
فضل حفظ القرآن
بسم الله الرحمن الرحيم
فضل حفظ القرآن
مهران ماهر عثمان
الحمد للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد؛
فهذه رسالة أبعث بها إلى الآباء الأكارم والأمهات الفضليات أقول فيها: إن من إحسان التربية ومن القيام بهذه الأمانة أن نسعى إلى تحفيظ أولادنا كتاب الله.
وهذا ذكرٌ وتذكيرٌ ببعض ما يدل على فضل حفظ القرآن الكريم.
فمن ذلك:
(1)
أنَّ حفظ القرآن سنة مشى عليها من أمرنا الله بالتأسي به.
سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى* إِلَّا مَا شَاءَ الله﴾ [الأعلى/6، 7].
وفي الصحيحين، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجودُ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة”.
(2)
أنه آيات بينات وحجج ظاهرة يُعنى أهل العلم بحفظها
قال سبحانه: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ [العنكبوت: 49].
قال ابن كثير رحمه الله: “أَيْ: هَذَا الْقُرْآنُ آيَاتٌ بَيِّنَةٌ وَاضِحَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْحَقِّ، أَمْرًا وَنَهْيًا وَخَبَرًا، يَحْفَظُهُ الْعُلَمَاءُ، يَسَّره اللَّهُ عَلَيْهِمْ حِفْظًا وَتِلَاوَةً وَتَفْسِيرًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [الْقَمَرِ: 17]” [تفسير القرآن العظيم 6/ 286].
وقال القرطبي رحمه الله: “أَيْ: لَيْسَ هَذَا الْقُرْآنُ كَمَا يَقُولُهُ الْمُبْطِلُونَ مِنْ أَنَّهُ سِحْرٌ أَوْ شِعْرٌ، وَلَكِنَّهُ عَلَامَاتٌ وَدَلَائِلُ يُعْرَفُ بِهَا دِينُ اللَّهِ وَأَحْكَامُهُ. وَهِيَ كَذَلِكَ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، وَهُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِهِ، يَحْفَظُونَهُ وَيَقْرَءُونَهُ” [الجامع لأحكام القرآن 13/ 354].
(3)
حفظة القرآن عباد الله الذين أنجز بهم وعده.
قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر/9]، فحفظ القرآن نوعان: حفظ الصدور، وحفظ السطور.
وقال سبحانه: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ﴾ [فصلت: ٤٢].
قال العلامة صديق حسن خان رحمه الله: “أعجز الله الخلق عن إبطاله وإفساده بوجه من الوجوه، فقيض له العلماء الراسخين يحفظونه ويذبون عنه إلى آخر الدهر؛ لأن دواعي جماعة من الملاحدة واليهود متوفرة على إبطاله وإفساده، فلم يقدروا على ذلك بحمد الله” [فتح البيان في مقاصد القرآن 7/ 149].
(4)
حامل القرآن أحق الناس بإمامة الصلاة.
ففي صحيح مسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ». فالنبي صلى الله عليه وسلم استأمن حملة القرآن على أعظم عبادة.
ومعنى «أقرؤهم»: أحفظهم.
ويوضح هذا المعنى حديثان:
الأول:
ما رواه البخاري، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : “لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ الْعُصْبَةَ -مَوْضِعٌ بِقُبَاءٍ – قَبْلَ مَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، كَانَ يَؤُمُّهُمْ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَكَانَ أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا”.
الثاني:
حديث البخاري، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقومه: «إِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا». فَنَظَرُوا، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرَ قُرْآنًا مِنِّي؛ لِمَا كُنْتُ أَتَلَقَّى مِنْ الرُّكْبَانِ، فَقَدَّمُونِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَأَنَا ابْنُ سِتٍّ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ، وَكَانَتْ عَلَيَّ بُرْدَةٌ كُنْتُ إِذَا سَجَدْتُ تَقَلَّصَتْ عَنِّي، فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْحَيِّ: أَلَا تُغَطُّوا عَنَّا اسْتَ قَارِئِكُمْ؟! فَاشْتَرَوْا فَقَطَعُوا لِي قَمِيصًا، فَمَا فَرِحْتُ بِشَيْءٍ فَرَحِي بِذَلِكَ الْقَمِيصِ.
