
القتل
بسم الله الرحمن الرحيم
القتل
مهران ماهر عثمان
.
.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛
فهذا تحذير من جريمة حذر الله منها في كتابه، وحذر منها رسوله ﷺ، ألا وهي: القتل، ولعلِّي أتناول أمره في نقاط معدودات.
.
.
أول حادثة قتل في تاريخ البشرية
ذكرها ربنا في كتابه، فقال: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾ [المائدة: 27-32]( ).
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ
واقصص أيها الرسول على الناس خبر ابْنَي آدم، بالصِّدق الذي لا مرية فيه، والحق يوصف به الخبر، ويوصف به الحكم، فإن كان الخبر فهو الصدق، وإن كان الحكم فهو العدل.
وهذا الابنان لصلبه، وإلا فإن الناس جميعاً لآدم عليه السلام.
إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)
﴿إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا﴾ هذا متعلق بـ﴿نَبَأَ﴾ أي: نبأهم حين قرَّبَا قربانًا.
لم يُبيَّن هذا القربان، فلا معنى لتعيين ما أبهمه الله، ولا سبيل إليه، ولا فائدة منه.
والقربان شيء يُتقرب به إلى الله.
﴿فَتُقُبِّلَ﴾، والمتقبِّل هو الله، وأُبهم للعلم به.
ولم تذكر أمارة هذا القبول، لكنهما علما أن الله تقبل من الصالح ولم يَتقبَّل من الآخر، وسبب ذلك أنه من الأتقياء.
ودلت الآية على أن الاثنين قد يشتركا في عمل فيكون بينهما من التفاوت شيء عظيم؛ كما لو صلى رجلان فكان الأول يصلي لله، والثاني رياءً.
﴿قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ﴾ القائل هو الذي لم يُتقبّل منه، قال ذلك حسدًا لأخيه
فقال له التقي: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾، يعني: إن الله لا يتقبل إلا من المتقين؛ ولهذا قال بعض السلف: لو أعلم أن الله تقبل مني عملًا صالحًا واحدًا، يعني لفخرت بذلك وفرحت به؛ لأن الله يقول: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾. فالآية دالة على أن التقوى سبب لقبول الأعمال.
والقصة دليل على خطورة الحسد، وأنه قد يفضي بصاحبه إلى أن يقتل عياذاً بالله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يجتمعان في قلب عبد: الإيمان والحسد» [صحيح سنن النسائي 2912].
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)
بسطتها أي: مددتها مدًّا تصل به إليّ.
﴿لِتَقْتُلَنِي﴾ اللام للتعليل، أي: لأجل أن تقتلني.
إن فعلت ذلك فإني لا أفعله.
والأدلة الواردة في مشروعية ترك الدفاع عن النفس كما في هذه الآية يكون في حال الفتنة، إذا عمَّ القتل الأرجاء، فلا تُعارضُ هذه النصوص ما صحَّ من وُجوب الدِّفاع عن النفس والمال والعِرْض والذُّرِّية؛ لأنَّها – كما هو ظاهرٌ- خاصَّة بزمانِ الفِتَن وانتِشار القتل، ومما يدل على ذلك:
حديث أبي بَكْرَةَ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتَنٌ، أَلَا ثُمَّ تَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي فِيهَا، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي إِلَيْهَا، أَلَا، فَإِذَا نَزَلَتْ أَوْ وَقَعَتْ، فَمَنْ كَانَ لَهُ إِبِلٌ فَلْيَلْحَقْ بِإِبِلِهِ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ فَلْيَلْحَقْ بِغَنَمِهِ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَلْحَقْ بِأَرْضِهِ». قَالَ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِبِلٌ وَلَا غَنَمٌ وَلَا أَرْضٌ؟ قَالَ: «يَعْمِدُ إِلَى سَيْفِهِ فَيَدُقُّ عَلَى حَدِّهِ( ) بِحَجَرٍ، ثُمَّ لِيَنْجُ إِنِ اسْتَطَاعَ النَّجَاءَ، اللهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ اللهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ اللهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ»؟ قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ إِنْ أُكْرِهْتُ حَتَّى يُنْطَلَقَ بِي إِلَى أَحَدِ الصَّفَّيْنِ، أَوْ إِحْدَى الْفِئَتَيْنِ، فَضَرَبَنِي رَجُلٌ بِسَيْفِهِ، أَوْ يَجِيءُ سَهْمٌ فَيَقْتُلُنِي؟ قَالَ: «يَبُوءُ بِإِثْمِهِ وَإِثْمِكَ، وَيَكُونُ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ» رواه مسلم.
وقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا، وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا، وَيُصْبِحُ كَافِرًا، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، فَكَسِّرُوا قِسِيَّكُمْ، وَقَطِّعُوا أَوْتَارَكُمْ، وَاضْرِبُوا سُيُوفَكُمْ بِالْحِجَارَةِ، فَإِنْ دُخِلَ عَلَى أَحَدٍ مِنْكُمْ، فَلْيَكُنْ كَخَيْرِ ابْنَيْ آدَمَ» رواه أبو داود وصححه الألباني.
وفي مسند أحمد، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، قَالَ: رَكِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارًا وَأَرْدَفَنِي خَلْفَهُ، وَقَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، أَرَأَيْتَ إِنْ أَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ شَدِيدٌ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَقُومَ مِنْ فِرَاشِكَ إِلَى مَسْجِدِكَ، كَيْفَ تَصْنَعُ»؟ قَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «تَعَفَّفْ». قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، أَرَأَيْتَ إِنْ أَصَابَ النَّاسَ مَوْتٌ شَدِيدٌ يَكُونُ الْبَيْتُ فِيهِ بِالْعَبْدِ، (يَعْنِي الْقَبْرَ) كَيْفَ تَصْنَعُ»؟ قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «اصْبِرْ». قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، يَعْنِي حَتَّى تَغْرَقَ حِجَارَةُ الزَّيْتِ مِنَ الدِّمَاءِ، كَيْفَ تَصْنَعُ»؟ قَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «اقْعُدْ فِي بَيْتِكَ، وَأَغْلِقْ عَلَيْكَ بَابَكَ». قَالَ: فَإِنْ لَمْ أُتْرَكْ؟ قَالَ: «فَأْتِ مَنْ أَنْتَ مِنْهُمْ، فَكُنْ فِيهِمْ». قَالَ: فَآخُذُ سِلَاحِي؟ قَالَ: «إِذَنْ تُشَارِكَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ، وَلَكِنْ إِنْ خَشِيتَ أَنْ يَرُوعَكَ شُعَاعُ السَّيْفِ، فَأَلْقِ طَرَفَ رِدَائِكَ عَلَى وَجْهِكَ حَتَّى يَبُوءَ بِإِثْمِهِ وَإِثْمِكَ» رواه أحمد، وصححه محققو المسند والألباني في صحيح الجامع.
قال ابن قتيبة رحمه الله: “قَالُوا: رَوَيْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ»، ثُمَّ رُوِّيتُمْ: «كُنْ حِلْسَ بَيْتِكَ، فَإِنْ دُخِلَ عَلَيْكَ، فَادْخُلْ مَخْدَعَكَ، فَإِنْ دُخِلَ عَلَيْكَ، فَقُلْ: بُؤْ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ، وَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ، وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِلَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ضَرَبَ لَكُمْ -يَا بَنِي آدَمَ- مَثَلًا، فَخُذُوا خَيْرَهُمَا، وَدَعُوا شَرَّهُمَا». قَالُوا: وَهَذَا خِلَافُ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ لِكُلِّ حَدِيثٍ مَوْضِعًا، غَيْرَ مَوْضِعِ الْآخَرِ، فَإِذَا وُضِعَا بِمَوْضِعَيْهِمَا، زَالَ الِاخْتِلَافُ. لِأَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» مَنْ قَاتَلَ اللُّصُوصَ عَنْ مَالِهِ، حَتَّى يُقْتَلَ فِي مَنْزِلِهِ، وَفِي أَسْفَاره، وَلِذَلِكَ قِيلَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: «إِذَا رَأَيْتَ سَوَادًا فِي مَنْزِلِكَ، فَلَا تَكُنْ أَجْبَنَ السَّوَادَيْنِ»، يُرِيدُ: تَقَدَّمْ عَلَيْهِ بِالسِّلَاحِ، فَهَذَا مَوْضِعُ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ. وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: «كُنْ حِلْسَ بَيْتِكَ، فَإِنْ دُخِلَ عَلَيْكَ، فَادْخُلْ مَخْدَعَكَ، فَإِنْ دُخِلَ عَلَيْكَ، فَقُلْ: بُؤْ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ، وَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ، وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِلَ»، أَيِ: افْعَلْ هَذَا فِي زَمَنِ الْفِتْنَةِ، وَاخْتِلَافِ النَّاسِ عَلَى التَّأْوِيلِ، وَتَنَازُعِ سُلْطَانَيْنِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَطْلُبُ الْأَمْرَ، وَيَدَّعِيهِ لِنَفْسِهِ بِحُجَّةٍ. يَقُولُ: فَكُنْ حِلْسَ بَيْتِكَ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَلَا تَسُلَّ سَيْفًا، وَلَا تَقْتُلْ أَحَدًا، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي مَنِ الْمُحِقُّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَمَنِ الْمُبْطِلُ، وَاجْعَلْ دَمَكَ دُونَ دِينِكَ، وَفِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ قَالَ: «الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ»” [تأويل مختلف الحديث،ص 233 – 234].
وقال ابن عثيمين رحمه الله في تفسيره عند هذه الآيات: “في حال الفتنة ينبغي الاستسلام، وفي حال الأمن تجب المدافعة، وهذا هو الصحيح؛ لأنه في حال الفتنة ربما يترتب على القتل بالمدافعة؛ يترتب إراقة دماء كثيرة، ولهذا استسلم عثمان رضي الله عنه للقَتَلة، وطلب منه الصحابة أن يدافعوا عنه فأبى؛ لأنهم لو دافعوا اشتبكوا بهؤلاء الخوارج، ثم حصل إراقة دماء كثيرة، وهذا هو الأصح أن يقال: إن الإنسان يجب عليه أن يدافع بقدر ما يستطيع، ولو أدى إلى قتل صاحبه إذا لم يندفع إلا بالقتل، إلا في حال الفتنة التي يترتب على المدافعة بالقتل ما هو أكثر ضررًا، فهنا يجب الاستسلام درءًا للمفسدة”.
﴿إني أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾، أي: خالقهم ومالكهم ومدبر أمورهم، والعالَمون كل من سوى الله تعالى.
وهذه فيها دليل على أن الخوف من الله يمنع من ارتكاب المعاصي.
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)
﴿أَنْ تَبُوءَ﴾ أن ترجع.
إني أريد أن ترجع حاملًا إثم قَتْلي، وإثمك الذي عليك قبل ذلك، فتكونَ من أهل النار وملازميها، وذلك جزاء المعتدين.
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)
فَزَيَّنت للمفسد منهما نفسُه أن يقتُل أخاه، فقتله، فأصبح من الخاسرين الذين باعوا آخرتهم بدنياهم.
﴿فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ أي: فصار من الخاسرين.
وهذا يدل على شؤم عاقبة الحسد.
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
﴿بَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا﴾: أرسله، والغراب هو الطائر المعروف، ولا يقال: لم اختاره الله عز وجل من بين سائر الطيور؟ لأن مثل هذه المسائل لا يمكن تعليلها، ولا يمكن الإحاطة فيها.
وقد ذكر المفسرون أن غرابين اقتتلَا فقتل أحدُهما الآخر، فبحث القاتل في الأرض، ثم دفن الغراب، ولكن ظاهر الآية خلاف ذلك؛ لأن الله يقول: ﴿بَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا﴾، ولم يقل: غرابين، والظاهر أن الغراب إنما رأى هذا كيف يبحث في الأرض من أجل أن يدفن أخاه، وكأن هذا القاتل لقوة ما وقع في نفسه كأنه ذهل عن هذا الأمر، فبعث الله هذا الغراب يبحث في الأرض أي: يحرثها، حتى يرى هذا القاتل ماذا يصنع في أخيه. ويبحث: يحفر ويثير التراب بمنقاره. وقيل: كان يلقي التراب على جثة المقتول.
