قصة شهيد
الله الرحمن الرحيم
قصة شهيد
29 ربيع الآخر 1446 الموافق: 1 نوفمبر 2024
مهران ماهر عثمان- مسجد الفتح بالامتداد- دنقلا
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، أما بعد؛
فعَنْ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: أُهَاجِرُ مَعَكَ، فَأَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةٌ غَنِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئا، فَقَسَمَ وَقَسَمَ لَهُ، فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ، وَكَانَ يَرْعَى ظَهْرَهُمْ، فَلَمَّا جَاءَ دَفَعُوهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟، قَالُوا: قِسْمٌ قَسَمَهُ لَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَهُ فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: «قَسَمْتُهُ لَكَ»، قَالَ: مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ، وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى إِلَى هَاهُنَا، وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ بِسَهْمٍ، فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَقَالَ: «إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ»، فَلَبِثُوا قَلِيلًا ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْمَلُ قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَهُوَ هُوَ؟» قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ»، ثُمَّ كَفَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جُبَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَدَّمَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ، فَكَانَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ صَلَاتِهِ: «اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِكَ فَقُتِلَ شَهِيدًا أَنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ» رواه النسائي والطبراني في الكبير، وصححه الألباني في أحكام الجنائز، ص (61).
راوي هذا الحديث: شداد بن الهاد، وهو من الصحابة كما في الإصابة لابن حجر رحمه الله (3/ 262).
أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ،
وهذا يدل على أن الإيمان منة وفضل من الله يمن به على من يشاء من عباده، يأتي هذا الأعرابي وأمثالُه من الصحراء فيؤمنون بنبينا صلى الله عليه وسلم، ويجاوره بعض القرشيين وهم أعرف الناس بصدقه وأمانته ويكفرون به! فلم ينفعهم قربهم منه، ولا صدَّ الأعرابيَّ بعدُه عنه.
ولهذا لما ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا﴾ [الحجرات: 14]، وكذب الله زعمهم ﴿قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات: 14]، قال الله تعالى بعد ذلك: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الحجرات: 17].
ثم قال: أهاجر معك.
علم ثوابها فأراد أن يناله.
ومما يبين لك عظيم مكانتها هذا الحديث:
عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ الطُّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو الدَّوْسِيَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ لَكَ فِي حِصْنٍ حَصِينٍ وَمَنْعَةٍ؟ حِصْنٌ كَانَ لِدَوْسٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ فَأَبَى ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِلَّذِي ذَخَرَ اللَّهُ لِلْأَنْصَارِ. فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ هَاجَرَ إِلَيْهِ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَهَاجَرَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَاجْتَوَوُا([1]) الْمَدِينَةَ، فَمَرِضَ، فَجَزِعَ، فَأَخَذَ مَشَاقِصَ([2]) لَهُ فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ([3])، فَشَخَبَتْ يَدَاهُ([4]) حَتَّى مَاتَ، فَرَآهُ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِي مَنَامِهِ، فَرَآهُ وَهَيْئَتُهُ حَسَنَةٌ، وَرَآهُ مُغَطِّيًا يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: مَا صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي؛ بِهِجْرَتِي إِلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكَ مُغَطِّيًا يَدَيْكَ؟! قَالَ: قِيلَ لِي: لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ. فَقَصَّهَا الطُّفَيْلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «اللَّهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ» رواه مسلم.
فَأَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ،
“لإنه غريب، يحتاج إلى من يساعده في أموره”([5]).
فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةٌ غَنِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئا، فَقَسَمَ وَقَسَمَ لَهُ، فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ، وَكَانَ يَرْعَى ظَهْرَهُمْ،
والغنائم تُجعل خمسة أجزاء، خمسٌ لله وللرسول صلى الله عليه وسلم يقسم كما في سورة الأنفال: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ [الأنفال: 41]، فسهم الله والرسول صلى الله عليه وسلم يُجعل في المصالح العامة للمسلمين.
وأربعة أخماس للمجاهدين، للراجل سهمٌ، وللفارس ثلاثة أسهم، سهمان للفرس وسهم للفارس.
والصحيح أن معنى: يرعى ظهرهم: “يَحرُس ظهر النبي صلى اللَّه عليه وسلم، وأصحابه؛ لئلا يأتيهم العدوّ من جهته بغتةً”([6]).
فَلَمَّا جَاءَ دَفَعُوهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟، قَالُوا: قِسْمٌ قَسَمَهُ لَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَهُ فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: «قَسَمْتُهُ لَكَ»، قَالَ: مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ، وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى إِلَى هَاهُنَا، وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ بِسَهْمٍ، فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَقَالَ: «إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ».
والمعنى: إذا كنت راغباً في نيل الشهادة صادقاً في ذلك، فإن الله سيكرمك بها.
وهذه قاعدة عامة ينبغي أن يجعلها المسلم منهجاً في حياته، فالذي يصدق الله في رغبته في حفظ القرآن سيوفقه الله، ومن صدق مع الله في طلب العلم ناله، فكل أمر تصدُق فيه يصدقك الله تعالى.
فَلَبِثُوا قَلِيلًا ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْمَلُ قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَهُوَ هُوَ؟» قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ»، ثُمَّ كَفَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جُبَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَدَّمَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ، فَكَانَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ صَلَاتِهِ: «اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِكَ فَقُتِلَ شَهِيدًا، أَنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ».
ما أعظم صدق هذا الأعرابي! تمنى الشهادة، ولو نفذ سهم إلى بطنه، أو ضُرِب برمح في رأسه، أو قطع سيفٌ رأسه لنالها، لكنه طُعن في ذات المكان الذي أشار إليه؛ لعظيم صدقه مع الله.
والحديث دليل على مشروعية الصلاة على الشهيد، وهذا مذهب الأحناف، وخالفهم الجمهور.
فاللهم اسلك بنا سبيل الصادقين والشهداء.
رب صل وسلم على نبينا محمد.
[1] / قال النووي رحمه الله: “هُوَ بِضَمِّ الْوَاو الثَّانِيَة ضَمِير جَمْع، وَهُوَ ضَمِير يَعُود عَلَى الطُّفَيْل وَالرَّجُل الْمَذْكُور وَمَنْ يَتَعَلَّق بِهِمَا، وَمَعْنَاهُ: كَرِهُوا الْمَقَام بِهَا؛ لِضَجَرٍ، وَنَوْع مِنْ سَقَم. قَالَ أَبُو عُبَيْد وَالْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرهمَا: اِجْتَوَيْت الْبَلَد إِذَا كَرِهْت الْمَقَام بِهِ وَإِنْ كُنْت فِي نِعْمَة. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَأَصْله مِنْ الْجَوَى وَهُوَ دَاء يُصِيب الْجَوْف” [شرح مسلم 2/ 130].
[2] / المِشْقَص: نصل السهم الطويل العريض.
[3] / مفاصل الأصابع، والواحد: بُرْجُمَة.
[4] / اندفع الدم منها.
[5] / ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (19/ 204).
[6] / ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (19/ 205).