غزوة بدر الكبرى دروس وعبر
بسم الله الرحمن الرحيم
غزوة بدر الكبرى دروس وعبر
مهران ماهر عثمان
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛ فقد سمَّى الله تعالى في القرآن يوم بدر بيوم الفرقان؛ لما كان فيه من التفريق بين الحق والباطل، وظهور نبينا صلى الله عليه وسلم على قومه من المشركين.
قال ابن كثير رحمه الله: “﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾، أَيْ: يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ فِي جُمُعَةٍ، وَافَقَ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ، مِنْ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَهُوَ يَوْمُ الْفُرْقَانِ الَّذِي أَعَزَّ الله فِيهِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، ودمغَ فِيهِ الشِّرْكَ وخرَّب محِله”([1]).
ولست أريد أن أذكر ما جرى من أحداث في هذه الغزوة المباركة، وإنما أردت أن أشير إلى بعض ما اشتملت عليه من دروس عظيمة يحتاج إليها كل مسلم، فمن ذلك:
- أنّه لا يعلم الغيب إلا الله تعالى، فلقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولا يعلمون أنّ اللقاء سيكون بينهم وبين جيش مكة الذي استنفره أبو سفيان.
- من مهمات الفوائد أنّه لا عز ولا مجد ولا سيادة ولا ظهور إلا بإحياء شعيرة الجهاد في سبيل الله، بها علت راية لا إله إلا الله، وبها كتب الله الظهور لدينه، والله تعالى وعد في القرآن الكريم بإظهار دينه في ثلاثة مواضع، وفي كل موضع منها يذكر الله الجهاد قبلها وبعدها، وهي رسالة تقول لنا: إنه لا سبيل إلى تحقيق ذلك إلا بالتمسك بديني وإقامة شعيرة الجهاد في سبيلي. وهل أدل على ذلك من حديث نبي الله صلى الله عليه وسلم:«إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ، سَلَّطَ الله عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ» رواه أبو داود.
- اليقظة والانتباهة في قيادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلقد علم بخروج أبي سفيان إلى الشام وتعرض له وأفلت منه، وها هو صلى الله عليه وسلم يعلم برجوعه ويخرج بأصحابه لمقابلته ومن معه.
- ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ﴾ [البقرة:216]، وفي النساء: ﴿ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 19]. فلقد كان رغبة من خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم ملاقاة العير، قال الله: ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ الله أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾ [الأنفال: 5 – 8]. فالمؤمن بطبعه يكره التعرض لمعامع القتال ومواقع النزال، لكن كيف يكون الحال إذا منَّ الله عليه بالشهادة في هذا المكان الذي كان يكره المجيء إليه؟! في الحديث المتفق عليه عن أنس رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُوتُ، لَهُ عِنْدَ الله خَيْرٌ، يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، وَأَنَّ لَهُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، إِلَّا الشَّهِيدَ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى»! فعلى المسلم أن يسلم لأمر الله، فإنه لا يدري أين الخير لنفسه، فخيرة الله لنا خير من خيرة أنفسنا لأنفسنا، ﴿وَالله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216 و232، وآل عمران: 66، والنور: 19].
- شدة عتو أبي جهل، فرعون هذه الأمة، فبعد علمه بنجاة أبي سفيان الذي أرسل إليهم: إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجاها الله فارجعوا، فقال أبو جهل: “وَالله لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَرِدَ بَدْرًا- وَكَانَ بَدْرٌ مَوْسِمًا مِنْ مَوَاسِمِ الْعَرَبِ، يَجْتَمِعُ لَهُمْ بِهِ سُوقٌ كُلَّ عَامٍ- فَنُقِيمُ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، فَنَنْحَرَ الْجُزُرَ، وَنُطْعِمَ الطَّعَامَ، وَنَسْقِيَ الخُمورَ، وَتَعْزِفَ عَلَيْنَا الْقِيَانُ، وَتَسْمَعَ بِنَا الْعَرَبُ وَبِمَسِيرِنَا وَجَمْعِنَا، فَلَا يَزَالُونَ يَهَابُونَنَا أَبَدًا بَعْدَهَا، فَامْضُوا”([2]). فقبحه الله من جاهل مشرك متكبر لا يؤمن بيوم الحساب!
