مقالات

دفع الصائل

دفع الصائل
مهران ماهر عثمان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛ فهذه نقاط تتعلق بموضوع دفع الصائل، فأقول مستعيناً بالله:
ما معنى الصائل؟
الصائل يطلق في اللسان العربي على عدد من المعاني، يراد به المقاتل، وصال: وثب، ويراد به المعتدي، وهذا الأخير هو المعنى الذي قصده فقهاؤنا عليهم رحمة الله بقولهم: دفع الصائل.

 

فما حكم دفع الصائل؟
دلت النصوص الشرعية على مشروعية دفع الصائل؛ من هذه النصوص:
قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: 194]، وقوله: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ﴾ [النحل: 126]، وقوله: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ * وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ [الشورى: 39- 40]. قال ابن كثير رحمه الله – في معنى هذه الألفاظ: عاقبتم، عاقبوا. سيئة، سيئة-:” الأول ظلم، والثاني عدل، فهما وإن اتفق لفظاهما فقد اختلف معناهما” [تفسير القرآن العظيم 1/ 184].
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» رواه الترمذي.
وقال صلى الله عليه وسلم: «من قتل دون مظلمته فهو شهيد» رواه أحمد والنسائي. قال الإمام المناوي رحمه الله: “قال ابن جرير: هذا أبين بيان وأوضح برهان على الإذن لمن أريد ماله ظلماً في قتال ظالمه والحث عليه كائناً من كان؛ لأن مقام الشهادة عظيم، فقتال اللصوص والقطاع مطلوب، فتركه من ترك النهي عن المنكر، ولا منكر أعظم من قتل المؤمن وأخذ ماله ظلماً” [فيض القدير 6 /253].
ومن الأدلة حديث في صحيح الإمام مسلم: أنه جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَالَ: «فَلَا تُعْطِهِ مَالَكَ». قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: «قَاتِلْهُ». قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: «فَأَنْتَ شَهِيدٌ». قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: «هُوَ فِي النَّارِ».
ومسألة دفع الصائل وجواز قتله إن لم يندفع شره إلا بالقتل مجمع عليها، قال ابن حجر رحمه الله: “واحتجوا أيضا بالإجماع بأن من شهر على آخر سلاحاً ليقتله، فدفع عن نفسه، فقتل الشاهر أنه لا شيء عليه” [فتح الباري 12/ 222].

أقوال العلماء في المسألة
ففي جامع الترمذي في كتاب الديات، أن عبد الله بن المبارك رحمه الله قال: “يقاتل الرجل عن ماله وإن درهمين”.
وقال الإمام مسلم في صحيحه في كتاب القسامة: “باب الصائل على نفس الإنسان أو عضوه إذا دفعه المصول عليه فأتلف نفسه أو عضوه لا ضمان عليه”.
وقال ابن حجر رحمه الله: “فأما من قاتل أهل البغي، أو دفع الصائل فقُتل، فلا يدخل في هذا الوعيد؛ لأنه مأذون له في القتال شرعاً” [الفتح 12/ 197].
وقال: “وفيه دفع الصائل، وأنه إذا لم يمكن الخلاص منه إلا بجناية على نفسه أو على بعض أعضائه ففعل به ذلك كان هدراً ” [الفتح 12/ 223].
وفي فيض القدير (1/ 300) “من خصائص هذه الأمة جواز دفع الصائل، وكانت بنو إسرائيل كتب عليهم أن الرجل إذا بسط يده إلى رجل لا يمتنع منه حتى يقتله، قاله مجاهد وغيره”. وفيه (6/71 ) “وقد اتفقوا على جواز دفع الصائل ولو أتى على النفس”.
وفي الشرح الكبير للشيخ الدردير (4/ 287) “لا كفارة على من قتل صائلاً عليه بحيث لا يندفع عنه إلا بالقتل”. وفي حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (19/54) “أَيْ لِأَنَّ دَفْعَ الصَّائِلِ وَاجِبٌ”، وهذا بيان للجواز الذي ذكره خليل في المختصر بقوله: “وجاز دفع صائل على نفس أو مال أو حريم”.
وفي الشرح الكبير لابن قدامة (5 /455) “ومن صال عليه آدمي أو غيره فقتله دفعاً عن نفسه لم يضمنه؛ لأنه قتله بالدفع الجائز فلم يجب ضمانه”. وفيه (5/ 456) “إذا قتله لدفع شرِّه كان الصائل هو القاتل لنفسه، فأشبه مالو نصب حربة في طريقه فقذف نفسه عليها فمات بها”.
وفي روضة الطالبين وعمدة المفتين (3/ 489) “أما الصائل فكل قاصدٍ من مسلمٍ وذميٍّ وعبدٍ وحرٍّ وصبيٍّ ومجنونٍ وبهيمةٍ يجوز دفعه، فإن أبى الدفع على نفسه فلا ضمان بقصاص ولا دية ولا كفارة ولا قيمة “.
وفيه (3/ 416) “ولا تجب الكفارة في القتل المباح كقتل مستحق القصاص الجاني وكقتل الصائل والباغي ونعني بالمباح ما أذن فيه”.
وفي الدر المختار (7/111) “ويجب قتل من شهر سيفاً على المسلمين ولاشيءَ بقتلِه”.
وفي مجموع فتاوى ابن تيمية (4/ 184) “وَالْعَادِي هُوَ الصَّائِلُ الَّذِي يَجُوزُ دَفْعُهُ بِمَا يَدْفَعُ ضَرَرَهُ وَلَوْ كَانَ قَتْلًا”.
وفي عون المعبود (12/5) “واعلم أن هذا عام يخص منه الصائل ونحوه-أي حديث لا يحل قتل المسلم…- “.

