حوادث القتل في العهد النبوي وكيف تعامل معها نبينا صلى الله عليه وسلم؟
بسم الله الرحمن الرحيم
حوادث القتل في العهد النبوي وكيف تعامل معها نبينا صلى الله عليه وسلم؟
خطبتا: 3 و10 مارس 2023م
مهران ماهر عثمان- مسجد السلام بالطائف مربع (22)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، أما بعد؛
فعنوان خطبتنا هذه: حوادث القتل في العهد النبوي وكيف تعامل معها نبينا صلى الله عليه وسلم؟
وإنما سميته “حوادث” دون “جرائم” لأن الأولى تصدُق على كل ما سأورده، بخلاف الثانية كما سيَبِيْن لك عند مطالعة ما كتبتُه.
وفائدة التحدث عن هذه القضية: أن نتعرف على الطريقة النبوية في علاج هذه الجريمة، وليس خافياً أنَّ من أشراط الساعة أن يكثر القتل، فما أكثر وقوعَ هذه الجريمة في هذه الأيام! وما أشد الحاجة إلى التعرف على هدي النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل معها!
فأقول مستعيناً بالله:
الحادثة الأولى:
في صحيح مسلم، أَنَّ عَلْقَمَةَ بْنَ وَائِلٍ بن حُجْر، حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ قَالَ: إِنِّي لَقَاعِدٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ يَقُودُ آخَرَ بِنِسْعَةٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله هَذَا قَتَلَ أَخِي. فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَقَتَلْتَهُ»؟ فَقَالَ: إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ أَقَمْتُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ. قَالَ: نَعَمْ قَتَلْتَهُ. قَالَ: «كَيْفَ قَتَلْتَهُ»؟ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَهُوَ نَخْتَبِطُ مِنْ شَجَرَةٍ – يَضْرِب الشَّجَر بِالْعَصَا فَيَسْقُط وَرَقه فَيَجْمَعهُ عَلَفًا – فَسَبَّنِي، فَأَغْضَبَنِي، فَضَرَبْتُهُ بِالْفَأْسِ عَلَى قَرْنِهِ فَقَتَلْتُه. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ لَكَ مِنْ شَيْءٍ تُؤَدِّيهِ عَنْ نَفْسِكَ؟» قَالَ: مَا لِي مَالٌ إِلَّا كِسَائِي وَفَأْسِي، قَالَ: «فَتَرَى قَوْمَكَ يَشْتَرُونَكَ؟» قَالَ: أَنَا أَهْوَنُ عَلَى قَوْمِي مِنْ ذَاكَ، فَرَمَى إِلَيْهِ بِنِسْعَتِهِ، وَقَالَ: «دُونَكَ صَاحِبَكَ»، فَانْطَلَقَ بِهِ الرَّجُلُ، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ»، فَرَجَعَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ قُلْتَ: «إِنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ»، وَأَخَذْتُهُ بِأَمْرِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا تُرِيدُ أَنْ يَبُوءَ بِإِثْمِكَ، وَإِثْمِ صَاحِبِكَ؟» قَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ – لَعَلَّهُ قَالَ – بَلَى، قَالَ: «فَإِنَّ ذَاكَ كَذَاكَ»، قَالَ: فَرَمَى بِنِسْعَتِهِ وَخَلَّى سَبِيلَهُ.