(5)
قدَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم حفاظ القرآن في الدفن يوم أحد.
ومعلومٌ أن شهداء أحد دُفنوا في مقابر جماعية، فكان الجماعة منهم يدفنون في القبر الواحد.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول: «أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ»؟ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ، وَقَالَ: «أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ فِي دِمَائِهِمْ، وَلَمْ يُغَسَّلُوا، وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ” رواه البخاري.
ونبي الله صلى الله عليه وسلم لا يقدِّم إلا المقدَّم عند الله.
(6)
إكرام حافظ القرآن الكريم إجلال لله.
عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ» رواه أبو داود.
فمن هو حامل القرآن؟ يجيبك المناوي رحمه الله بقوله: “وَحَملَة الْقُرْآن: أَي حفظته الْعَامِلُونَ بأحكامه” [التيسير بشرح الجامع الصغير 2/ 463].
والغلو: التشدد وتتبع ما تشابه منه، والجفاء عكسه، فهو ترك العمل به.
والإجلال التعظيم.
فنص الحديث على أن توقير حامل القرآن من تعظيم الله، فكيف برتبة هذا المرغَّبِ في توقيره عند الله تعالى؟!
(7)
حفظ القرآن يعصم العبد من النار.
عن عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قال: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَوْ أَنَّ الْقُرْآنَ جُعِلَ فِي إِهَابٍ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ مَا احْتَرَقَ» أخرجه الإمام أحمد.
والحديث رواه وشرحه الإمام أحمد رحمه الله، قال البغوي رحمه الله: “حُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: مَعْنَاهُ: لَوْ كَانَ الْقُرْآنُ فِي إِهَابٍ، يَعْنِي: فِي جِلْدٍ، فِي قَلْبِ رَجُلٍ، يُرْجَى لِمَنِ الْقُرْآنُ مَحْفُوظٌ فِي قَلْبِهِ أَنْ لَا تَمَسَّهُ النَّارُ” [شرح السنة للبغوي 4/ 437].
(8)
حفظ القرآن سبب للإكثار من التلاوة
ولا سبيل إلى الإبقاء عليه محفوظاً إلا بكثرة ترداده ومراجعته، ففي صحيح مسلم، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «تَعَاهَدُوا هَذَا الْقُرْآنَ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الْإِبِلِ فِي عُقُلِهَا».
وتلاوة الحرف بعشر حسنات كما أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم في جامع الترمذي: «من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف».
فالذي يراجع في اليوم خمسة أجزاء أو عشرة كم له من الحسنات عند الله؟
(9)
وقد زوج النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً بسبب حفظه لسورٍ من القرآن حفظا متقناً
ففي سنن النسائي، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه: أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جِئْتُ لِأَهَبَ نَفْسِي لَكَ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَعَّدَ النَّظَرَ إِلَيْهَا وَصَوَّبَهُ، ثُمَّ طَأْطَأَ رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِيهَا شَيْئًا، جَلَسَتْ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا، قَالَ: «هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ؟» فَقَالَ: لَا، وَاللَّهِ مَا وَجَدْتُ شَيْئًا، فَقَالَ: «انْظُرْ، وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ» فَذَهَبَ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، وَلَكِنْ هَذَا إِزَارِي – قَالَ سَهْلٌ: مَا لَهُ رِدَاءٌ – فَلَهَا نِصْفُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ، إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ» فَجَلَسَ الرَّجُلُ حَتَّى طَالَ مَجْلِسُهُ، ثُمَّ قَامَ، فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَلِّيًا، فَأَمَرَ بِهِ، فَدُعِيَ، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: «مَاذَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ؟» قَالَ: مَعِي سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا، عَدَّدَهَا، فَقَالَ: «هَلْ تَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ». وأصله في الصحيحين.
وتأمل في قوله صلوات ربي وسلامه عليه: «هَلْ تَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ؟»، ثم استعذ بالله من حال كلِّ ملبس كذَّاب يدعي أنه لا وجود لنص يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرغِّب الناس في حفظ القرآن!!