حادثة عدوان في العهد النبوي، كيف تعامل معها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
في صحيح مسلم، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، أَنَّ نَاسًا مِنْ عُرَيْنَةَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَاجْتَوَوْهَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ شِئْتُمْ أَنْ تَخْرُجُوا إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ، فَتَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا»، فَفَعَلُوا، فَصَحُّوا، ثُمَّ مَالُوا عَلَى الرِّعَاءِ، فَقَتَلُوهُمْ وَارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَسَاقُوا ذَوْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَعَثَ فِي أَثَرِهِمْ فَأُتِيَ بِهِمْ، فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ، وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ، وَتَرَكَهُمْ فِي الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ، فَلَا يُسْقَوْنَحَتَّى مَاتُوا.
فهؤلاء قوم اعتدوا على راعٍ فكان هذا جزاءً لهم.
“وَمَعْنَى سَمَّرَ بِالرَّاءِ كَحَّلَهَا بِمَسَامِيرَ مَحْمِيَّةٍ” [شرح النووي على مسلم 11/ 155].
وكل هذا الذي فُعل بهم كان قصاصاً.
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: “إِنَّمَا سَمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْيُنَ أُولَئِكَ؛ لِأَنَّهُمْ سَمَلُوا أَعْيُنَ الرِّعَاءِ” رواه مسلم.
وقال ابن القيم رحمه الله: “وفيها من الفقه … أنه يفعل بالجاني كما فعل، فإنهم لما سملوا عين الراعي، سمل أعينهم [زاد المعاد 3 / 255].
وقال ابن حجر رحمه الله: “وفي هذا الحديث من الفوائد … المماثلة في القصاص ، وليس ذلك من المثلة المنهي عنها” [فتح الباري 1 / 341].
وقال الشيخ المفسر محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: “استشكل بعض العلماء تمثيله صلى الله عليه وسلم بالعُرَنيين؛ لأنه سمل أعينهم، مع قطع الأيدي والأرجل، مع أن المرتد يقتل ولا يمثل به … والتحقيق في الجواب: هو أنه صلى الله عليه وسلم فعل بهم ذلك قصاصا، وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم إنما سمل أعينهم قصاصا؛ لأنهم سملوا أعين رعاة اللِّقاح” [أضواء البيان 2/ 115 – 116].

