صلة الرحم
بسم الله الرحمن الرحيم
صلة الرحم
د. مهران ماهر عثمان
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، أما بعد؛ فصلة الرحم من العبادات التي كثرت نصوصها في الكتاب والسنة، وهذه كلمات في التذكير بما لها من الفضل، وما يتعلق بها من المسائل.
تعريف الرحم
الرحم: القرابة. قال النووي رحمه الله: “اخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الرَّحِمِ الَّتِي تَجِبُ صِلَتُهَا، فَقِيلَ: هُوَ كُلُّ رَحِمٍ مَحْرَمٍ بِحَيْثُ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا وَالْآخَرُ أُنْثَى حَرُمَتْ مُنَاكَحَتُهُمَا، فَعَلَى هَذَا لَا يَدْخُلُ أَوْلَادُ الْأَعْمَامِ وَلَا أَوْلَادُ الْأَخْوَالِ، وَاحْتَجَّ هَذَا الْقَائِلُ بِتَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا فِي النِّكَاحِ وَنَحْوِهِ وَجَوَازِ ذَلِكَ فِي بَنَاتِ الْأَعْمَامِ وَالْأَخْوَالِ. وَقِيلَ: هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ رَحِمٍ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ فِي الْمِيرَاثِ، يَسْتَوِي الْمَحْرَمُ وَغَيْرُهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ»، هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي. وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي هُوَ الصَّوَابُ” [شرح النووي على مسلم 16/ 113].
وقد ندب الله تعالى أبا بكر رضي الله عنه إلى صلة قريبه مسطح بُعيد آيات الإفك فقــال: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ الله﴾ [النور: 22].
ومسطح ابن خالته([1]). وابن الخالة ليس من الورثة، ولا من المحارم.
والمرء مطالب بصلة الأقرب فالأقرب، ومطالب بتقوى الله قدر استطاعته.
معنى الصلة
“صلة الرحم هي: الإحسان إلى الأقارب على حسب حال الواصل والموصول، فتارة تكون بالمال، وتارة بالخدمة، وتارة بالزّيارة والسّلام، وغير ذلك” [شرح النووي على مسلم 2/ 201].
الأمر بصلة الرحم
بين الله تعالى أن صلة الرحم ميثاق أخذه الله على مَن قبلنا فقال: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى﴾ [البقرة: 83].
وأمر هذه الأمة بذلك فقال: ﴿وَاعْبُدُواْ الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي القربى﴾ [النساء: 36].
وقال: ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾ [النحل: 90].
أي: “يأمر عباده بالعدل بأن يؤدي العبد حقوق الله وحقوق العباد، وألا يفضّل أحدًا على أحد في الحكم إلا بحق يوجب ذلك التفضيل، ويأمر بالإحسان بأن يتفضل العبد بما لا يلزمه كالإنفاق تطوعًا والعفو عن الظالم، ويأمر بإعطاء الأقرباء ما يحتاجون إليه”.
وقال: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ﴾ [الإسراء: 26].
والمراد: حقه من صلة رحمه.
وأمر تعالى بأن تُتقى الأرحام، وذلك بصلتها وعدم قطعها، فقـال: ﴿واتَّقُواْ الله الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [أول النساء].
وجاءت السنة النبوية مؤكدة على هذا الأمر العظيم، حتى إن الكفار الذين كانوا ينأون بأنفسهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصدون الناس عنه علموا أن من الأخلاق التي يدعو إليها نبينا صلى الله عليه وسلم صلة الرحم، فمن سؤالات هرقل لأبي سفيان: “بم يأمركم”؟ قال: “يأمرنا بالصدق والعفاف والصلة” رواه الشيخان.
وثبت قولُه صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الله يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ، – ثَلَاثًا – إِنَّ الله يُوصِيكُمْ بِآبَائِكُمْ ، إِنَّ الله يُوصِيكُمْ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ» رواه أحمد.
الترغيب في صلة الرحم
صلة الرحم من خصال البر، والبر يهدي إلى الجنة.
قال تعالى: ﴿ليْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَاب﴾ [البقرة: 177].
والصلة شعبة من شعب الإيمان.
قال نبينا صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه» رواه البخاري ومسلم.
والصِّلَة مجلبةٌ لصلة الله.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قَالَ الله: أَنَا الرَّحْمَنُ، وَهِيَ الرَّحِمُ، شَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنْ اسْمِي، مَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ» رواه أحمد. أي: قطعته.
ومعنى وَصَلْتُهُ: “أَي: إِلَى رَحْمَتِي وَمَحَلِّ كَرَامَتِي” [عون المعبود وحاشية ابن القيم 5/ 77].
فالأقارب يتراحمون فيما بينهم، والمرحوم من قام بحقِّ أرحامه.
وصلة الرحم مجلبة لعون الله، وهي من أخلاق النبوة قبل البعثة.
