
الرشوة
بسم الله الرحمن الرحيم
الرشوة
مهران ماهر عثمان
مسجد السلام بالطائف (22)
20 ذوالحجة 1434هـ
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأصلي وأسلم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛
فهذه بعض المسائل التي تتعلق بالرشوة، فأقول مستعيناً بالله:
تعريف الرشوة
قال ابن منظور: “الرشو: فعل الرشوة، والمراشاة: المحاباة، والرشوة (بالفتح)، والرشوة (بالكسر)، والرشوة (بالضم) الجعل”.
والرشوة في الاصطلاح: ما يعطى لإبطال حق، أو لإحقاق باطل.
وقيل: الرشوة: ما يبذل من المال لإبطال حق أو إحقاق باطل، أو ما يدفعه الإنسان ليأخذ ما ليس من حقه، أو ليتهرب بها من حق عليه.
[ينظر: الموسوعة الفقهية 24/256، والحوافز التجارية، ص 119].
أسماؤها
سميت في القرآن بالسحت، ومن أسمائها: البِرْطيل؛ وفي المثل: “البراطيل تنصر الأباطيل”.
ومن أسمائها الشائعة: تساهيل، تسهيلات، مسح الشنب، والرقعة، والإكراميات.
ومما ينبغي أن يعلم أن تغيير الأسماء لا يغير من الحقيقة شيئاً.
فتسية الخمر بالمشروبات الروحية لا يجعلُها حلالاً، وتسمية الرشوة بالتساهيل لا يغيِّر من أمرِ حرمتها شيئاً. وتسميةُ الزِّنا بالعلاقات خارج إطار الزوجية لا يبيحُه، وأول من سمَّى الأشياء بغير اسمها إبليس لعنه الله: ﴿قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ [طه/120، 121].
والذي يتعاطى الحرام مع محاولة تسويغه بتغيير اسمه يناله وزران:
وزر الحرام، ووزر تلبيسه وتدليسه وكذبه. قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ﴾ [يونس/69].
والذي يأكل الرشوة محاولاً تغيير اسمها تناله لعنتان:
اللعنة الأولى: لعنة أكل السحت.
واللعنة الثانية: لعنة تشبهه باليهود، فقد كانوا يتحايلون على الحرام فلعنوا بذلك، ومن تشبه بقوم فهم منهم، وسيناله ما نالهم. قال صلى الله عليه وسلم: «قاتل الله اليهود، لما حرم الله عليهم شحوم الميتة جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه» رواه البخاري.
تحريم الرشوة
قال تعالى: ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة/188].
ومعنى الإدلاء: إيصال الأموال رِشوةً إلى الحكَّام ليحكموا لصالح الراشي.
التحذير من الرشوة
من تعاطى الرشوة تشبه باليهود والنصارى والمشركين
إن مما أخبرنا الله سبحانه وتعالى به عن اليهود أنهم كانوا أكالين للسحت فيما بينهم: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ [المائدة:42]، ويقول سبحانه: ﴿وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَوْلا يَنْهَاهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمْ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [المائدة:62، 63].
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: “السحت هو الرشا”. وقال الحسن رحمه الله: “كان الحاكم من بني إسرائيل إذا أتاه أحدهم برشوة جعلها في كمّه فأراها إياه وتكلم بحاجته، فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه، فيأكل الرشوة، ويسمع الكذب، ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾ [المائدة:42]”.
وأكل الرشوة سبيل النصارى.
فقد فسر قول الله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾ [التوبة:34] بأنه أكل الرشوة.
وهو من صنيع المشركين، قال تعالى عن بلقيس: ﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ﴾ [النمل/35]، ولم تكن هدية، بل كانت رشوة.
فالذي يتعاطى الرشوة فيه شبه بهؤلاء الثلاثة.
ولعن النبي صلى الله عليه وسلم في الرشوة ثلاثةً
ففي مسند أحمد، عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: “لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ وَالرَّائِشَ”.
والرائش: الوسيط بينهما.
ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم محتملة لأمرين: إما أنه دعاء، أي: دعا عليه باللعن، وإما أنه خبر، وليس بينهما كبير فرق، فإن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لا يرد.