معنى الحديث:
كان وائل بن حجر رضي الله عنه مع نبينا صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل يقود رجلاً وقد ربطه بنسعة، والنِّسعة: حبل من جلد مضفور، فقال ولي الدم للنبي صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ الله هَذَا قَتَلَ أَخِي. فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَقَتَلْتَهُ»؟ فلما وجَّه النبي صلى الله عليه وسلم هذا السؤال إلى القاتل قال ولي المقتول: إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ بقتل أخي أَقَمْتُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ، فهو يملك دليلاً على إدانته، فقَالَ القاتل: نَعَمْ قَتَلْتَهُ. قَالَ له النبي صلى الله عليه وسلم: «كَيْفَ قَتَلْتَهُ»؟ وفائدة هذا السؤال: معرفة هل كان القتل عمداً أم لا؟
قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَهُوَ نَخْتَبِطُ مِنْ شَجَرَةٍ، أي: يَضْرِب الشَّجَر بِالْعَصَا فَيَسْقُط وَرَقه فَيَجْمَعهُ عَلَفًا، فَسَبَّنِي، فَأَغْضَبَنِي، فَضَرَبْتُهُ بِالْفَأْسِ عَلَى قَرْنِهِ فَقَتَلْتُه. وقرنُ الرأس: جانبُه الأعلى. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ لَكَ مِنْ شَيْءٍ تُؤَدِّيهِ عَنْ نَفْسِكَ»؟
“وَفِيهِ جَوَازُ الْعَفْوِ بَعْدَ بُلُوغِ الْأَمْرِ إِلَى الْحَاكِمِ، وَفِيهِ جَوَازُ أَخْذِ الدِّيَةِ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ”([1])، فلو قبل ولي الدم بها سقط القصاص.
فقَالَ القاتل: مَا لِي مَالٌ إِلَّا كِسَائِي وَفَأْسِي، يعني أنه فقير لا مال عنده.
فقَالَ له نبينا صلى الله عليه وسلم: «فَتَرَى قَوْمَكَ يَشْتَرُونَكَ»؟ أي: يبذلُون الدية، وسمي شراء لأنه كالبيع، فهم يدفعون المال عوضاً عنه، فكان ذلك كالبيع.
قَالَ: أَنَا أَهْوَنُ عَلَى قَوْمِي مِنْ ذَاكَ. أي: أنا عندهم أحقر من أن يبذلوا شيئا لي.
فَرَمَى إِلَيْهِ بِنِسْعَتِهِ، وَقَالَ: «دُونَكَ صَاحِبَكَ»، أي: خذه فاصنع به ما شئت. وهذا يدل على أن القاضي وولي الأمر له أن يأذن لولي الدم أن يقيم القصاص، ولا يدل على أنه يباشر ذلك بدون إذنه! وإلا لكان الأمر فوضى. قال أبو العباس القرطبي رحمه الله: “وفيه ما يدلُّ: على أن القاتل إذا تحقق عليه السبب، وارتفعت الموانع لا يقتلُه الإمام، بل يدفعه للولي يفعل به ما يشاء من قتل، أو عفو، أو حبس، إلى أن يرى رأيه فيه. ولا يسترقَّه بوجه؛ لأنَّ الحرَّ لا يملك. ولا خلاف فيه فيما أعلمه“([2]).
فَانْطَلَقَ بِهِ ولي المقتول، فَلَمَّا وَلَّى وذهب به قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ».
قال النووي رحمه الله: “أَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ فَالصَّحِيحُ فِي تَأْوِيلِهِ: أَنَّهُ مِثْلُهُ فِي أَنَّهُ لَا فَضْلَ وَلَا مِنَّةً لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقَّهُ منه، بخلاف ما لو عفى عَنْهُ، فَإِنَّهُ كَانَ لَهُ الْفَضْلُ وَالْمِنَّةُ وَجَزِيلُ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَجَمِيلُ الثَّنَاءِ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ فَهُوَ مِثْلُهُ فِي أَنَّهُ قَاتِلٌ وَإِنِ اخْتَلَفَا في التحريم والإباحة”([3]).
فَرَجَعَ به ولي المقتول، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ قُلْتَ: «إِنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ»، وَقد أَخَذْتُهُ بِأَمْرِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا تُرِيدُ أَنْ يَبُوءَ بِإِثْمِكَ، وَإِثْمِ صَاحِبِكَ»؟
ومعنى ذلك: أن القاتل يحمل إثمَ قتل أخيك، وإثم إيذائك بقتله، فلك أن تكتفي بعقوبة الآخرة، فلو لم تعف لزدت العقوبة عليه، أما أنت فلك أجر عظيم بعفوك.
قَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ – لَعَلَّهُ قَالَ – بَلَى. أي: قال الراوي يبلِّغ النبي صلى الله عليه وسلم مقالة ولِّ المقتول: لعله قال: بلى.
