كانت مؤمنة” [الحسبة، ص 16].
وفي حلية الأولياء: كتب بعض عمال عمر بن عبد العزيز إليه: أما بعد، فإن مدينتنا قد خربت، فإن رأى أمير المؤمنين أن يقطع لها مالا يرُمُّها به فعل. فكتب إليه عمر: “أما بعد، فقد فَهِمتُ كتابك وما ذكرت أن مدينتكم قد خُرِّبت، فإذا قرأت كتابي هذا فحصنها بالعدل، ونقِّ طُرُقَها من الظلم، فإنه مرمَّتُها، والسلام”.
2/ استجابة الدعاء
لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا ترد دعوتهم، الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم» رواه الترمذي.
3/ الإمام العدل دعا له النبي صلى الله عليه وسلم
عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا اللهم: «اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ» ولأحمد: «فشُقَّ».
4/ بالعدل يأمن الناس
فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما رأى الأذى يشتد بأصحابه، أمرهم بالهجرة إلى الحبشة وقال: «فإن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد» رواه الطبري في التاريخ.
5/ العدل أمن من ثورة الشعوب
ونحن في عهد الثورات الشعبية، فمن عدل أمن من ثورة الشعوب، ولله در شاعر النيل وهو يقول في عمريته:
وراع صاحب كسرى أن رأى عمرا | بين الرعية عطلا وهو راعـيها | |
وعهده بملوك الفرس أن لـــها | سورا من الجند والأحراس يحميها | |
رآه مستغرقا في نومه فــــرأى | فيــه الجلالة في أسمى معانيها | |
فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملا | بــبردة كاد طول العهد يبليها | |
فهان في عينه ما كان يكـــبره | مــن الأكاسر والدنيا بأيديها | |
وقال قولة حق أصبحت مـــثلا | وأصـبح الجيل بعد الجيل يرويها | |
أمنت لما أقمـــت العدل بينهم | فنمــت نوم قرير العين هانيها |
6/ العدل أمن من عذاب الله
فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولا لا يفكه إلا العدل، أويوبقه الجور» رواه أحمد بإسناد جيد، رجاله رجال الصحيح.
وعن سعد بن عبادة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولا لا يفكه من ذلك الغل إلا العدل» رواه أحمد.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من رجل ولي عشرة إلا أتي به يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه حتى يقضى بينه وبينهم» رواه الطبراني في الكبير.
وعن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن شئتم أنبأتكم عن الإمارة»، قال عوف: فناديت بأعلى صوتي ثلاث مرات: وما هي يا رسول الله؟ قال: «أولها ملامة، وثانيها ندامة، وثالثها عذاب يوم القيامة، إلا من عدل، وكيف يعدل مع قرابته»؟ رواه الطبراني في الكبير.
وقال: «وأما المنجيات: فالعدل في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وخشية الله في السر والعلانية» رواه الطبراني في الأوسط.
7/ العدل أمن من الشقاء في الدارين
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم الغنائم بالجِعْرانة([1]) إذ قال له رجل: اعدل. فقال: «لقد شَقِيتُ إن لم أعدل» رواه البخاري.
8/ معية الله
لحديث ابن أبي أوفى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار تخلى عنه ولزمه الشيطان» رواه الترمذي.
وعن سعيد بن المسيب رحمه الله: “أن مسلما ويهوديا اختصما إلى عمر رضي الله عنه، فرأى الحق لليهودي، فقضى له عمر به، فقال له اليهودي: والله لقد قضيت بالحق، فضربه عمر بالدرة وقال: وما يدريك؟ فقال اليهودي: والله إنا نجد في التوراة: ليس قاض يقضي بالحق إلا كان عن يمينه ملك وعن شماله ملك يسددانه ويوفقانه للحق ما دام مع الحق، فإذا ترك الحق عرجا وتركاه” رواه مالك.
9/ محبة الله
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أحب الناس إلى الله يوم القيامة، وأدناهم منه مجلسا: إمام عادل، وأبغض الناس إلى الله، وأبعدهم منه مجلسا: إمام جائر» رواه الترمذي.
10/ الإمام العادل في ظل الله
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه» رواه البخاري ومسلم.
11/ منابر النور للمقسطين
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن -وكلتا يديه يمين- الذين يعدلون في حكمهم، وأهليهم، وما ولوا» رواه مسلم.
12/ الجنة
عن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال» رواه مسلم.
وعن أبي بريدة عن أبيه رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاض في الجنة: رجل قضى بغير حق يعلم بذلك فذلك في النار، وقاض لا يعلم فأهلك حقوق الناس فهو في النار، وقاض قضى بالحق فذلك في الجنة» رواه أبو داود.
الخطبة الثانية
خبر أعلق عليه بحديث ذكرته كثيراً:
الخبر: نقلت بعض فضائياتنا في الأيام الماضية تصريحاً لمسؤول سعودي يقول فيه: إن بلاده دعمت هذه البلاد بأكثر من 23 مليار ريال سعودي!!
ولي سؤالان:
هل نحتاج ونحن في هذه البلاد الغنية بمواردها وثرواتها وخيراتها وأرضها ونيلها ومعادنها وذهبها وأنعامها أن نمد أيدينا إلى غيرنا!! 45% من الأراضي الصالحة للزراعة في الوطن العربي تقع في هذه البلاد! هل نحتاج بعد ذلك إلى سؤال غيرنا!!؟؟
والسؤال الثاني:
أين ذهبت هذه الأموال؟
وأين ذهبت غيرها من الأموال!!
إنه لابد من التذكير بحديث ذكرته كثيراً وسأظل أذْكره وأذِّكر به ما دام الفساد ضارباً بجذوره في هذه البلاد:
عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قال: افْتَتَحْنَا خَيْبَرَ، وَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلاَ فِضَّةً، إِنَّمَا غَنِمْنَا البَقَرَ وَالإِبِلَ وَالمَتَاعَ وَالحَوَائِطَ، ثُمَّ انْصَرَفْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى وَادِي القُرَى، وَمَعَهُ عَبْدٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ مِدْعَمٌ، أَهْدَاهُ لَهُ أَحَدُ بَنِي الضِّبَابِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ سَهْمٌ عَائِرٌ، حَتَّى أَصَابَ ذَلِكَ العَبْدَ، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ المَغَانِمِ، لَمْ تُصِبْهَا المَقَاسِمُ، لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا» فَجَاءَ رَجُلٌ حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِرَاكٍ أَوْ بِشِرَاكَيْنِ، فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ كُنْتُ أَصَبْتُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شِرَاكٌ – أَوْ شِرَاكَانِ – مِنْ نَارٍ» البخاري ومسلم.
هذا الرجل:
- صحابي.
- واكتحلت عيناه برؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- وكان يقوم على خدمته.
- وكان يجاهد في سبيل الله
- وقُتل بسهم من اليهود
- وسرق شملة حقيرة فقط
- وأخذها من مال له فيه نصيب!
ومع ذلك امتلأ القبر عليه ناراً!! فكيف بسارق بنايات وفلل دبي ومليارات الجنيهات وهو لا يعرف ما جهاد! وما إسلام!! وهو نفعيٌّ حقير يأكل بقوله (الله أكبر)، يقولها ولا يريد بها إلا الدنيا!
ولذا يتعين علينا التحذير دوما من هذه المعصية، وفضح أصحابها، ففقه السترة في حقهم لا يقول به إلاجاهل.
رب صلِّ وسلِّم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] / ويصح: الجِعِرَّانة، والجعرانة ماء بين الطائف ومكة وهي إلى مكة أقرب.