ومن أخذ رشوة جاء يحملها يوم القيامة
فقد روى البخاري ومسلم عن أبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ رضي الله عنه قَالَ: اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ بَنِي أَسْدٍ عَلَى صَدَقَةٍ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي. فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَأْتِي يَقُولُ: هَذَا لَكَ وَهَذَا لِي، فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لا؟! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا يَأْتِي بِشَيْءٍ إِلا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ: أَلا هَلْ بَلَّغْتُ-ثَلاثًا-».
والرغاء: صوت البعير، والخُوار: صوت البقرة، واليُعار: صوت الشاة. وعُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ، أي: بياضهما.
فهذا الحديث الشريف يدل على تحريم ما يهدى للعمال؛ لأجل عملهم ، وأن العامل يأتي يوم القيامة وهو يحمل ما أَخذ منها، ولو كان بعيرا أو بقرة أو شاة عياذا بالله من ذلك.
وأكل الرشوة من موجبات النار
وفي جامع الترمذي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا كعب بن عجرة: إنه لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به».
والسحت الرشا وغيره من الحرام.
وثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: “الرشوة في الحكم كفر، وهي بين الناس سحت” رواه الطبراني موقوفاً بإسناد صحيح.
آثار تفشي الرشوة
من ذلك:
ضياع الأمانات، وتعطيل الواجبات، وخرق العهود والمواثيق، وأكل أموال الناس بالباطل، وإفساد أخلاق المعاملات التي ينبغي أن تقوم على الصدق والإخلاص والعفة والنزاهة، فاذا هي كذب ونفاق وخداع واحتيال، وتمكين للفساد والمفسدين.
فهل يجوز أن يدفع الرشوة لأخذ حقه؟
إذا تعينت الرشوة سبيلا لأخذ حق، أو دفع ظلم، جاز دفعها.
قال الخطابي رحمه الله في شرح قوله عليه الصلاة والسلام: «لعن الله الراشي والمرتشي»: “وإنما يلحقهما العقوبة معاً إذا استويا في القصد والإرادة؛ فرشا المعطي لينال به باطلاً ويتوصل به إلى ظلم، فأما إذا أعطى ليتوصل به إلى حق أو يدفع عن نفسه ظلماً فإنه غير داخل في هذا الوعيد إذا لم يكن له سبيل سوى ذلك. وروي أن ابن مسعود أخذ في شيء وهو بأرض الحبشة فأعطى دينارين حتى خُلي سبيله. وروي عن الحسن والشعبي وجابر بن زيد وعطاء أنهم قالوا: لا بأس أن يصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم” [معالم السنن 4/161].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “فأما إذا أهدى له هدية ليكف ظلمه عنه أو ليعطيه حقه الواجب كانت هذه الهدية حراما على الآخذ، وجاز للدافع أن يدفعها إليه” [الفتاوى الكبرى 4/174].
واستدلوا بما رواه أحمد، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَسْأَلُنِي الْمَسْأَلَةَ فَأُعْطِيهَا إِيَّاهُ فَيَخْرُجُ بِهَا مُتَأَبِّطُهَا، وَمَا هِيَ لَهُمْ إِلا نَارٌ». قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَلِمَ تُعْطِيهِمْ؟ قَالَ: «إِنَّهُمْ يَأْبَوْنَ إِلا أَنْ يَسْأَلُونِي، وَيَأْبَى اللهُ لِيَ الْبُخْلَ».
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي هؤلاء المال مع أنه حرام عليهم؛ حتى يدفع عن نفسه مذمة البخل، والمظلوم يدفع مالا وهو محرم على من يأخذه ليدفع عن نفسه الظلم.
وقال ابن حزم رحمه الله: “فأما من منع من حقه فأعطى ليدفع عن نفسه الظلم فذلك مباح للمعطي، وأما الآخذ فآثم” [المحلى 8/118].
وهذا ما لو تعيَّنت سبيلاً لذلك، فإن استطاع ردَّ حقِّه بغير هذا السبيل تعيَّن عليه
رب صل وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