قَالَ: «فَإِنَّ ذَاكَ كَذَاكَ»، أي: فإنَّ ما أخبرتك به كذلك؛ أنه يبوء بإثمك وإثم صاحبك.
قَالَ: فَرَمَى بِنِسْعَتِهِ وَخَلَّى سَبِيلَهُ. أي: عفا عنه.
الجريمة الثانية
رواها الشيخان في صحيحهما، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، أَنَّ جَارِيَةً وُجِدَ رَأْسُهَا قَدْ رُضَّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَسَأَلُوهَا مَنْ صَنَعَ هَذَا بِكِ؟ فُلَانٌ؟ فُلَانٌ؟ حَتَّى ذَكَرُوا يَهُودِيًّا، فَأَوْمَتْ بِرَأْسِهَا، فَأُخِذَ الْيَهُودِيُّ فَأَقَرَّ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرَضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ.
والجارية: الأمة؛ سواء كانت شابة أو عجوزًا، وهذه فتاة من الأنصار؛ كما صرِّح به في رواية أبي داود.
والرضّ، الدق؛ أي؛ دق رأسها بين حجرين.
وسبب القتل جاء مصرحاً به في بعض الروايات في الصحيحين: “أَنَّ يَهُودِيًّا قَتَلَ جَارِيَةً عَلَى أَوْضَاحٍ لَهَا”، والأوضاح: حلي من الفضة.
ويدل الحديث على أنَّ القاتل يُقتل بمثل ما قَتل به، وهذا قول المالكية والشافعية، وهو رواية في مذهب أحمد، اختارها شيخ الإسلام، واستدلوا: بقوله تعالى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ [النحل: 126]، وعملاً بهذا الحديث الصريح الصحيح.
“وَيُسْتَثْنَى الْقَتْل بِالسِّحْرِ، أَوِ اللِّوَاطِ، أَوِ الْخَمْرِ، أَوْ نَحْوِهَا مِنَ الْمَمْنُوعَاتِ، فَلاَ يُقْتَصُّ فِي هَذَا بِالْمِثْل. وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ الْقَتْل بِمَا يَطُول؛ كَمَنْعِهِ الطَّعَامَ أَوِ الْمَاءَ حَتَّى مَاتَ، فَفِي هَذِهِ الْحَالاَتِ يَتَعَيَّنُ الاِسْتِيفَاءُ بِالسَّيْفِ“([4]).
وفي الحديث دليل على قسوة اليهود وخبثهم وخيانتهم؛ فإنَّ هذا المعاهَد كان يستطيع استلاب الأوضاح بلا هذه القتلة الشنيعة، لكن الحقد على المسلمين حمله على ذلك.
الحادثة الثالثة:
قال أسامة بن زيد رضي الله عنهما: بَعَثَنَا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الحُرَقَةِ، فَصَبَّحْنَا القَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ، قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا الله فَكَفَّ الأَنْصَارِيُّ فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلَّا الله» قُلْتُ: كَانَ مُتَعَوِّذًا، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا، حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ اليَوْمِ. رواه الشيخان. ولمسلمٍ: قال أسامة: يَا رَسُولَ اللهِ، اسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: «وَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»؟ قَالَ: فَجَعَلَ لَا يَزِيدُهُ عَلَى أَنْ يَقُولَ: «كَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»؟
دل الحديث على عصمة دم أهل لا إله إلا الله، وهذا المعنى جاء في أحاديث كثيرة، منها: هذا الحديث المتفق على صحته؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا الله، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلاَمِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى الله».
وفيه أننا نقبل ظاهر الناس ونكل بواطنهم إلى الله تعالى ولو كانت القرائن تدل على غير ذلك. قال ابن الجوزي: “وَالْمعْنَى: إِنَّمَا أمرنَا بِقَبُول الظَّوَاهِر، وَلَيْسَ علينا تفتيش البواطن”([5]).
وقال ابن حجر رحمه الله: “قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَعَلَّ أُسَامَةَ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾، وَلِذَلِكَ عَذَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُلْزِمْهُ دِيَةً وَلَا غَيْرَهَا. قُلْتُ: كَأَنَّهُ حَمَلَ نَفْيَ النَّفْعِ عَلَى عُمُومِهِ دُنْيَا وَأُخْرَى، وَلَيْسَ ذَلِكَ الْمُرَادَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ: أَنَّهُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالَةِ يَنْفَعُهُ نَفْعًا مُقَيَّدًا، بِأَنْ يَجِبَ الْكَفُّ عَنْهُ حَتَّى يُخْتَبَرَ أَمْرُهُ؛ هَلْ قَالَ ذَلِكَ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ أَوْ خَشْيَةً مِنَ الْقَتْلِ؟ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ هَجَمَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ وَوَصَلَ خُرُوجُ الرُّوحِ إِلَى الْغَرْغَرَةِ وَانْكَشَفَ الْغِطَاءُ، فَإِنَّهُ إِذَا قَالَهَا لَمْ تَنْفَعْهُ بِالنِّسْبَةِ لِحُكْمِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ.
وَأَمَّا كَوْنُهُ لَمْ يُلْزِمْهُ دِيَةً وَلَا كَفَّارَةً فَتَوَقَّفَ فِيهِ الدَّاوُدِيُّ وَقَالَ: لَعَلَّهُ سَكَتَ عَنْهُ لِعِلْمِ السَّامِعِ، أَوْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَا يَلْزَمُ مِنَ السُّكُوتِ عَنْهُ عَدَمُ الْوُقُوعِ. لَكِنْ فِيهِ بُعْدٌ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِعَدَمِ السُّكُوتِ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ إِنْ وَقَعَ. قَالَ: فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِأَنَّهُ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي أَصْلِ الْقَتْلِ فَلَا يَضْمَنُ مَا أَتْلَفَ مِنْ نَفْسٍ وَلَا مَالٍ، كَالْخَاتِنِ وَالطَّبِيبِ، أَوْ لِأَنَّ الْمَقْتُولَ كَانَ مِنَ الْعَدُوِّ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَسْتَحِقُّ دِيَتَهُ. قَالَ: وَهَذَا يَتَمَشَّى عَلَى بَعْضِ الْآرَاءِ، أَوْ لِأَنَّ أُسَامَةَ أَقَرَّ بِذَلِكَ وَلَمْ تَقُمْ بِذَلِكَ بَيِّنَةٌ فَلَمْ تَلْزَمِ الْعَاقِلَةَ الدِّيَةُ، وَفِيهِ نظر. قَالَ ابن بَطَّالٍ: كَانَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ سَبَبَ حَلِفِ أُسَامَةَ أَنْ لَا يُقَاتِلَ مُسْلِمًا بَعْدَ ذَلِكَ، وَمِنْ ثَمَّ تَخَلَّفَ عَنْ عَلِيٍّ فِي الْجَمَلِ وَصِفِّينَ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ”([6]).
وفيه: أن نبينا صلى الله عليه وسلم لا يحابي أحداً، وهذا يعلمنا أنَّ دين الله تعالى يجب أن يكون أحب إلينا من كل أحد، فحب النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة وأبيه لم يمنعه من الإنكار عليه.