- بركة الاستشارة، فلقد استشار صلى الله عليه وسلم أصحابه وهو نبي يوحى إليه، قال الله له:﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾ [آل عمران: 159].
- فضل الصحابة. فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما استشارهم “قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو رضي الله عنه فقال: “يا رسول الله امض لما أراك الله، فنحن معك والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى بَرْكِ الغِمَاد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشيروا علي أيها الناس»، وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم كانوا عدد الناس وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الانصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم. فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال: « أجل». قال فقد آمنا بك، وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا إنا لصُبُر في الحرب، صُدُق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر على بركة الله. فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشطه ذلك، ثم قال: «سيروا وأبشروا؛ فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم”([3]).
- العدل والرحمة في التعامل مع العدو، فإن الصحابة لما أمسكوا بغلامين وكانوا يريدون أن يكونا لأبي سفيان وأخبرا بأنهما لأبي جهل ضربوهما، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته، فلما قضى عاتب أصحابه في ذلك.
- سخر الله كثيراً من مخلوقاته لنصرة نبيه ولإظهار دينه، قال تعالى:﴿ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا الله وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ * ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ﴾ [الأنفال: 11-14]. وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ الله الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ [آل عمران: 123-126].
- دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لربه وكثرة تضرعه في هذه الغزوة، ففي صحيح مسلم، قال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: «اللهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ»، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ، مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ، فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾، وفي هذا دليل على أن الدعاء عامل رئيس من عوامل النصر على الأعداء، فهو السلاح الفتّاك المهمل.
- عظيم حبِّ الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لا حصانة لأحد! فلقد كان صلى الله عليه وسلم يعدل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده قدح لذلك، فمر بسواد بن غَزِيَّة وهو مستنصل من الصف، فطعن في بطنه بالقدح وقال:«استو يا سواد». فقال: يا رسول الله أوجعتني، وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني. فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال:«استقد». فاعتنقه فقبل بطنه، فقال صلى الله عليه وسلم:«ما حملك على هذا يا سواد» ؟ قال يا رسول الله حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخرَ العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير.
عجيب أن يتهيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقصاص في هذه الأزمة التي تمر بها أمته! ومالي أعجب وهو الذي قال: «لَا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لَا يَأْخُذُ الضَّعِيفُ فِيهَا حَقَّهُ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ» رواه ابن ماجه. وفي القصة كريم أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها أنّ السلطان ومن دونه لا يعلو منهم أحد على الحق والقصاص، فإذا ظلم الحاكم أحداً من رعيته وجب عليه أن يمكن المظلوم من القصاص، وهذه كلماتٌ جرى القلم بها، ولستُ أطمع أن يُشاهد ذلك في أرض الواقع!
- الحنكة العسكرية في قيادة النبي صلى الله عليه وسلم لجيشه، فلقد أمر أصحابه برمي الأعداء بالنبل ثم قال: «واستبقوا نبلكم» رواه البخاري. وبهذا تقل منصرفات الحرب، ويثخن في العدو، ويدخر الجهد، وتعلو الروح المعنوية بالرؤية العاجلة لأثر النصر.
- الجنة تحت ظلال السيوف. فلقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات وَالْأَرْضُ». فقَالَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ رضي الله عنه: يَا رَسُولَ الله جَنَّةٌ عَرْضُهَا السماوات وَالْأَرْضُ؟ قَالَ:«نَعَمْ». قَالَ: بَخٍ بَخٍ! فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ: بَخٍ بَخٍ»؟ قَالَ: لَا وَالله يَا رَسُولَ الله إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا. قَالَ: «فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا». فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ التَّمْرِ ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ. رواه مسلم.