ومن أحسن من الله حكماً
قال تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة: 33].
والمعن: “ما عاقبة الذين يحاربون الله ورسوله، ويبارزونه بالعداوة والإفساد في الأرض بالقتل وأخذ الأموال وقطع الطريق؛ إلا أن يُقْتَلُوا من غير صلب، أو يقتلوا مع الصلب على خشبة ونحوها، أو تقطع يد أحدهم اليمنى مع الزجل اليسرى، ثم إن عاد قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى، أو يغرَّبوا في البلاد؛ ذلك العقاب لهم فضيحة في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب عظيم” [المختصر في التفسير].
ولا يشترك –على الصحيح- في الحرابة أن تقع في مكان بعيد عن العمران، “فقد ذهب المالكية والشافعية وهو رأي أبي يوسف من الحنفية وكثير من أصحاب أحمد إلى أنه لا يشترط البعد عن العمران وإنما يشترط فقد الغوث، ولفقد الغوث أسباب كثيرة، ولا ينحصر في البعد عن العمران، فقد يكون للبعد عن العمران أو السلطان، وقد يكون لضعف أهل العمران، أو لضعف السلطان، فإن دخل قوم بيتا وشهروا السلاح ومنعوا أهل البيت من الاستغاثة فهم قطاع طرق في حقهم، واستدل الجمهور بعموم آية المحاربة، ولأن ذلك إذا وجد في العمران والأمصار والقرى كان أعظم خوفا وأكثر ضررا، فكان أولى بحد الحرابة” [الموسوعة الفقهية الكويتية 17/ 157].

إشكال وجوابه
فإن قيل: ألا يتعارض دفع الصائل مع حديث مسلم الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتَنٌ أَلَا ثُمَّ تَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي فِيهَا، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي إِلَيْهَا، أَلَا فَإِذَا نَزَلَتْ أَوْ وَقَعَتْ فَمَنْ كَانَ لَهُ إِبِلٌ فَلْيَلْحَقْ بِإِبِلِهِ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ فَلْيَلْحَقْ بِغَنَمِهِ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَلْحَقْ بِأَرْضِهِ». قَالَ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِبِلٌ وَلَا غَنَمٌ وَلَا أَرْضٌ؟ قَالَ: «يَعْمِدُ إِلَى سَيْفِهِ فَيَدُقُّ عَلَى حَدِّهِ بِحَجَرٍ، ثُمَّ لِيَنْجُ إِنْ اسْتَطَاعَ النَّجَاءَ. اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ»؟.
فالجواب ما قاله الإمام النووي رحمه الله:” وهذا الحديث والأحاديث قبله وبعده مما يحتج به من لا يرى القتال في الفتنة بكل حال، وقد اختلف العلماء في قتال الفتنة، فقالت طائفة: لا يُقاتل في فتن المسلمين وإن دخلوا عليه بيته وطلبوا قتله فلا يجوز له المدافعة عن نفسه؛ لأن الطالب متأول، وهذا مذهب أبى بكرة الصحابي رضي الله عنه وغيره. وقال ابن عمر وعمران بن الحصين رضي الله عنهم وغيرهما: لا يدخل فيها لكن إنْ قُصد دفع عن نفسه. فهذان المذهبان متفقان على ترك الدخول في جميع فتن الإسلام. وقال معظم الصحابة والتابعين وعامة علماء الإسلام: يجب نصر المحق في الفتن والقيام معه بمقاتلة الباغين كما قال تعالى: ﴿فقاتلوا التي تبغي…﴾، الآية، وهذا هو الصحيح، وتتأول الأحاديث على من لم يظهر له المحق، أو على طائفتين ظالمتين لا تأويل لواحدة منهما، ولو كان كما قال الأولون لظهر الفساد واستطال أهل البغي والمبطلون، والله أعلم” [شرح مسلم 18/ 8-10]. فالحديث في النهي عن المشاركة في فتن المسلمين، وليس في دفع الصائلين، الذي جاء الإذن فيه من رب العالمين.

العدوان محرم
لا يجوز بأي حال أن نعتدي على غير المعتدين؛ فالله سبحانه حرَّم الظلم على نفسه، وجعله بين عباده محرماً، فالاعتداء يكون على المعتدين، ومن سلمنا من شرهم وجب أن يسلموا من اعتدائنا، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ * وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [سورة الشورى : 39-42]، وقال تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى﴾ [البقرة: 194]. قال فاعتدوا عليه، وليس على غيره.
ومن الاعتداء: دفع الصائل بالقتل إذا كان شره يندفع بما دونه، وهذه هي المسألة التالية:

كيف يدفع الصائل؟
جاء في فيض القدير (1/388) “للمصول عليه الدفع عن نفسه بالأخف وإن أفضى إلى قتل الصائل هدر”.
وفي شرح الخرشي على مختصر خليل (23/356) “وَيَدْفَعُهُ بِالْأَخَفِّ فَالْأَخَفِّ، فَإِنْ أَدَّى إلَى قَتْلِهِ قَتَلَهُ، وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ مَعَ يَمِينِهِ إذَا كَانَ لَا يَحْضُرُهُ النَّاسُ”.
وفي الإقناع (2/199) “فإن أمكن دفعه بكلام أو استغاثة حرم الدفع بالضرب، أو بضرب بيد حرم بسوط، أو بسوط حرم بعصا، أو بعصا حرم بقطع عضو، أو بقطع عضو حرم قتل؛ لأن ذلك جُوِّز للضرورة، ولا ضرورة في الأثقل مع إمكان تحصيل المقصود بالأسهل، وفائدة هذا الترتيب أنه متى خالف وعدل إلى رتبة مع إمكان الاكتفاء بما دونها ضمن، ويُستثنى من الترتيب ما لو التحم القتال بينهما واشتد الأمر عن الضبط سقط مراعاة الترتيب”.

فما أثر فع الصائل في تحقيق الأمن؟
يتَّضح لنا ذلك بهذه المقارنة..
لو تركنا المعتدين ولم يَحُل بينهم وبين إفسادهم أحد كيف سيكون حالنا؟ وماذا لو تصدى الناس لكلِّ من أرادهم بسوء فردوا كيده ودفعوا شره؟ لا شك أنهم سينعمون عندها بالأمن.

نصرة المظلوم ودفع الصائل عنه أخلاق المؤمنين
لو صال الصائل على زيد فهل يجب على عمرو أن يدفعه وأن يُعين المَصُولَ عليه ؟
لا مرية في ذلك، فإنَّ من آكد واجبات شرعنا التي دعا إليها: نصرة المؤمن لأخيه المؤمن، قال تعالى: ﴿وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ﴾ [الأنفال: 73].
ومعنى الآية: أن الكفار ينصر بعضهم بعضاً، ونحن إذا لن تحل هذه النصرة بيننا ساد الفساد.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يُسلمه» أخرجه الشيخان. أي: لا يُسلمه لعدوه، بل يقوم بمناصرته.
وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ» رواه أحمد. وتأمل – رعاك الله – قوله: «وهم يد»؛ هم: ضمير منفصل يدل على الجمع، ويد: لفظ مفرد.. فهذه جملة تدل على التماسك العظيم الذي ينبغي أن يكون عليه المسلمون.
إن نصرة المؤمن لأخيه تكون في جميع الأحوال، قال صلى الله عليه وسلم: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا». فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ: «تَحْجُزُهُ (أَوْ تَمْنَعُهُ) مِنْ الظُّلْمِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ» أخرجه البخاري.
وعن جابر بن عَبْدِ اللَّهِ وأبي طَلْحَةَ بْنَ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيَّ قالا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، وَمَا مِنْ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ نُصْرَتَهُ» رواه أحمد وأبو داود.
فلا يجوز لمسلم يرى أعداء الله من النصارى يضربون أخاه، أو ينتهكون عرض أخته المسلمة أن يقف موقف المتفرج، فهذا جبن وخور.
قال القرطبي رحمه الله -في تأويل قوله تعالى: ﴿فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله﴾-: “وعليه بنى العلماء أنه إذا دفع الصائل على النفس أو على المال عن نفسه أو عن ماله أو نفس غيره فله ذلك ولا شيء عليه، ولو رأى زيد عمراً وقد قصد منالَ بكرٍ فيجب عليه أن يدفعَه عنه إذا لم يكن صاحب المال قادراً عليه ولا راضياً به” [الجامع لأحكام القرآن 4/ 49].
ولا يخفى هذا الحدث في السيرة النبوية: “دخلت امرأة من العرب سوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها- وهي غافلة- فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله- وكان يهوديا- فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فسار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم بجيش من المقاتلين فحاصرهم وأجلاهم” [سيرة ابن هشام 2/ 47، 48].
وإن من مظاهر هذه النصرة: هذه الدوريات التي يقوم بها بعض الشباب ليلاً؛ لحماية أنفسهم وجيرانهم وأماكنهم، فحيَّاهم الله وبارك فيهم.
رب صل وسلم على نبينا محمد.

شارك المحتوى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *