
وليديه فاغفر
بسم الله الرحمن الرحيم
وليديه فاغفر
مهران ماهر عثمان
5 فبراير 2021م
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلِّم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛
فعنوان خطبتنا هذه: اللهم وليديه فاغفر!
هذه العبارة وردت في صحيح مسلم، عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ الطُّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو الدَّوْسِيَّ، أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ لَكَ فِي حِصْنٍ حَصِينٍ وَمَنْعَةٍ؟ -حِصْنٌ كَانَ لِدَوْسٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ – فَأَبَى ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي ذَخَرَ اللهُ لِلْأَنْصَارِ، فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، هَاجَرَ إِلَيْهِ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَهَاجَرَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَمَرِضَ، فَجَزِعَ، فَأَخَذَ مَشَاقِصَ لَهُ، فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ، فَشَخَبَتْ يَدَاهُ حَتَّى مَاتَ، فَرَآهُ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِي مَنَامِهِ، فَرَآهُ وَهَيْئَتُهُ حَسَنَةٌ، وَرَآهُ مُغَطِّيًا يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: مَا صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي بِهِجْرَتِي إِلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكَ مُغَطِّيًا يَدَيْكَ؟ قَالَ: قِيلَ لِي: لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ، فَقَصَّهَا الطُّفَيْلُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ».
اجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ: كرهوا المُقام بها.
مشاقص: جمع مِشْقَص: سهم طويل عريض.
البراجم: مفاصل الأصابع.
سبب خطبتنا هذه:
أن رجلاً يعول تسعةَ أولادٍ في أمبده أقدم على الانتحار يُرجح أن ذلك بسبب الضائقة المعيشية! نسأل الله أن يغفر له ذلك.
وإنما اخترت أن تكون خطبتي الأولى عن هذا الموضوع لتوجيه رسالة قوية لهذه الحكومة، وهي: أنكم تحملون وزر هذا المنتحر يوم القيامة على ظهوركم، ألا ساء ما يزرون!
وقبل هذه الرسالة لابد من إيضاح جملة من المسائل تتعلق بهذه الجريمة:
الانتحار كبيرة من الكبائر
قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النساء: 29].
أي: ولا يقتل بعضكم بعضا، ولا يقتل أحدكم نفسه، ولا يلق بها إلى التهلكة، إن الله كان بكم رحيما، ومن رحمته حرم دماءكم وأموالكم وأعراضكم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَن تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالداً مخلداً فيها أبداً، ومَن تحسَّى سمّاً فقتل نفسه فسمُّه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومَن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً» رواه البخاري ومسلم.
وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَن قتل نفسه بشيء في الدنيا عُذِّب به يوم القيامة» رواه البخاري ومسلم.
وعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع فأخذ سكيناً فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات. قال الله تعالى: بَادَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ، حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ» رواه البخاري ومسلم.
بادرني عبدي بنفسه: استعجل الموت.
هل يعتبر المنتحر كافراً؟
الجواب: لا.
قال النووي رحمه الله في شرح قصة حديث «وليديه فاغفر»: “فِيهِ حُجَّةٌ لِقَاعِدَةٍ عظيمة لِأَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ أَوِ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً غَيْرَهَا وَمَاتَ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ فَلَيْسَ بِكَافِرٍ وَلَا يُقْطَعُ لَهُ بِالنَّارِ بَلْ هُوَ فِي حُكْمِ الْمَشِيئَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْقَاعِدَةِ وَتَقْرِيرُهَا” [شرح النووي على مسلم 2/ 131].
قال ابن بطال رحمه الله: “أجمع الفقهاء وأهل السُّنَّة أن من قتل نفسه أنه لا يخرج بذلك عن الإسلام، وأنه يصلى عليه، وإثمه عليه كما قال مالك، ويدفن في مقابر المسلمين” [شرح صحيح البخاري 3/ 349].
هل يصلى على المنتحر؟
ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على المنتحر؛ عقوبةً له، ولأجل أن يرتدع الناس. ولكنه أذن لأصحابه رضي الله عنهم في الصلة عليه.
فعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: “أُتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمَشاقص فلم يصل عليه” رواه مسلم.
قال النووي رحمه الله: “قال الحسن والنخعي وقتادة ومالك وأبو حنيفة والشافعي وجماهير العلماء: يصلى عليه، وأجابوا عن هذا الحديث بأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يصلِّ عليه بنفسه زجرا للناس عن مثل فعله، وصلت عليه الصحابة” [شرح مسلم 7 / 47].
وبعد هذا التفصيل المتعلق بجريمة الانتحار وبيان أنها كبيرة من الكبائر لا يكفر صاحبها، ولا تمنع من الصلاة عليه، والاستغفار له، ودفنه في مقابر المسلمين، لابد من رسالتين اثنتين:
الرسالة الأولى:
لهذه الحكومة الظالمة التي جعلت العيش في هذه البلاد جحيماً لا يُطاق.
يا حكومة البؤس والسوء والفقر والجوع:
متى تحذرون من هذه الدعوة النبوية؟! متى تخافون على أنفسكم منها؟ ففي صحيح مسلم قال: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فشُّق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به».
يا حكومة السوء: أما علمتم أن المناصب تكليف وليست بتشريف؟!
أما سمعتم بهذا الحديث؟ في المعجم الكبير للطبراني، قال عوف بن مالك رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن شئتم أنبأتُكم عن الإمارة وما هي»؟ قال عوف: فناديت بأعلى صوتي: وما هي يا رسول الله؟ قال: «أولها ملامة، وثانيها ندامة، وثالثها عذاب يوم القيامة، إلا من عدل، وكيف يعدل مع قريبه»؟
يا حكومة قحط:
أبشركم بهذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده، وحسنه محققو المسند: عَنْ أَبِي صِرْمَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ ضَارَّ أَضَرَّ اللهُ بِهِ، وَمَنْ شَاقَّ شَقَّ اللهُ عَلَيْهِ».
أسأل الله أن يشق عليكم كما شققتم على عباد الله.
والرسالة الثانية: لنا جميعاً
تفقدوا من حولكم، انتبهوا لأهل العفة الذين لا يتعرضون لسؤال الناسِ والناس يجهلون أحوالهم! انتبهوا لمن مدحهم الله تعالى في قوله: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 273].
كونوا كأبي القاسم صلوات ربِّي وتسليماته عليه، ففي صحيح البخاري، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، كَانَ يَقُولُ: أَللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ، إِنْ كُنْتُ لَأَعْتَمِدُ بِكَبِدِي عَلَى الأَرْضِ مِنَ الجُوعِ، وَإِنْ كُنْتُ لَأَشُدُّ الحَجَرَ عَلَى بَطْنِي مِنَ الجُوعِ، وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوْمًا عَلَى طَرِيقِهِمُ الَّذِي يَخْرُجُونَ مِنْهُ، فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا لِيُشْبِعَنِي، فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ مَرَّ بِي عُمَرُ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا لِيُشْبِعَنِي، فَمَرَّ فَلَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ مَرَّ بِي أَبُو القَاسِمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآنِي، وَعَرَفَ مَا فِي نَفْسِي وَمَا فِي وَجْهِي، ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا هِرٍّ» قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «الحَقْ»، فأطعَمه صلى الله عليه وسلم.
هل سمع بنو قحط بقول الفاروق رضي الله عنه: لو أن بغلة في العراق تعثرت لظننت أن الله يسألني لم لم تصلح لها الطريق ياعمر!؟
رب صل وسلم على نبينا محمد.