- أنّ المسلم لا يرضى أن يُساء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وهذه حقيقة المحبة، ففي الصحيحين عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ قَالَ: بَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ نَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَشِمَالِي فَإِذَا أَنَا بَيْنَ غُلَامَيْنِ مِنْ الْأَنْصَارِ حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا تَمَنَّيْتُ لَوْ كُنْتُ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا، فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا فَقَالَ: يَا عَمِّ هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، وَمَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الْأَعْجَلُ مِنَّا. قَالَ: فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَغَمَزَنِي الْآخَرُ فَقَالَ مِثْلَهَا، قَالَ: فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَزُولُ فِي النَّاسِ، فَقُلْتُ: أَلَا تَرَيَانِ؟ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي تَسْأَلَانِ عَنْهُ، فَابْتَدَرَاهُ فَضَرَبَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا حَتَّى قَتَلَاهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَاهُ. فَقَالَ:«أَيُّكُمَا قَتَلَهُ»؟ فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُ. فَقَالَ: «هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا»؟ قَالَا: لَا. فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ فَقَالَ: «كِلَاكُمَا قَتَلَهُ»، وَقَضَى بِسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَالرَّجُلَانِ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ وَمُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ. قال النووي رحمه الله: “قال أصحابنا: اشترك هذان الرجلان في جراحته، لكن معاذ بن عمرو بن الجموح أثخنه أولاً فاستحق السلب، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كلاكما قتله»؛ تطييباً لقلب الآخر من حيث إن له مشاركة في قتله، وإلا فالقتل الشرعي الذي يتعلق به استحقاق السلب وهو الإثخان وإخراجه عن كونه متمنعاً إنما وجد من معاذ بن عمرو بن الجموح، فلهذا قضى له بالسلب. قالوا: وإنما أخذ السيفين ليستدل بهما على حقيقة كيفية قتلهما، فعلم أن ابن الجموح أثخنه، ثم شاركه الثاني بعد ذلك وبعد استحقاقه السلب، فلم يكن له حق في السلب. هذا مذهب أصحابنا في معنى هذا الحديث”([4]).
ولما انتهت المعركة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ينظر ما صنع أبو جهل؟ فتفرق الناس في طلبه، فوجده عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وبه آخر رمق، قال: فَقُلْتُ: “الْحَمْدُ لله الَّذِي أَخْزَاكَ يَا عَدُوَّ الله”, قَالَ: هَلْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ قَتَلَهُ قَوْمُهُ؟! ثم قال: أخْبِرْنِي لِمَنْ الدَّائِرَةُ الْيَوْمَ؟ قَالَ: قُلْتُ: لله وَلِرَسُولِهِ، فوضع ابن مسعود رجله على عنقه، فقال له: لقد ارتقيت مرتقى صعبا يا رويعي الغنم([5]).
- وفاء النبي صلى الله عليه وسلم حتى مع الكافرين، فقد ورد في دلائل النبوة للبيهقي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لقي أبا البختري بن هشام فلا يقتله»، ثم أورد البيهقي قول ابن إسحاق: “وإنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أبي البَخْتَرِي؛ لأنه كان أكفَّ القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، وكان لا يؤذيه، ولا يبلغه عنه شيء يكرهه. وكان ممن قام في نقض صحيفة المقاطعة”.
وتشرق شمس الوفاء في موطن آخر، لما قال النبي صلى الله عليه في أُسَارَى بَدْرٍ: «لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ» رواه البخاري، قالها وفاءً له؛ فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما انصرف عن أهل الطائف، ولم يجيبوه إلى ما دعاهم إليه من تصديقه ونصرته صار إلى حراء، ثم بعث إلى الأخنس بن شريق ليجيره، فقال: أنا حليف والحليف لا يجير. فبعث إلى سهيل بن عمرو، فقال: إن بني عامر لا تجير على بني كعب. فبعث إلى المطعم بن عدي فأجابه إلى ذلك، ثم تسلح المطعم وأهل بيته وخرجوا حتى أتوا المسجد، ثم بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن ادخل فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطاف بالبيت، وصلى عنده، ثم انصرف إلى منزله. فما أحوجنا إلى وفاء النبي صلى الله عليه وسلم مع أعدائه بين إخواننا!
- ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ [المجادلة: 22]. في بدر: دعا أبو بكر ابنه إلى المبارزة، وقتل عمر خاله، وعلي وحمزة قتلا عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة، وأسر أبو اليسر أبا عزيز بن عمير، فمر به أخوه مصعب بن عمير فقال: اشدد يديك به؛ فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك، قال له أبو عزيز: يا أخي هذه وصاتك بي؟ فقال له مصعب: إنه أخي دونك. فسألت أمه عن أغلى ما فدى به قرشي، فقيل لها: أربعة آلاف درهم، ففدته بها. ولما استشار النبي صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه في الأسرى قال: “أرى أن تمكِّنَّا فنضربَ أعناقهم، فتمكنَ علياً من عَقِيل فيضرب عنقه، وتمكِّنِّي من فلان -نسيباً لعمر – فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين” رواه مسلم وأحمد.
فرضي الله عن أصحاب نبينا ما أصدق إيمانهم! ولن يذوق أحد طعم الإيمان بالله حتى يقيم هذه العقيدة في قلبه، عقيدةَ الولاء والبراء.
وروى ابن جرير من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم فقال المسلمون: “كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا”، فاستغفروا لهم، فنزلت: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى الله أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ الله عَفُوًّا غَفُورًا﴾ [النساء: 97 – 99]([6]).
- الحق منصور ولكنه مبتلى، ولابد من سنة التدافع بين أهل الحق والباطل، فالفائز من استعمله الله ليعلي به دينه، وإن ربك غني عن العالمين.
- الحرص على عدم مخالفة أمر الله، فليس بين الله وبين عباده من نسب، قال تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ الله وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا﴾ [النساء: 123] , ففي صحيح مسلم قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما أَسَرُوا الْأُسَارَى قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ:«مَا تَرَوْنَ فِي هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى» ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا نَبِيَّ الله هُمْ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ، أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً فَتَكُونُ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ؛ فَعَسَى الله أَنْ يَهْدِيَهُمْ لِلْإِسْلَامِ. فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ»…- فقال ما تقدم ذكره في الفائدة السابقة ثم قال عمر -: فَهَوِيَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ جِئْتُ فَإِذَا رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَيْنِ يَبْكِيَانِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ، فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«أَبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمْ الْفِدَاءَ، لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ»، شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ نَبِيِّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْزَلَ الله عَزَّ وَجَلَّ:﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طيباً﴾ [الأنفال: 67]، فَأَحَلَّ الله الْغَنِيمَةَ لَهُمْ. والكتاب الذي سبق:﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء﴾ [محمد:4].
- الغلول لا يمكن أن يكون خلقاً لعباد الله الصالحين. ففي سنن الترمذي، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةَ: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾، فِي قَطِيفَةٍ حَمْرَاءَ افْتُقِدَتْ يَوْمَ بَدْرٍ. فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَعَلَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا، فَأَنْزَلَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾، وقد علمنا من سنة نبينا صلى الله عليه وسلم أن الغال يفضح ولو أُدخلَ قبرَه.
فضل أهل بدر
روى البخاري في صحيحه من حديث معاذ بن رفاعة ابن رافع عن أبيه، وكان أبوه من أهل بدر قال: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم فَقَالَ: «مَا تَعُدُّونَ أَهْلَ بَدْرٍ فِيكُمْ»؟ قَالَ: مِنْ أَفْضَلِ الْمُسْلِمِينَ، – أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا – قَالَ: وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ.
وعن أنس بن مالك رضي اللهُ عنه: أَنَّ أُمَّ الرُّبَيِّعِ بِنْتَ الْبَرَاءِ وَهِيَ أُمُّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ أَتَتِ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ الله: أَلَا تُحَدِّثُنِي عَنْ حَارِثَةَ؟ وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ، فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ صَبَرْتُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ فِي الْبُكَاءِ، قَالَ: «يَا أُمَّ حَارِثَةَ! إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى» رواه البخاري.
قال ابن كثير رحمه الله: “وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَظِيمٌ عَلَى فَضْلِ أَهْلِ بَدْرٍ فَإِنَّ هَذَا الَّذِي لم يكن في بحيحة الْقِتَالِ وَلَا فِي حَوْمَةِ الْوَغَى([7]) بَلْ كَانَ مِنَ النَّظَّارَةِ مِنْ بَعِيدٍ، وَإِنَّمَا أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ وَهُوَ يَشْرَبُ مِنَ الْحَوْضِ، وَمَعَ هَذَا أَصَابَ بِهَذَا الْمَوْقِفِ الْفِرْدَوْسَ، الَّتِي هِيَ أَعْلَى الْجِنَانِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَمِنْهُ تُفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ الَّتِي أَمَرَ الشَّارِعُ أُمَّتَهُ إِذَا سَأَلُوا الله الْجَنَّةَ أَنْ يَسْأَلُوهُ إِيَّاهَا، فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُ هَذَا فَمَا ظَنُّكَ بِمَنْ كَانَ وَاقِفًا فِي نَحْرِ الْعَدُوّ”([8]).
وفي الصحيحين، قال علي بن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ فَقَالَ: «ائْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ، فَخُذُوهُ مِنْهَا» فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا، فَإِذَا نَحْنُ بِالْمَرْأَةِ، فَقُلْنَا: أَخْرِجِي الْكِتَابَ، فَقَالَتْ: مَا مَعِي كِتَابٌ، فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَتُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ، فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا فِيهِ: مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى نَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا حَاطِبُ مَا هَذَا»؟ قَالَ: لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ – قَالَ سُفْيَانُ: كَانَ حَلِيفًا لَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا – وَكَانَ مِمَّنْ كَانَ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ، أَنْ أَتَّخِذَ فِيهِمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي، وَلَمْ أَفْعَلْهُ كُفْرًا وَلَا ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي، وَلَا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ». فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي، يَا رَسُولَ اللهِ أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ: «إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ»، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ [الممتحنة: 1]. فسبق في علم الله أنه لا يرتد عن الإسلام من شهد بدراً، وما دون الكفر مغفور لهم.
وروى مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي اللهُ عنه: أَنَّ عَبْدًا لِحَاطِبٍ جَاءَ رَسُولَ الله صلى اللهُ عليه وسلم يَشْكُو حَاطِبًا، فَقَالَ، يَا رَسُولَ الله لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى اللهُ عليه وسلم: «كَذَبْتَ لَا يَدْخُلُهَا، فَإِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ».
ومما يدل على فضلهم: إخباره صلى اللهُ عليه وسلم بأنه لولا أهل بدر لم يصلنا الإسلام، ولقضي عليه معهم، روى مسلم في صحيحه من حديث عمر ابن الخطاب رضي اللهُ عنه قال: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ الله صلى اللهُ عليه وسلم إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ الله صلى اللهُ عليه وسلم الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: «اللهمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللهمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللهمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ».
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] / تفسير ابن كثير (2/ 111).
[2] / سيرة ابن هشام (1/ 618- 619).
[3] / البداية والنهاية (3/321).
[4] / شرح صحيح مسلم (12/ 63).
[5] / سيرة ابن هشام (1/ 636).
[6] / تفسير الطبري (4/ 235).
[7] / لعلها بُحْبُوحَة، والله أعلم، وفي النهاية: البحبوحة من كل شيء وسطه [النهاية في غريب الحديث: 1/ 98]، وحومة الوغى: أشد موضع في الحرب أو القتال [المعجم الوسيط 1/210].
[8] / البداية والنهاية (3/ 329).