النهب المسلح
بسم الله الرحمن الرحيم
النهب المسلح
خطبتا 13 و 20/01 / 2023م
مسجد السلام بالطائف مربع (22)
مهران ماهر عثمان
الحمد لله رب العالمين، رب صل وسلم على نبينا محمد، أما بعد؛
فقد قال تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: 33، 34].
سبب نزول الآية
اختلف الناس في سبب نزول هذه الآية فذهب الجمهور إلى أنها نزلت في العرنيين، وقال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي: إنها نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع الطريق ويسعى في الأرض بالفساد”([1]).
في الصحيحين، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ نَاسًا مِنْ عُرَيْنَةَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَاجْتَوَوْهَا([2])، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ شِئْتُمْ أَنْ تَخْرُجُوا إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ، فَتَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا»، فَفَعَلُوا، فَصَحُّوا، ثُمَّ مَالُوا عَلَى الرِّعَاءِ، فَقَتَلُوهُمْ وَارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَسَاقُوا ذَوْدَ([3]) رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَعَثَ فِي أَثَرِهِمْ فَأُتِيَ بِهِمْ، فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ، وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ، وَتَرَكَهُمْ فِي الْحَرَّةِ، حَتَّى مَاتُوا.
قال أَنَس رضي الله عنه: “إِنَّمَا سَمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْيُنَ أُولَئِكَ، لِأَنَّهُمْ سَمَلُوا أَعْيُنَ الرِّعَاءِ” رواه مسلم.
وقال ابن حجر رحمه الله: “وفي هذا الحديث من الفوائد … المماثلة في القصاص، وليس ذلك من المثلة المنهي عنها”([4]).
وقال الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى: “استشكل بعض العلماء تمثيله صلى الله عليه وسلم بالعُرَنيين؛ لأنه سمل أعينهم، مع قطع الأيدي والأرجل، مع أن المرتد يقتل ولا يمثل به… والتحقيق في الجواب هو: أنه صلى الله عليه وسلم فعل بهم ذلك قصاصا، وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم إنما سمل أعينهم قصاصا؛ لأنهم سملوا أعين رعاة اللِّقاح”([5]).
معنى الحرابة
“الْحِرَابَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ -وَتُسَمَّى قَطْعَ الطَّرِيقِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ- هِيَ الْبُرُوزُ لأِخْذِ مَالٍ، أَوْ لِقَتْلٍ، أَوْ لإِرْعَابٍ عَلَى سَبِيل الْمُجَاهَرَةِ مُكَابَرَةً، اعْتِمَادًا عَلَى الْقُوَّةِ مَعَ الْبُعْدِ عَنِ الْغَوْثِ. وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ مُحَاوَلَةَ الاِعْتِدَاءِ عَلَى الْعِرْضِ مُغَالَبَةً“([6]).
فالحرابة إشهار السلاح وقَطْع السبيلِ خارج المِصْر. قال مالك: داخل المصر وخارجه سواء([7])، “ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رَأْيُ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ الْبُعْدُ عَنِ الْعُمْرَانِ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ فَقْدُ الْغَوْثِ. وَلِفَقْدِ الْغَوْثِ أَسْبَابٌ كَثِيرَةٌ، وَلاَ يَنْحَصِرُ فِي الْبُعْدِ عَنِ الْعُمْرَانِ، فَقَدْ يَكُونُ لِلْبُعْدِ عَنِ الْعُمْرَانِ أَوِ السُّلْطَانِ، وَقَدْ يَكُونُ لِضَعْفِ أَهْل الْعُمْرَانِ، أَوْ لِضَعْفِ السُّلْطَانِ”([8]).
حدّ الحرابة
“من قَتَل وَأَخَذَ الْمَال قُتِل وَصُلِبَ، ومن قتل قُتل، وَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى أَخْذِ الْمَال قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى، وَمَنْ أَخَافَ الطَّرِيقَ وَلَمْ يَقْتُل، وَلَمْ يَأْخُذْ مَالاً نُفِيَ مِنَ الأَرْضِ. والْمُرَادُ بِالصَّلْبِ طَعْنُهُ وَتَرْكُهُ حَتَّى يَمُوتَ، قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: يُصْلَبُ حَيًّا، وَيُقْتَل مَصْلُوبًا. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُتْرَكُ مَصْلُوبًا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تُحَدَّدُ مُدَّةُ الصُّلْبِ بِاجْتِهَادِ الإمَامِ”([9]).
ما تثبت به الحرابة
“لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ جَرِيمَةَ الْحِرَابَةِ تَثْبُتُ قَضَاءً بالإقرار، أَوْ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ”([10]).
ما يسقط به هذا الحد
قول الإمام مالك رحمه الله أن التوبة إنما تُسقط عنه حد الحرابة فقط، ويؤخذ بما سوى ذلك من حقوق الله وحقوق الآدميين([11]).
هل يجوز لآحاد الناس أن يقاتلوا هذه العصابات إذا كان منهم عدوان؟
لا ريب في ذلك.
فعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» رواه الترمذي.
وقال صلى الله عليه وسلم: «من قتل دون مظلمته فهو شهيد» رواه أحمد والنسائي.
قال المناوي رحمه الله: “قال ابن جرير: هذا أبين بيان وأوضح برهان على الإذن لمن أريد ماله ظلماً في قتال ظالمه والحث عليه كائناً من كان؛ لأن مقام الشهادة عظيم، فقتال اللصوص والقطاع مطلوب، فتركه من ترك النهي عن المنكر، ولا منكر أعظم من قتل المؤمن وأخذ ماله ظلماً”([12]).
ومن الأدلة ما رواه مسلم: أنَّ رجلاً جاء إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَالَ: «فَلَا تُعْطِهِ مَالَكَ». قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: «قَاتِلْهُ». قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: «فَأَنْتَ شَهِيدٌ». قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: «هُوَ فِي النَّارِ».
من أقوال العلماء في دفع الصائل
قال ابن حجر رحمه الله: “واحتجوا أيضا بالإجماع بأن من شهر على آخر سلاحاً ليقتله، فدفع عن نفسه، فقتل الشاهر أنه لا شيء عليه”([13]).
وفي جامع الترمذي في كتاب الديات، أن عبد الله بن المبارك رحمه الله قال: “يقاتل الرجل عن ماله وإن درهمين”.
وقال الإمام مسلم في صحيحه في كتاب القسامة: “باب الصائل على نفس الإنسان أو عضوه إذا دفعه المصول عليه فأتلف نفسه أو عضوه لا ضمان عليه”.
وقال ابن حجر رحمه الله: “فأما من قاتل أهل البغي، أو دفع الصائل فقُتل، فلا يدخل في هذا الوعيد؛ لأنه مأذون له في القتال شرعاً”([14]).
لا يقتل الصائل إذا أمكن دفعه بغير القتل
جاء في فيض القدير([15]) “للمصول عليه الدفع عن نفسه بالأخف وإن أفضى إلى قتل الصائل هدر”.
وفي شرح الخَرَشِي على مختصر خليل ([16]) “وَيَدْفَعُهُ بِالْأَخَفِّ فَالْأَخَفِّ، فَإِنْ أَدَّى إلَى قَتْلِهِ قَتَلَهُ، وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ مَعَ يَمِينِهِ إذَا كَانَ لَا يَحْضُرُهُ النَّاسُ”.
لو حاولت هذه العصابة أن الاعتداء على جماعة (دورية شباب) فقتلوا الصائل
إذا لم يندفع شره إلا بالقتل فلا حرج.
التستر على القاتل في القتل المأذون فيه شرعاً
التستر على القاتل بدون حق جريمة، أما على مصول عليه لم يجد سبيلاً لدفع الصائل عن نفسه إلا بالقتل فهذا لا حرج فيه؛ لأن قتله مأذون فيه.
رسالة إلى المتخاذلين من فاقدي المروءة
قال القرطبي رحمه الله -في تأويل قوله تعالى: ﴿فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله﴾-: “وعليه بنى العلماء أنه إذا دفع الصائل على النفس أو على المال عن نفسه أو عن ماله أو نفس غيره فله ذلك ولا شيء عليه، ولو رأى زيد عمراً وقد قصد منالَ بكرٍ فيجب عليه أن يدفعَه عنه إذا لم يكن صاحب المال قادراً عليه ولا راضياً به”([17]).
وقد “دخلت امرأة من العرب سوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها- وهي غافلة- فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله- وكان يهوديا- فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فسار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم بجيش من المقاتلين فحاصرهم وأجلاهم”([18]).
رب صل وسلم على نبينا محمد.
[1] / فتح البيان في مقاصد القرآن (3/ 405).
[2] / “َلمْ تُوَافِقْهُمْ وَكَرِهُوهَا لِسَقَمٍ أَصَابَهُمْ، وَهُوَ مُشْتَقُّ مِنَ الْجَوَى وَهُوَ دَاءٌ فِي الْجَوْفِ” [شرح النووي على مسلم 11/ 154].
[3] / إبله.
[4] / فتح الباري (1/ 341).
[5] / أضواء البيان (2/ 115 – 116).
[6] / الموسوعة الفقهية الكويتية (17/ 153).
[7] / الشرح الصغير (2/ 435)، وحاشية الدسوقي (4/ 348).
[8] / الموسوعة الفقهية الكويتية (17/ 157).
[9] / الموسوعة الفقهية الكويتية (17/ 158- 162).
[10] / الموسوعة الفقهية الكويتية (17/ 163).
[11]/ الشرح الصغير (2/ 437)، وحاشية الدسوقي (4/ 350).
[12]/ فيض القدير (6 /253).
[13]/ فتح الباري (12/ 222).
[14]/ فتح الباري (12/ 197).
[15]/ (1/ 388).
[16]/ (23/ 356).
[17]/ الجامع لأحكام القرآن (4/ 49).
[18]/ سيرة ابن هشام (2/ 47، 48).
للتحيل بصيغة pdf