فقد قالت له خديجة رضي الله عنها لما جاء خائفاً وقال: «زملوني زملوني»، قالت: “والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصلُ الرَّحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلَّ، وتَكسبُ المعدوم، وتَقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق” رواه الشيخان.
فهذه أخلاقه صلى الله عليه وسلم قبل أن يُبعث.
ولما جمع النبي صلى الله عليه وسلم أقرباءه يدعوهم إلى توحيد الله قال لهم: «غير أنَّ لكم رحماً سأبُلُّها بِبَلالها» رواه مسلم. وبلُّ الرحم صِلتها. قال الشاعر:
والرَّحْمَ فابْلُلْها بِخَيْرِ البُلاَّن فإِنها اشتُقَّتْ من اسم الرَّحْمن
والصلة مجلبة لعون الله؛ لأن خديجة رضي الله عنها لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: “والله لا يخزيك الله أبداً”، استدلت لذلك بأمور، منها: صلته للرحم.
فإن أردت أن يكون الله لك، وأن يكون عضدك ونصيرَك، فصل رحمك.
وصلة الرحم مثراة في المال، وبركة في الأعمار.
فعن أنس بنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» رواه الشيخان.
أي يُوسَّع له في رزقه، ويُؤخَّر أجله؛ لأن الله يقدر الأمور بأسبابها، فيقدر الله أن زيداً يطول عمره ويقدر أسباب ذلك.
صحيح الجامع الصغير وزيادته (2/ 995)
وعن أبي بكرة مرفوعاً: «إن أعجل الطاعة ثوابا لصلة الرحم، حتى إن أهل البيت ليكونوا فجرة، فتنمو أموالهم، ويكثر عددهم إذا تواصلوا» رواه الطبراني، وهو في صحيح الجامع (5705).
والصلة من موجبات الجنة
فعَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ أَعْمَلُهُ يُدْنِينِي مِنْ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُنِي مِنْ النَّارِ. قَالَ: «تَعْبُدُ الله لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ ذَا رَحِمِكَ». فَلَمَّا أَدْبَرَ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : «إِنْ تَمَسَّكَ بِمَا أُمِرَ بِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ» رواه البخاري ومسلم.
وقال عبد الله بن سلام رضي الله عنه: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: قَدِمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، قَدِمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، قَدِمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم. فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لِأَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا اسْتَثْبَتُّ وَجْهَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، وَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الأرْحَامَ، وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ» رواه الترمذي.
الترهيب من قطع الرحم
لقد جاء التحذير من قطيعة الرحم في كثير من نصوص الشرع.
فقاطع الرحم ملعونٌ
دلت على ذلك آيتان:
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ [الرعد: 25].
فهذه صفات الأشقياء، فهم لا يوفون بعهد الله بإفراده سبحانه بالعبادة بعد أن أكدوه على أنفسهم، وهم الذين يقطعون ما أمرهم الله بوصله مِن صلة الأرحام وغيرها، ويفسدون في الأرض بعمل المعاصي، أولئك الموصوفون بهذه الصفات القبيحة لهم الطرد من رحمة الله، ولهم ما يسوءهم من العذاب الشديد في الدار الآخرة.
وقال سبحانه: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾ [محمد: 22- 23].
وقاطع الرحم مغبون خاسر، لا تكون له صلة بربه!
ومن تخلَّى الله عنه فالهلاك أقربُ إليه من روحه التي بين جنبيه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الله خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ قَالَتْ الرَّحِمُ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنْ الْقَطِيعَةِ. قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ. قَالَ: فَهُوَ لَكِ. فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾ رواه الشيخان.
فالمراد بالقطع: الحرمان من الإحسان.
وقطع الأرحام سبب للعذاب في الدنيا قبل الآخرة
فعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ الله لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحمِ» رواه أحمد.
وقاطع الرحم لا يُقبل عمله
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ تُعْرَضُ كُلَّ خَمِيسٍ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ فَلَا يُقْبَلُ عَمَلُ قَاطِعِ رَحِمٍ» رواه أحمد.
وقاطع الرحم لا يدخل الجنة.
لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ» رواه البخاري ومسلم.
أي: قاطع رحم.
بم تتحقَّق الصلة؟
بالزيارات، والمهاتفات، والمكاتبات، وتتحقق الصلة بجميع أوجه إيصال الخير؛ من تلبية دعوتهم، والسلام عليهم، والسؤال عن أحوالهم، والوقوف معهم في أفراحهم وأحزانهم، وبسط النفس لهم، وإرشادهم إلى الخير، وأمرهم بالمعروف ونهينهم عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة، وهم أولى الناس منك بذلك، والتغاضي عن قبيح فعالهم، ومساعدتهم وبذل المال لهم؛ فإن الصدقة عليهم صدقة وصلة.
وقد مر معنا ما قال النووي رحمه الله: “صلة الرحم هي: الإحسان إلى الأقارب على حسب حال الواصل والموصول، فتارة تكون بالمال، وتارة بالخدمة، وتارة بالزيارة والسلام، وغير ذلك” [شرح النووي على مسلم 2/ 201].
