
الرشوة
بسم الله الرحمن الرحيم
الرشوة
مهران ماهر عثمان
20/ 10/ 2013م
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأصلي وأسلم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛
فهذه بعض المسائل التي تتعلق بالرشوة، فأقول مستعيناً بالله:
تعريف الرشوة
قال ابن منظور: “الرشو: فعل الرشوة، والمراشاة: المحاباة، والرشوة (بالفتح)، والرشوة (بالكسر)، والرشوة (بالضم) الجعل”.
والرشوة في الاصطلاح: ما يعطى لإبطال حق، أو لإحقاق باطل.
وقيل: الرشوة: ما يبذل من المال لإبطال حق أو إحقاق باطل، أو ما يدفعه الإنسان ليأخذ ما ليس من حقه، أو ليتهرب بها من حق عليه.
[ينظر: الموسوعة الفقهية 24/256، والحوافز التجارية، ص 119].
أسماؤها
سميت في القرآن بالسحت، ومن أسمائها: البِرْطيل؛ وفي المثل: “البراطيل تنصر الأباطيل”.
ومن أسمائها الشائعة: تساهيل، تسهيلات، مسح الشنب، والرقعة، والإكراميات.
ومما ينبغي أن يعلم أن تغيير الأسماء لا يغير من الحقيقة شيئاً.
فتسية الخمر بالمشروبات الروحية لا يجعلُها حلالاً، وتسمية الرشوة بالتساهيل لا يغيِّر من أمرِ حرمتها شيئاً. وتسميةُ الزِّنا بالعلاقات خارج إطار الزوجية لا يبيحُه، وأول من سمَّى الأشياء بغير اسمها إبليس لعنه الله: ﴿قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ [طه/ 120، 121].
والذي يتعاطى الحرام مع محاولة تسويغه بتغيير اسمه يناله وزران:
وزر الحرام، ووزر تلبيسه وتدليسه وكذبه. قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ﴾ [يونس/69].
والذي يأكل الرشوة محاولاً تغيير اسمها تناله لعنتان:
اللعنة الأولى: لعنة أكل السحت.
واللعنة الثانية: لعنة تشبهه باليهود، فقد كانوا يتحايلون على الحرام فلعنوا بذلك، ومن تشبه بقوم فهم منهم، وسيناله ما نالهم. قال صلى الله عليه وسلم: «قاتل الله اليهود، لما حرم الله عليهم شحوم الميتة جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه» رواه البخاري.
تحريم الرشوة
قال تعالى: ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة/188].
ومعنى الإدلاء: إيصال الأموال رِشوةً إلى الحكَّام ليحكموا لصالح الراشي.
التحذير من الرشوة
من تعاطى الرشوة تشبه باليهود والنصارى والمشركين
إن مما أخبرنا الله سبحانه وتعالى به عن اليهود أنهم كانوا أكالين للسحت فيما بينهم: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ [المائدة:42]، ويقول سبحانه: ﴿وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَوْلا يَنْهَاهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمْ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [المائدة:62، 63].
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: “السحت هو الرشا”. وقال الحسن رحمه الله: “كان الحاكم من بني إسرائيل إذا أتاه أحدهم برشوة جعلها في كمّه فأراها إياه وتكلم بحاجته، فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه، فيأكل الرشوة، ويسمع الكذب، ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾ [المائدة:42]”.
وأكل الرشوة سبيل النصارى.
فقد فسر قول الله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾ [التوبة:34] بأنه أكل الرشوة.
وهو من صنيع المشركين، قال تعالى عن بلقيس: ﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ﴾ [النمل/35]، ولم تكن هدية، بل كانت رشوة.
فالذي يتعاطى الرشوة فيه شبه بهؤلاء الثلاثة.
ولعن النبي صلى الله عليه وسلم في الرشوة ثلاثةً
ففي مسند أحمد، عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: “لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ وَالرَّائِشَ”.
والرائش: الوسيط بينهما.
ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم محتملة لأمرين: إما أنه دعاء، أي: دعا عليه باللعن، وإما أنه خبر، وليس بينهما كبير فرق، فإن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لا يرد.
ومن أخذ رشوة جاء يحملها يوم القيامة
فقد روى البخاري ومسلم عن أبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ رضي الله عنه قَالَ: اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ بَنِي أَسْدٍ عَلَى صَدَقَةٍ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي. فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَأْتِي يَقُولُ: هَذَا لَكَ وَهَذَا لِي، فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لا؟! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا يَأْتِي بِشَيْءٍ إِلا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ: أَلا هَلْ بَلَّغْتُ-ثَلاثًا-».
والرغاء: صوت البعير، والخُوار: صوت البقرة، واليُعار: صوت الشاة. وعُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ، أي: بياضهما.