(10)
أهل القرآن أهلُ الله وخاصته
روى أحمد وابن ماجة، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ»، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: «هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ»، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة.
قال المناوي رحمه الله: “أي: حفظة القرآن، العاملون به، هم أولياء الله المختصون به اختصاص أهل الإنسان به، سموا بذلك تعظيما لهم، كما يقال: بيت الله. قال الحكيم الترمذي: وإنما يكون هذا في قارئ انتفى عنه جور قلبه، وذهبت جناية نفسه، وليس من أهله إلا من تطهر من الذنوب ظاهرا وباطنا، وتزين بالطاعة، فعندها يكون من أهل الله ” [فيض القدير 3 / 87].
(11)
نيل أعلى الدرجات في الجنة
فقد روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَمَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ وَهُوَ يَتَعَاهَدُهُ وَهُوَ عَلَيْهِ شَدِيدٌ فَلَهُ أَجْرَانِ».
قال ابن حجر رحمه الله: “وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا: جَوْدَةُ التِّلَاوَةِ مَعَ حُسْنِ الْحِفْظِ” [فتح الباري لابن حجر 13/ 518].
وقال النووي رحمه الله: “الْحَاذِقُ الْكَامِلُ الْحِفْظِ، الَّذِي لَا يَتَوَقَّفُ، وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ بِجَوْدَةِ حِفْظِهِ وَإِتْقَانِهِ” [شرح النووي على مسلم 6/ 84].
وقال القسطلَّاني رحمه الله: “«وهو حافظ له»: لا يتوقف فيه، ولا يشق عليه؛ لجودة حفظه وإتقانه” [إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري 7/ 412].
ومع السفرة: معهم في أعلى درجات الجنة.
وفي سنن الترمذي، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُ بِهَا».
وقد ورد هذا السؤال في الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي (ص: 113) “وَسُئِلَ نفع الله بِهِ عَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «يُقَال لصَاحب الْقُرْآن يَوْم الْقِيَامَة اقْرَأ وارق ورتِّل كَمَا كنت ترتل فِي الدُّنْيَا، فَإِن منزلتك عِنْد آخر آيَة»، مَنْ الْمَخْصُوص بِهَذِهِ الْفَضِيلَة: هَل هم من يحفظ الْقُرْآن فِي الدُّنْيَا عَن ظهر قلبه وَمَات كَذَلِك؟ أم يَسْتَوِي فِيهِ هُوَ وَمن يقْرَأ فِي الْمُصحف؟… فَأجَاب رَضِي الله عَنهُ بقوله: الْخَبَر الْمَذْكُور خاصّ بِمن يحفظه عَن ظهر قلب لَا بِمن يقْرَأ فِي الْمُصحف؛ لِأَن مُجَرّد الْقِرَاءَة فِي الْخط لَا يخْتَلف النَّاس فِيهَا، وَلَا يتفاوتون قلَّة وَكَثْرَة، وَإِنَّمَا الَّذِي يتفاوتون فِيهِ كَذَلِك هُوَ الْحِفْظ عَن ظهر قلب، فَلهَذَا تفاوتت مَنَازِلهمْ فِي الْجنَّة بِحَسب تفَاوت حفظهم، وَمِمَّا يُؤَيّد ذَلِك أَيْضا، أنَّ حفظ الْقُرْآن عَن ظهر قلب فرض كِفَايَة على الْأمة، وَمُجَرَّد الْقِرَاءَة فِي الْمُصحف من غير حفظ لَا يسْقط بهَا الطّلب فَلَيْسَ لَهَا كَبِير فضل كفضل الْحِفْظ، فتعيَّن أَنه أَعنِي الْحِفْظ عَن ظهر قلب هُوَ المُرَاد فِي الْخَبَر، وَهَذَا ظَاهر من لفظ الْخَبَر بِأَدْنَى تَأمل. وَقَول الْمَلَائِكَة لَهُ «اقْرَأ وارق» صَرِيح فِي حفظه عَن ظهر قلب كَمَا لَا يخفى”.
وقيل بغير ذلك، فقد قال المناوي رحمه الله: “وَالْمرَاد بِصَاحِبِهِ من ألِف تِلَاوَته نظرا أَو عَن ظهر قلب” [التيسير بشرح الجامع الصغير 1/ 363].
