وقفات مع آيات الصيام
بسم الله الرحمن الرحيم
وقفات مع آيات الصيام
مهران ماهر عثمان
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛ فقد قال ربنا في محكم تنزيله: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183- 187].
ولي وقفات مع هذه الآيات الكريمات، فأقول مستعيناً بالله:
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
هذا النداء تكرر بهذا اللفظ في تسعة وثمانين موضعاً في القرآن الكريم.
والإيمان قول وعمل واعتقاد، والعمل فعل عبادة وترك حرام، لذا فإن الغالب أن يأتي بعد هذا النداء أمر بطاعة أو نهي عن حرام.
قالعبادة التي ذكرت بعده شعبة من شعبه، والمنهي عنه بعده ثلمة فيه وخَرقٌ لثوبه.
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ
كتب: فُرض.
والفرض ما أمر الشارع به أمراً جازماً. والفرض يثاب فاعله امتثالاً ويستحق العقاب تاركه.
والصيام في لغة العرب الإمساك.
قيل لمريم عليها السلام: ﴿فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا﴾ [مريم: 26].
وقال النابغة:
خَيْلٌ صِيَامٌ، وخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ ** تَحْتَ العَجَاجِ، وأُخْرَى تَعْلُكُ اللُّجُمَا
وهو في الشرع: الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس تقرباً لله.
وقد ثبت في السنة أن من صام رمضان موقناً بفرض الله له، محتسباً ثواب عمله، نال المغفرة لذنبه، لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» متفق عليه.
كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
ما من أمة إلا وقد فرض الصوم عليها، ما أخلى الله أمةً من ذلك.
وفائدة الإخبار بهذا: تيسير أمر العبادة، فالمسلم إذا علم أنَّ ما فرض عليه فرض على السابقين سهُل الأمر عليه.
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
تتقون المعاصي بسبب هذه العبادة. قال القرطبي رحمه الله: “قيل: لتتقوا المعاصي”([1]).
ومن الأدلة على أنَّ الصوم يحمل على ذلك آية وحديث:
أما الآية فقول ربنا: ﴿وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ﴾ [الأحزاب: 35]، قال ابن كثير رحمه الله: “ولما كان الصوم من أكبر العون على كسر الشهوة ناسب أن يذكر بعده: ﴿وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ﴾”([2]).
والحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب مَنْ اسْتَطَاعَ منكم الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ». وأصل الوجاء: رضُّ الخُصيتين، والمراد: أنه قامع للشهوة.
وسبب ذلك أنه يعود على ترك ما تهواه أنفسنا، ويعلم رقابة الله؛ فإن الصائم يجعل الماء في فيه ونفسه تتوق إليه، فيخرجه ولا يدخل إلى جوفه شيئاً منه؛ تعظيما لما شرع الله.
أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ
أياماً، أي: صوموا أياماً.
ومعدودات: مُحْصَيات، والمراد أيام رمضان، إما أنها تسعة وعشرون أو ثلاثون.
فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ
والعلماء يجعلون المرض قسمين:
الأول: مرض يؤثر الصيام معه فيزيده أو يؤخر الشفاء منه، ويرجى برؤه، وهذا يقضي كما أمر الله.
الثاني: مرض يؤخر الصوم الشفاء منه أو يزيده وهو مزمن لا يرجى برؤه، وهذا يجب على صاحبه الفداء.
أو كان مسافراً فله أن يفطر وأن يقضي إذا أراد.
فعدةٌ من أيامٍ أخر: أي فعليه عدةُ ما أفطر من أيام أخر بصومها بدله.
فيقضي إلى آخر شعبان.
وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ
وعلى الذين يستطيعون الصيام فدية إذا أفطروا، وذلك لأن الصوم لم يكن فرضاً في أول الأمر، فكان من شاء صام، ومن شاؤ أفطر وأطعم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: “رخص للشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة في ذلك وهما يطيقان الصوم أن يفطرا إن شاءا، ويطعما كل يوم مسكينا، ولا قضاء عليهما، ثم نسخ ذلك في هذه الآية: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾، وثبت للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة إذا كان لا يطيقان الصوم، والحبلى والمرضع إذا خافتا أفطرتا، وأطعمتا كل يوم مسكينا” رواه البيهقي.
والفدية عن كل يوم ربع صاع عند المالكية والشافعية، وهذا يعادل سبعَمئةٍ وخمسين جرماً (750) جم.
فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ
زاد في مقدار الإطعام، فلو فعل ذلك لكان خيراً له.
وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
صيامكم (خير لكم) أيها المطيقون من الإقطار مع الفدية وكان هذا قبل النسخ.
إن كنتم تعلمون الفضل العظيم للصوم عند الله تعالى.
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ
لم يذكر الله شهرا باسمه في القرآن سوى رمضان.
وفي معنى نزول القرآن في رمضان قولان:
الأول أن الله ابتدأ إنزاله في ليلة القدر في رمضان.
الثاني: نزل جملة واحدة في ليلة القدر في رمضان ثم نزل مفرقا بعد ذلك.
هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ
هاديا لهم من الضلال.
وبينات من الهدى: فيه الدلائل الواضحات من الهدى.
قيل الهدى الأول في الأحكام الاعتقادية والهدى الثاني في الفرعية فهما متغايران.
والفرقان: هو ما فرق بين الحق والباطل أي فصل.
فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ
قال ابن عاشور: عَلِمَ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا هُوَ﴾ [آل عمران: ١٨]، فَيَكُونُ انْتِصابُ الشَّهْرِ عَلى المَفْعُولِ بِهِ بِتَقْدِيرِ مُضافٍ؛ أيْ: عَلِمَ بِحُلُولِ الشَّهْرِ.
وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ
لماذا أعاد الله ذكر هذه الرخصة؟
لأن الله ذكرها في آية نُسخ بعضها؛ فلئلا يُظّن أن هذا نُسخ معها أعاد الله ذكره كما في التحرير والتنوير.
يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ
يريد الله تعالى بكم اليسر والسهولة في شرائعه، ولا يريد بكم العسر والمشقة.
وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
ولتكملوا عدة الصيام شهرًا، ولتختموا الصيام بتكبير الله في عيد الفطر، ولتعظموه على هدايته لكم، ولكي تشكروا له على ما أنعم به عليكم من الهداية والتوفيق والتيسير
[1] / الجامع لأحكام القرآن (2/ 276).
[2] / تفسير ابن كثير (6/ 420).