وفيه: حرص الصحابة على أن يستغفر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفيه: شؤم القتل؛ فأسامة قتل متأولاً في جهاد وقتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان الحال ما سمعتَ. فكيف بمن قتل عمداً وليس له جهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
الحادثة الرابعة:
عن عمران بن حصين رضي الله عنه، قال: شَهِدْتُ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ بَعَثَ جَيْشًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، فَلَمَّا لَقُوهُمْ قَاتَلُوهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، فَمَنَحُوهُمْ أَكْتَافَهُمْ، فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنْ لُحْمَتِي عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِالرُّمْحِ، فَلَمَّا غَشِيَهُ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله إِنِّي مُسْلِمٌ، فَطَعَنَهُ فَقَتَلَهُ، فَأَتَى رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله هَلَكْتُ. قَالَ: «وَمَا الَّذِي صَنَعْتَ»؟ فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي صَنَعَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَهَلَّا شَقَقْتَ عَنْ بَطْنِهِ فَعَلِمْتَ مَا فِي قَلْبِهِ»؟ قَالَ: يَا رَسُولَ الله لَوْ شَقَقْتُ بَطْنَهُ لَكُنْتُ أَعْلَمُ مَا فِي قَلْبِهِ. قَالَ: «فَلَا أَنْتَ قَبِلْتَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ، وَلَا أَنْتَ تَعْلَمُ مَا فِي قَلْبِهِ»! فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى مَاتَ، فَدَفَنَّاهُ، فَأَصْبَحَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ. فَقَالُوا: لَعَلَّ عَدُوًّا نَبَشَهُ، فَدَفَنَّاهُ، ثُمَّ أَمَرْنَا غِلْمَانَنَا يَحْرُسُونَهُ، فَأَصْبَحَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ. فَقُلْنَا: لَعَلَّ الْغِلْمَانَ نَعَسُوا، فَدَفَنَّاهُ ثُمَّ حَرَسْنَاهُ بِأَنْفُسِنَا، فَأَصْبَحَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ. فَأَلْقَيْنَاهُ فِي بَعْضِ تِلْكَ الشِّعَابِ. فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «إِنَّ الْأَرْضَ لَتَقْبَلُ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ، وَلَكِنَّ الله أَحَبَّ أَنْ يُرِيَكُمْ تَعْظِيمَ حُرْمَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا الله» رواه ابن ماجه.
فما أعظمه من ذنب! وما أعظم حرمة لا إله إلا الله!
وهذه الحادثة يُستفاد منها ما قيل في حادثة أسامة رضي الله عنه.
الحادثة الخامسة:
عَنْ جَابِرٍ قَالَ: خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ احْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ الله! أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ» رواه أحمد وأبو داود.
وَالشَّجَّةُ: الْجِرَاحَةُ فِي الرَّأْسِ أَوْ الْوَجْهِ.
والرخصة: ما ثَبَتَ على خلافِ دليلٍ شرعي لمعارضٍ راجحٍ.
والحديث دال على العدولِ إلى التيمُّم للمريض الذي يؤثر الماء معه، فمن فقد الماء، أو عجز عن استعماله لمرض أو برد([7]) أو خوف، فإنه يتيمم بلا خلاف بين الأئمة الأربعة.
ودل الحديث على سوء عاقبة الفتوى بدون علم! وقد قال ربُّنا: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى الله الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى الله الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ﴾ [النحل: 116].
وفيه أن المرء إذا جهل شيئا فإنه يسأل، فالعِيُّ الجهل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فإنما شفاء العي السؤال». وفي كتاب ربنا: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43].
وقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم من فعلهم ودعا عليهم. قال المباركفوري: “وفيه: أن صاحب الخطأ الواضح غير معذور؛ لأنه عابهم بالفتوى بغير علم، وألحق بهم الوعيد بأن دعا عليهم، وجعلهم في الإثم قتلة له”([8]).
وينبغي أن لا يسأل المستفتي إلا أهل العلم، ففي سؤال غيرهم شرٌّ كبير.
وفي السُّنَّة حادثة أخرى تدل على أثر الفتوى بدون علم في القتل، ففي قصة الذي قتل تسعة وتسعين نفساً لما أفتى الراهب بأنه لا توبة له قتله وأتم به المائة!
وفي الحديث أن الحرج مرفوع في ديننا، قال ربنا: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78].
[1] / شرح النووي على مسلم (11/ 173).
[2] / المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (5/ 54).
[3] / شرح النووي على مسلم (11/ 173).
[4] / الموسوعة الفقهية الكويتية (25/ 313).
[5] / كشف المشكل من حديث الصحيحين (2/ 51).
[6] / فتح الباري لابن حجر (12/ 196).
[7] / قال ابن قدامة: “وإن خاف من شدَّة البَرد، وأمكنه أن يسخِّنَ الماء، أو يستعمِلَه على وجهٍ يأمَن الضَّرر، مثل: أن يغسِلَ عضوًا عضوًا، وكلَّما غسل شيئًا ستَرَه، لزمه ذلك، وإن لم يقدِر، تيمَّم وصلَّى في قول أكثَرِ أهل العلم” [المغني 1/ 192].
[8] / مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (2/ 230).