وفضل الله واسع، ولعل الأول أرجح، والعلم عند الله تعالى.
(12)
ومن بركات حفظ القرآن أن الله يكرم والدي والدي حامل القرآن في الآخرة
فعن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْقُرْآنَ يَلْقَى صَاحِبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَنْشَقُّ عَنْهُ قَبْرُهُ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ، فَيَقُولُ لَهُ: هَلْ تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: مَا أَعْرِفُكَ. فَيَقُولُ لَهُ: هَلْ تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: مَا أَعْرِفُكَ. فَيَقُولُ: أَنَا صَاحِبُكَ الْقُرْآنُ، الَّذِي أَظْمَأْتُكَ فِي الْهَوَاجِرِ، وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ، وَإِنَّ كُلَّ تَاجِرٍ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِهِ، وَإِنَّكَ الْيَوْمَ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ تِجَارَةٍ، فَيُعْطَى الْمُلْكَ بِيَمِينِهِ، وَالْخُلْدَ بِشِمَالِهِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لَا يُقَوَّمُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا، فَيَقُولَانِ: بِمَ كُسِينَا هَذِهِ؟ فَيُقَالُ: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ. ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ، وَاصْعَدْ فِي دَرَجَةِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا، فَهُوَ فِي صُعُودٍ مَا دَامَ يَقْرَأُ هَذًّا كَانَ أَوْ تَرْتِيلًا» رواه أحمد، وحسنه محققو المسند.وفي حديث آخر لأحمد أيضاً في نعت لتاج الوقار: «الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها».
وهذا الحديث يدل على أن من صور البر بالوالد: العناية بحفظ كتاب الله؛ لما يلقاه من ثواب في الآخرة بأخذ ولده للقرآن وحفظه.
وما أجمل ما قاله الشاطبي رحمه الله:
وإنَّ كتاب الله أوثق شافــعٍ | وأغـنى غَناءٍ واهباً متفضِّلا | |
وخير جليس لا يُمـلُّ حديثه | وتَرداده يزداد فيه تجمـُّـلا | |
وحيث الفتى يَرتاعُ في ظلماته | من القبر يلقاه سَنَاً مُتَهَـلِّلا | |
هنالك يَهنيه مَقيلاً وروضـةً | ومن أجله في ذِروة العز يُجْتَلا | |
يناشد في إرضائه لحبيـــبه | وأجدِرْ به سُؤلاً إليه مُوَصَّلا | |
فيا أيها القاري به متمســكاً | مُجِلّاً له في كل حال مُبَجِّلاً | |
هنيئاً مريئاً والداك عليهــما | ملابسُ أنوارٍ من التـاج والحُلا | |
فما ظنُّكم بالنَّجْل عند جزائه | أولئك أهلُ الله والصفوة الملا |
آثار في فضل حفظ القرآن
روى البخاري، عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: “وكان القرَّاء أصحابَ مجالس عمرَ ومشاورته، كهولاً كانوا أو شبانًا”.
لقد كان المسلمون في موقعة اليمامة يستنجدوا بأهل القرآن، كانوا ينادون عليهم ويقولون: “يا أهل القرآن” فيقومون، ويقوم من ورائهم المسلمون، حتى استشهد في اليمامة خمسمائة حافظ للقرآن! ثم قام المسلمون بعد ذلك ينادون على حفَّاظ سورة البقرة: “يا أهل البقرة”، فقاموا حتى مات منهم خلق كثير، وهذا يوضِّح التبعة الضخمة التي كان يحملها حفَّاظ القرآن الكريم.
وفي صحيح مسلم: أن نافع بن عبدالحارث لقي عمر رضي الله عنه بعسفان، وكان عمر يستعمله على مكة، فقال: مَن استعملت على أهل الوادي؟ فقال: “ابنُ أَبْزَى” قال: ومَن ابن أبزى؟ قال: مولًى من موالينا، قال: فاستخلفت عليهم مولًى؟! قال: إنه قارئ لكتاب الله – عز وجل – وإنه عالِم بالفرائض، ثم قال عمر: أما إن نبيَّكم صلى الله عليه وسلم قد قال: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين».