وأنفع الصلة: إعانة المحتاجين من الأرحام بالمال، وقد وردت جملة أحاديث في ذلك، منها:
حديث طَارِقٍ الْمُحَارِبِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَإِذَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ النَّاسَ وَهُوَ يَقُولُ: «يَدُ الْمُعْطِي الْعُلْيَا وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ؛ أُمَّكَ وَأَبَاكَ، وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ» رواه أحمد.
وقال أَنَسُ بن مَالِكٍ رضي الله عنه: “كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ. فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله إِنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ الله، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ الله حَيْثُ أَرَاكَ الله. فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «بَخٍ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ». فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ الله. فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ. متفق عليه.
وعَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَالصَّدَقَةُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ: صَدَقَةٌ، وَصِلَة» رواه أحمد والترمذي.
وتأمل في تربية الشريعة لأهلها على مخالفة هوى النفس وإخضاعها لما يحبه الله: فعن حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّدَقَاتِ، أَيُّهَا أَفْضَلُ؟ فقَالَ: «عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ» رواه أحمد.
و”الكاشِح: العَدُوُّ الَّذِي يُضْمِر عَداوَته ويَطْوي عَلَيْهَا كَشْحَه، أَيْ: باطِنَه” [النهاية في غريب الحديث والأثر 4/ 175].
وقد توعد نبينا صلى الله عليه وسلم من منع رحمه فضلاً عنده، فقال: «ما من ذي رحم يأتي رحمه، فيسأله فضلاً أعطاه الله إياه، فيبخل عليه، إلا أخرج له يوم القيامة من جهنم حية يقال لها: شجاع، يتلَمَّظُ([2])، فيـُطَوَّقُ به» أخرجه الطبراني في الكبير.
عقبات في الطريق
وهذه عقباتٌ في طريق من لا يهتدي بهدى الله! أما المهتدون فلا يحول بينهم وبين الصلة شيء.
فمن هذه العقبات: المرأة السوء.
فكثير من النساء لا يعجبها أن يكون زوجها واصلاً لأرحامه، فترى أن أقرباء زوجها يستولون على حيِّز من وقته وجهده وماله! وما علمت المسكينة أن من الخير لها ولأولادها أن يكون زوجها واصلاً للرحم؛ لما يترتب على ذلك من خير عميم في العاجلة والباقية؛ فالصلة سبب للبركة في المال وهي أول من يلحقها أثر ذلك.
إن الرجل الذي يخضع لهذه الرغبة الآثمة من زوجته لرجل هزيل ضعيف، حري به أن يُراجع نفسه وأن ينهض بها من هذا الحضيض.
والمرأة الصالحة التقية هي التي تحمل زوجها على صلة أرحامه، ولذا لما أعرض النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن عمه وابن عمته وهو في طريقه لفتح مكة قالت له أم سلمة رضي الله عنها: “لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقى الناس بك”[زاد المعاد 3/ 347].
من العقبات: عدم صلة من تصلهم
والذي ينبغي: أن يقوم من يرجو الله والدار الآخرة بصلة رحمه ولو قطعوه؛ لقول نبينا صلى الله عليه وسلم: «ليْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنْ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا» رواه البخاري.
ومن العقبات: أن الإنسان قد يُبتلى بأقارب سوء!
وربما نالوا منه ووقعوا في عرضه، فلا ينبغي أن يقطعهم وإن كانوا على هذه الحال، بل يصلهم بما لا يعود عليه بالضرر؛ لأنك تريد ما عند الله لا ما عندهم. ولذا لما خاض مسطح في حديث الإفك وأقسم الصدِّيق رضي الله عنه أنه لن يُنفق عليه نزل قول الله تعالى: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ الله وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [النور: 22].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ الله إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ؟ فَقَالَ: «لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنْ الله ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ» رواه مسلم.
والملُّ الرماد الحار، قال النووي رحمه الله: “أي: ذَلِكَ الَّذِي يَأْكُلُونَهُ مِنْ إِحْسَانِكَ كَالْمَلِّ يُحَرِّقُ أَحْشَاءَهُمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ولا ينبغي أن يكون كفر أولي الأرحام مانعاً من الصلة إلا إذا ظهرت عداوتهم
لقول الله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِين﴾ [الممتحنة: 8].
رب صل وسلم على نبينا محمد.
عباد الله :
صلتك للأرحام لا تسوغ الوقوع في بعض المخالفات الشرعية ، فلا تخلطن بين الأمور ، ولا تجمع بين الحسن والقبيح . ومن هذه المخالفات التي يقع فيها بعض الناس : المصافحة بين الجنسين من الأجانب ، والدخول بلا استئذان ، والدخول على النساء ، والاختلاط ، والخلوة ، وغير ذلك ..
أسأل الله بأسمائه وصفاته أن يجعلنا من خير عباده الواصلين …
[1] / تفسير القرآن العظيم لابن كثير (6/ 31).
[2] / يتبعه بلسانه .