فهذا الحديث الشريف يدل على تحريم ما يهدى للعمال؛ لأجل عملهم ، وأن العامل يأتي يوم القيامة وهو يحمل ما أَخذ منها، ولو كان بعيرا أو بقرة أو شاة عياذا بالله من ذلك.
وأكل الرشوة من موجبات النار
وفي جامع الترمذي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا كعب بن عجرة: إنه لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به».
والسحت الرشا وغيره من الحرام.
وثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: “الرشوة في الحكم كفر، وهي بين الناس سحت” رواه الطبراني موقوفاً بإسناد صحيح.
آثار تفشي الرشوة
من ذلك:
ضياع الأمانات، وتعطيل الواجبات، وخرق العهود والمواثيق، وأكل أموال الناس بالباطل، وإفساد أخلاق المعاملات التي ينبغي أن تقوم على الصدق والإخلاص والعفة والنزاهة، فاذا هي كذب ونفاق وخداع واحتيال، وتمكين للفساد والمفسدين.
هدايا العمَّال غلول
في هذا الباب خمسة أحاديث
الأول:
رواه الإمام أحمد عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «هَدَايَا الْعُمَّالِ غُلُولٌ». وصححه الألباني في صحيح الجامع (7021).
قال النووي رحمه الله: “وفي هذا الحديث بيان أن هدايا العمال حرام، وغلول؛ لأنه خان في ولايته، وأمانته… وقد بيَّن صلى الله عليه وسلم في نفس الحديث السبب في تحريم الهدية عليه، وأنها بسبب الولاية ، بخلاف الهدية لغير العامل، فإنها مستحبة” [شرح مسلم 12/219].
والعمال يتناول الموظفين، فكل هدية تعطى للموظف بسبب وظيفته فهي خيانة محرمة.
والحديث الثاني:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا، فَمَا أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ» رواه أبو داود.
ومعنى الحديث: من جعلناه على عمل وأعطيناه على ذلك مالاً، فلا يحل له أن يأخذ شيئاً بعد ذلك، فإن أخذ فهو غلول، والغلول: الخيانة في الغنيمة وفي مال بيت مال المسلمين.
الحديث الثالث:
لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذًا إلى اليمن أرسل في أثره، فلما جاءه قال: «أتدري لِمَ بعثتُ إليك؟ لا تصيبن شيئًا بغير إذني؛ فإنه غلول، ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة، لهذا دعوتك فامض لعملك» رواه الترمذي.
الحديث الرابع:
رواه البخاري ومسلم، عن أبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ رضي الله عنه قَالَ: اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ بَنِي أَسْدٍ عَلَى صَدَقَةٍ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي. فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَأْتِي يَقُولُ: هَذَا لَكَ وَهَذَا لِي، فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لا؟! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا يَأْتِي بِشَيْءٍ إِلا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ: أَلا هَلْ بَلَّغْتُ-ثَلاثًا-».
والرغاء: صوت البعير، والخُوار: صوت البقرة، واليُعار: صوت الشاة. وعُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ، أي: بياضهما.
فهذا الحديث الشريف يدل على تحريم ما يهدى للعمال؛ لأجل عملهم ، وأن العامل يأتي يوم القيامة وهو يحمل ما أَخذ منها، ولو كان بعيرا أو بقرة أو شاة عياذا بالله من ذلك.
الحديث الخامس:
عَنْ عَدِيِّ بْنِ عَمِيرَةَ الْكِنْدِيِّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمْنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ أَسْوَدُ مِنْ الْأَنْصَارِ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْبَلْ عَنِّي عَمَلَكَ. قَالَ: «وَمَا لَكَ»؟ قَالَ: سَمِعْتُكَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: «وَأَنَا أَقُولُهُ الْآنَ: مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَجِئْ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَ، وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى» رواه مسلم.
علة التحريم
لماذا حرمت الهدية للعمال والموظفين والمسؤولين؟
لأنها مدعاة للمحاباة، وتقديم مصلحة صاحبها على غيره، وعدم مراعاة الإخلاص في العمل.
وإعطاء العامل هدية يفسده على الآخرين؛ فبعض الناس فقراء لا يستطيعون إعطاءهم، فهذا العمل سنة سيئة، وهي تفسد قلبه العامل على الآخرين الذين لا يدفعون له شيئاً، فلا يحسن العمل لهم، ويقصر في إكماله.
ولاشك أنها قد تفضي إلى تعليم العمال السؤال والطلب، وتستشرف أنفسهم عطايا الناس.