وأختم بتوجيهات نافعات بإذن الله تعين على تحفيظ الطفل كتاب الله
1/ إشراكه في المركز القرآنية.
ولكن لابد من مراعاة أمرين:
أولهما: التأكُّد من استقامة من يقوم عليها.
ثانيهما: ينبغي متابعة الولد، في كل يوم سله عن المقدار الجديد الذي حفظه، فإذا مكث في سورة قصيرة يومين وثلاثة أيام فهذا دليل على أنّ القائمين على أمر هذا المركز متهاونون، فينبغي البحث عن غيره.
2/ ابدأ مع ولدك بالأسهل
الفاتحة، جزء عمَّ، وهكذا. وهكذا في أحكام التجويد ابدأ معه بأحكام النون والميم، ولا تنتقل من حكم إلى حكمٍ آخرَ في التجويد إلا بعد إتقان الحكم الأول، ويُعْرَف الإتقان بتطبيق الولد له عملياً أثناء التسميع.
3/ لابد من احتساب الأجر لئلا يدبَّ الكسل إليك.
وإنّ مما يحمل على ذلك أن تعلم أنّ كل حرف يقرؤه ولدك لك به مثلُ أجره، لأنك من سعى في تحفيظه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: « مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا» رواه مسلم.
4/ المقدار اليومي المناسب لكل طفل يختلف باختلاف الأطفال وقدراتهم.
قد يكون نصف صفحة، وقد يكون صفحة، وقد يزيد على ذلك، فاختبر قدرة ولدك ثم ابدأ معه على ضوء النتيجة التي توصلت إليها.
ولو قلَّلت له المقدار، وراعيت الاستمرار لكان خيراً.
5/ أفضل الأوقات لتحفيظ الطفل وغيره في الصباح الباكر.
6/ لابد من ربط كل وجه بما قبله لئلا ينقطعَ بالولد الطريق عند نهاية كل صفحة.
7/ زد للطفل في مقدار الغنة والمدود.
اجعل له الغنة أكثر من حركتين، مثال ذلك: ﴿من الجنة والناس﴾، مقدار الغنة هنا في النون حركتان، ولكن إذا أقرأته فاقرأ وزد على الحركتين. وكذلك في مقدار المدود، نحو المد في قوله تعالى: ﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ﴾، هذه أربع حركات، زد في مقدار المد إلى ست حركات، وهذه أشار إليها ابن الجزري رحمه الله، وفائدة ذلك أنّ الطفل إذا زيد له في المد فإنه سيقرأ بالمد المقرر عند التسميع، أما لو قرئ له بالمد المقرر فستخلو قراءته منه.
8/ لابد من الاهتمام بمراجعة المحفوظ أولاً بأول.
وإذا كثر المحفوظ وخيف من التشويش عليه فلا بأس من إيقاف الحفظ للتركيز على مراجعة القديم.
9/ التشجيع بالمكافآت.
كلما أكمل الولد حفظ جزء أو أقل كافئه على ذلك بما هو محبَّب إليه.
ويحضرني هنا أنّ الشيخ الحصري رحمه الله كان يستعمل هذا الأسلوب مع بناته، فوجده نافعاً مثمراً.
10/ إسماع الطفل ما حفظه من القراء المشهورين ليجمع بين صحة النطق وحسن التلاوة، ومن هؤلاء: الحصري، والمنشاوي، وعبد الباسط، رحمهم الله، والحذيفي حفظه الله.
11/ لابد أن يكون له يوم في الأسبوع للراحة فقط لا حفظ فيه ولا مراجعة.
12/ الثناء سبيل من سبل التشجيع.
13/ لابد من أن يكتب الصبي ما حفظه إذا تيسر ذلك فهذا مما يرسِّخ الحفظ.
14/ إشباع رغبة الطفل في الجوانب الأخرى.
كالترفيه واللعب والخروج به إلى النزهة وإشراكِه في نادٍ للسباحة أو الألعاب القتالية، وهذا مما يطرد عنه السآمة والملل ويعينه بذلك على الحفظ.
15/ غلِّب دائماً جانب الترغيب على جانب الترهيب.
اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك.
رب صل وسلم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.