﴿كَيْفَ يُوَارِي﴾: كيف يغطي. ﴿سَوْأَةَ أَخِيهِ﴾ أي: عورته؛ لأن الميت كله عورة، فالعورة ما يجب تغطيته.
ويا ويلتا كلمة تحسر، وقد سبقت بياء النداء، فكأنه قال: هذا أوان حضورك أيتها الحسرة، فأقبلي.
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ
بسبب جناية القتل هذه شَرَعْنا لبني إسرائيل أنَّه من قَتل نفسًا بغير سبب مِن قصاص، أو فساد في الأرض بأي نوع من أنواع الفساد الموجب للقَتْل كالشرك والمحاربة، فكأنما قتل الناس جميعًا ومعنى: ﴿فكأنما قتل الناس جميعا﴾ فيه أقوال:
أحدها: أن عليه إِثم من قتل الناس جميعاً، قاله الحسن، والزجاج.
والثاني: أنه يصلى النار بقتل المسلم، كما لو قتل الناس جميعاً، قاله مجاهد، وعطاء.
والثالث: أنه يجب عليه من القصاص مثل ما لو قتل الناس جميعاً، قاله ابن زيد.
والرابع: أن معنى الكلام: ينبغي لجميع الناس أن يُعينوا ولي المقتول حتى يُقيدوه منه، كما لو قتل أولياءَهم جميعاً، ذكره القاضي أبو يعلى.
والخامس: أن المعنى: من قتل نبياً أو إِماماً عادلاً، فكأنما قتل الناس جميعاً.
﴿وَمَنْ أَحْياها﴾، فيها خمسة أقوال:
أحدها: استنقذها من هلكةٍ.
والثاني: ترك قتل النفس المحرّمة.
والثالث: أن يعفو أولياء المقتول عن القصاص.
والرابع: أن يزجر عن قتلها وينهى.
والخامس: أن يعين الوليَّ على استيفاء القصاص لأن في القصاص حياةً.
وفي قوله تعالى: ﴿فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً﴾، قولان:
أحدهما: فله أجر من أحيا الناس جميعاً.
والثاني: فعلى جميع الناس شكره كما لو أحياهم. [زاد المسير في علم التفسير ج1/ ص539- 540].
وخَصَّ بني إسرائيل لكثرة القتل والعدوان فيهم.
ولقد أتت بني إسرائيل رسلُنا بالحجج والدلائل على صحة ما دعَوهم إليه من الإيمان بربهم، وأداء ما فُرِضَ عليهم، ثم إن كثيرًا منهم بعد مجيء الرسل إليهم لَمتجاوزون حدود الله بارتكاب محارم الله وترك أوامره.
قال رسول الله ﷺ: «لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ» رواه الشيخان.
.
.
تحريم قتل النفس بغير حق
قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الأنعام:151] .
وقال: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ﴾ [الإسراء:33] .
وعن أبي بَكْرَةَ رض الله عنه أنه قال: قال رسول الله ﷺ: «أَيُّ يَوْمٍ هَذَا»؟ فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ سِوَى اسْمِهِ. قَالَ: «أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ»؟ قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: «فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا»؟ فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ. فَقَالَ: «أَلَيْسَ بِذِي الْحِجَّةِ»؟ قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ، بَيْنَكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا» رواه الشيخان.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رض الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالْمَارِقُ مِنْ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ» رواه الشيخان.
ومما يستدل به على تحريم ذلك حديثا ابن عمر رضي الله عنهما قال: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ وَيَقُولُ: «مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ! مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ! وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْكِ؛ مَالِهِ، وَدَمِهِ، وَأَنْ نَظُنَّ بِهِ إِلَّا خَيْرًا» رواه ابن ماجة.
وقَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» رواه الشيخان.
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق» رواه ابن ماجة.
وعن عبيد الله بن عدي بن الخيار رض الله عنه أنه قال: بينما رسول الله ﷺ جالس بين ظهراني الناس، إذ جاءه رجل فساره، فلم يدر ما ساره به، حتى جهر رسول الله ﷺ، فإذا هو يستأذنه في قتل رجل من المنافقين، فقال رسول الله ﷺ حين جهر: «أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله»؟ فقال الرجل: بلى، ولا شهادة له. فقال: «أليس يصلي»؟ قال: بلى، ولا صلاة له. فقال ﷺ: «أولئك الذين نهاني الله عنهم» رواه مالك، والشافعي، وأحمد.
“قال ابن العربي رحمه الله: ثبت النهي عن قتل البهيمة بغير حق والوعيد في ذلك، فكيف بقتل الآدمي، فكيف بالتقي الصالح” [فتح الباري 12/ 196].
.
.
الترهيب من جريمة القتل
ورد ذلك في نصوص كثيرة، منها:
قول الله تعالى: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: 32] .
.
.
والقاتل متوعد بعدم دخول الجنة، وبالنار:
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا﴾ [الفرقان: 68-69] .
وقال: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ [النساء:93].
وكفى بهذا القول زاجراً.
وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أنَّ أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار» رواه الترمذي.
وعن أبي سعيد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يخرج عنق من النار يتكلم يقول: وكلت اليوم بثلاثة: بكل جبار عنيد، ومن جعل مع الله إلها آخر، ومن قتل نفسا بغير حق. فينطوي عليهم فيقذفهم في حمراء جهنم» رواه أحمد.
وإذا كان النبي ﷺ قد قال: «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاما» روا البخاري، فكيف بالمسلم!! ومن لم يدخل الجنة كانت النار مأواه.
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «من لقي الله لا يشرك به شيئا، لم يَتَنَدَّ بدم حرام دخل الجنة» رواه أحمد وابن ماجه. ومعناه لم ينله منه شيء، كأنه قصد نداوة الدم.
وعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «من استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين الجنة ملء كف من دم امرئ مسلم يقول: لا إله إلا الله يهريقه، كأنما يذبح دجاجة، كلما تعرَّض لباب من أبواب الجنة حال بينه وبينه» رواه الطبراني في الأوسط.
.
.
والقتل لا يغفر
عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل ذنب عسى الله أن يغفره، إلا الرجل يموت مشركا أو يقتل مؤمنا متعمدا» رواه أبو داود.
قال المناوي رحمه الله: “وهذا في الإشراك مقطوع به، ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به﴾، وفي القتل منزل على ما إذا استحل” [فيض القدير 5/ 19].
ومع أنَّ الوالد لا يقاد بولده، ولكن لنتأمل فيما قاله الله في شأن ذلك:
قال تعالى: ﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ [الأنعام:140].
وقال: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خطأً كَبِيرًا ﴾ [الإسراء:31] .
فكيف بغير الوالد؟!
.
.
فماذا يكون بين القاتل والمقتول في الآخرة؟
ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء» رواه البخاري ومسلم
قال ابن عباس رضي الله عنهما: سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: «يَجِيءُ الْمَقْتُولُ بِالْقَاتِلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَاصِيَتُهُ وَرَأْسُهُ بِيَدِهِ، وَأَوْدَاجُهُ تَشْخَبُ دَمًا، يَقُولُ: يَا رَبِّ هَذَا قَتَلَنِي، حَتَّى يُدْنِيَهُ مِنْ الْعَرْشِ» فَذَكَرُوا لِابْنِ عَبَّاسٍ التَّوْبَةَ، فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ…﴾، قَالَ: مَا نُسِخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَا بُدِّلَتْ، وَأَنَّى لَهُ التَّوْبَةُ. رواه الترمذي.
وفي رواية: «فيقول الله للقاتل: تعست، ويذهب به إلى النار» رواه الطبراني في الأوسط.
.
.
والقتل كفر أصغر، وقد قد يفضي إلى الكفر الأكبر والعياذ بالله:
فقد قال النبي ﷺ لأصحابه في حجة الوداع: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» رواه الشيخان.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا» رواه البخاري.
أي: من أصاب دماً حراماً فإنه يوشك أن يزيغ فيموت على الكفر.
.
.
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: “إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله” رواه البخاري.
وقال ﷺ: «لَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ مُعْنِقًا صَالِحًا مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا، فَإِذَا أَصَابَ دَمًا حَرَامًا بَلَّحَ» رواه أبو داود.
ومعنقاً: يسير سيراً سريعاً إلى ربه، وبلَّح: انقطع سيره.
.
.
وأحب الذنوب إلى إبليس: القتل
فعن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أصبح إبليس بث جنوده، فيقول: من أخذل اليوم مسلما ألبسته التاج … ويجيء هذا فيقول لم أزل به حتى قتل، فيقول: أنت أنت ويلبسه التاج» رواه ابن حبان.
ويزداد البلاء سوء، ويتفاقم الأمر، ويستفحل الخطب إذا قتل القاتل ورأى أنه على هدىً؛ كحال من يكفر الناس، ويستبيح دماءهم!
فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل مؤمنا فاغتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفا ولا عدلا» رواه أبو داود.
أي: يرى أحدهم أنه على هدى فلا يستغفر الله!!
.
.
وأذكِّر بقصتين مؤلمتين في الترهيب من هذه الجريرة:
الأولى:
عن أُسَامَةَ بْن زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْحُرَقَةِ، فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَكَفَّ الْأَنْصَارِيُّ، فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»؟ قُلْتُ: كَانَ مُتَعَوِّذًا. فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ. رواه الشيخان.
والثانية:
عن عمران بن حصين رض الله عنه، قال: شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ بَعَثَ جَيْشًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، فَلَمَّا لَقُوهُمْ قَاتَلُوهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، فَمَنَحُوهُمْ أَكْتَافَهُمْ، فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنْ لُحْمَتِي عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِالرُّمْحِ، فَلَمَّا غَشِيَهُ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِنِّي مُسْلِمٌ، فَطَعَنَهُ فَقَتَلَهُ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ. قَالَ: «وَمَا الَّذِي صَنَعْتَ»؟ فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي صَنَعَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَهَلَّا شَقَقْتَ عَنْ بَطْنِهِ فَعَلِمْتَ مَا فِي قَلْبِهِ»؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ شَقَقْتُ بَطْنَهُ لَكُنْتُ أَعْلَمُ مَا فِي قَلْبِهِ. قَالَ: «فَلَا أَنْتَ قَبِلْتَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ، وَلَا أَنْتَ تَعْلَمُ مَا فِي قَلْبِهِ»! فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى مَاتَ، فَدَفَنَّاهُ، فَأَصْبَحَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ. فَقَالُوا: لَعَلَّ عَدُوًّا نَبَشَهُ، فَدَفَنَّاهُ، ثُمَّ أَمَرْنَا غِلْمَانَنَا يَحْرُسُونَهُ، فَأَصْبَحَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ. فَقُلْنَا: لَعَلَّ الْغِلْمَانَ نَعَسُوا، فَدَفَنَّاهُ ثُمَّ حَرَسْنَاهُ بِأَنْفُسِنَا، فَأَصْبَحَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ. فَأَلْقَيْنَاهُ فِي بَعْضِ تِلْكَ الشِّعَابِ. فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «إِنَّ الْأَرْضَ لَتَقْبَلُ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَحَبَّ أَنْ يُرِيَكُمْ تَعْظِيمَ حُرْمَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» رواه ابن ماجة.
فما أعظمها من كبيرة!!
.
.
وقد سد النبي ﷺ كل ذريعة تفضي إلى إراقة الدماء.
فعن أبي هريرة رض الله عنه، قال: قال أبو القاسم ﷺ: «من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه وإن كان أخاه لأبيه وأمه» رواه مسلم.
وعنه رض الله عنه، عن النبي ﷺ قال: «لا يشيرُ أحدكم على أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري لعل الشيطان يَنزِع في يده، فيقعُ في حفرة من النار» رواه الشيخان.
ونهى ﷺ عن ترويع المسلم، وحرم الحسد، والبيع على بيع المسلم، والخطبة على خطبته، وكل ما يفضي إلى الخصومة فهو محرم علينا؛ حسماً لمادة النزاع الذي قد يفضي إلى إراقة الدماء.
اللهم سلِّمنا وسلِّم الناس منَّا.
اللهم صل وسلم وبارك على نبيك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