وبهذا نعلم أنه لا يصح أن يقال:
إذا انتفت شبهة المحاباة في هدية العامل فإنه لا حرج فيها، لأن المعطي حتى لو لم يقابله بعدها ليحابيه فقد أسهم في إفساده على الآخرين، فلا يعمل هذا العامل إلا إذا أعطي، وإن لم يعط سخط!
فما هو الفارق بين الهدية والرشوة؟
قال ابن حجر رحمه الله: “بيَّن له –لساعي الزكاة- النبي صلى الله عليه وسلم أن الحقوق التي عمل لأجلها هي السبب في الإهداء له، وأنه لو أقام في منزله لم يُهد له شيء، فلا ينبغي له أن يستحلها بمجرد كونها وصلت إليه على طريق الهدية” [فتح الباري 12/349].
فما كان لأجل عمل الإنسان ووظيفته بحيث لو لم يكن في هذه الوظيفة لم يُهْدَ إليه، فهو محرم عليه، ويجب عليه إما رده إلى المهدي، وإما إعطاؤه لصاحب العمل.
فمن جاءته من العمال هدية فعليه أن يسأل نفسه:
هل أهديت إليه لشخصه أو لوظيفته؟
الذي يعمل في مصلحة الأراضي لو فصل من عمله أكان هذا الشخص يهدي إليه؟
الذي يعمل في الشرطة لو لم يكن فيها هل كان سيُهدى إليه؟
وبعض أهل العلم يتسامح في الشيء الحقير، كالأقلام والميداليات والمفكرات والتقويم الذي تهديه شركات الأدوية للأطباء، ففرق بيه هذا وبين تذكر السفر لحضور المؤتمرات، ودعوات العشاء في أرقى الفنادق!
فعلى العامل أن يفرق بين من أهدى إليه لشخصه وبين من أهدى إليه لوظيفته، بين من كان يهاديه قبل الوظيفة ومن صار يهاديه بعدها، فالرشوة يقصد بها المحاباة، ويرجو باذلها الانتفاع من ورائها، والهدية لا يراد بها العوض.
وإذا شكَّ في شيء من هذا مما أباحه بعض العلماء فإن اتقاء الشبهات يسلم به الدين والعرض، ومن وصايا النبوة: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك».
إشكال وجوابه
لو قال من يبذُل الهدايا للعمال:
أليسوا من الفقراء وقد أمرنا بالإحسان إلى الفقير؟
أليسوا قد أحسنوا إلينا لما قاموا بما يجب عليهم معنا على أكمل وجه؟
ألم يقل الله: ﴿هل جزاء الإحسان إلا الإحسان﴾؟
الجواب: نعم، هذه الإحسان إليهم مصلحة.
وهذ المصلحة عارضتها مفسدة الرشوة، وذريعة المحاباة، والظلم، والمفاسد التي سبقت الإشارة إليها قبل قليل.
والقاعدة المقررة عند أهل العلم أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وعليه فلا يجوز دفع ما يسمى بالإكرامية، إلا في صورة ضيقة تخلو من هذه المفاسد، كأن يكون العامل قد فرغ من عمله، ولا يُتوقع أن يقوم بعمل آخر للدافع، فتنتفي شبهة الرشوة والمحاباة، فيجوز إعطاء شيء له من باب الإكرام أو المساعدة، على ما أفتى به بعض أهل العلم، والأولى عدم ذلك؛ لأن مفسدة تعويده على الطلب والتطلع موجودة، وكذلك مفسدة إفساد قلبه على من لا يدفع.
هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟
ومما ينبغي التذكير به أنه بالإمكان الإحسان إلى العامل الذي أحسن إلينا بإعطاء مدير المباشر حافزاً مالياً؛ ليدفع به إلى عامله وموظفه، باعتبار أنه حافز من مديره ومن إدارة عمله، لا ممن يتعامل معهم، ولا يعلم بأن من أعطاه ذلك زيد أو عمرو؛ إذ القصد أن يُكرم، لا أن يعلم من أكرمه، وبهذا نكون قد أحسنَّا إلى من أحسن إلينا بدون وقوع في المحظور.
نقول ماتعة!
قال الشوكاني رحمه الله: “وقد كان بعض أهل العلم والفضل يمتنع هو وأصحابه من قبول الهدية من أحد أصلاً لا من صديق ولا من قريب ولا غيرهما وذلك لفساد النيات في هذا الزمان” [نيل الأوطار 6/6]
وقال الحافظ في الفتح (5/21): “اشْتَهَى عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز التُّفَّاح، فَلَمْ يَجِدْ فِي بَيْته شَيْئًا يَشْتَرِي بِهِ، فَتَلَقَّاهُ غِلْمَان الدَّيْر بِأَطْبَاقِ تُفَّاح، فَتَنَاوَلَ وَاحِدَة فَشَمَّهَا ثُمَّ رَدَّ الْأَطْبَاق، وقال: لَا حَاجَة لِي فِيهِ. فقيل له: أَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْر وَعُمَر يَقْبَلُونَ الْهَدِيَّة؟ فَقَالَ: إِنَّهَا لِأُولَئِكَ هَدِيَّة وَهِيَ لِلْعُمَّالِ بَعْدهمْ رِشْوَة”.
وسئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى: نحن موظفون حكوميون تأتينا في رمضان إكراميات وزكوات من بعض رجال الأعمال، ولا نستطيع التفرقة بين الزكوات والإكراميات لعدم علمنا بذلك.
والسؤال: إذا أخذنا هذه الأموال ونحن في غنى عنها وأنفقناها على الأرامل والأيتام والفقراء ما الحكم؟ وإذا أنفقنا منها على أسرنا وأكلنا منها، ما الحكم؟
فأجاب:
“هدايا العمال من الغلول، يعني: إذا كان الإنسان في وظيفة حكومية وأهدى إليه أحد ممن له صلة بهذه المعاملة فإنه من الغلول، ولا يحل له أن يأخذ من هذا شيئاً ولو بطيب نفس منه.
مثال ذلك: لنفرض أن لك معاملة في دائرة ما، وأهديت لمدير هذه الدائرة أو لموظفيها هدية، فإنه يحرم عليهم قبولها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن اللُّتْبيَّة على الصدقة فلما رجع قال: هذا أهدي إلي وهذا لكم، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فخطب الناس وقال: «ما بال الرجل منكم نستعمله على العمل فيأتي ويقول: هذا لكم، وهذا أهدي إلي، فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا»، فلا يحل لأحد موظف في دائرة من دوائر الحكومة أن يقبل الهدية في معاملة تتعلق بهذه الدائرة، ولأننا لو فتحنا هذا الباب وقلنا: يجوز للموظف قبول هذه الهدية؛ لكنا قد فتحنا باب الرشوة، والرشوة خطيرة جداً، وهي من كبائر الذنوب، فالواجب على الموظفين إذا أهدي لهم هدية فيما يتعلق بعملهم أن يردوا هذه الهدية، ولا يحل لهم أن يقبلوها، سواء جاءتهم باسم هدية، أو باسم الصدقة، أو باسم الزكاة، ولاسيما إذا كانوا أغنياء، فإن الزكاة لا تحل لهم كما هو معلوم” [فتاوى الشيخ العثيمين 18/ السؤال رقم 270].
فهل يجوز أن يدفع الرشوة لأخذ حقه؟
إذا تعينت الرشوة سبيلا لأخذ حق، أو دفع ظلم، جاز دفعها.
قال الخطابي رحمه الله في شرح قوله عليه الصلاة والسلام: «لعن الله الراشي والمرتشي»: “وإنما يلحقهما العقوبة معاً إذا استويا في القصد والإرادة؛ فرشا المعطي لينال به باطلاً ويتوصل به إلى ظلم، فأما إذا أعطى ليتوصل به إلى حق أو يدفع عن نفسه ظلماً فإنه غير داخل في هذا الوعيد إذا لم يكن له سبيل سوى ذلك. وروي أن ابن مسعود أخذ في شيء وهو بأرض الحبشة فأعطى دينارين حتى خُلي سبيله. وروي عن الحسن والشعبي وجابر بن زيد وعطاء أنهم قالوا: لا بأس أن يصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم” [معالم السنن 4/161].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “فأما إذا أهدى له هدية ليكف ظلمه عنه أو ليعطيه حقه الواجب كانت هذه الهدية حراما على الآخذ، وجاز للدافع أن يدفعها إليه” [الفتاوى الكبرى 4/174].
واستدلوا بما رواه أحمد، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَسْأَلُنِي الْمَسْأَلَةَ فَأُعْطِيهَا إِيَّاهُ فَيَخْرُجُ بِهَا مُتَأَبِّطُهَا، وَمَا هِيَ لَهُمْ إِلا نَارٌ». قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَلِمَ تُعْطِيهِمْ؟ قَالَ: «إِنَّهُمْ يَأْبَوْنَ إِلا أَنْ يَسْأَلُونِي، وَيَأْبَى اللهُ لِيَ الْبُخْلَ».
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي هؤلاء المال مع أنه حرام عليهم؛ حتى يدفع عن نفسه مذمة البخل، والمظلوم يدفع مالا وهو محرم على من يأخذه ليدفع عن نفسه الظلم.
وقال ابن حزم رحمه الله: “فأما من منع من حقه فأعطى ليدفع عن نفسه الظلم فذلك مباح للمعطي، وأما الآخذ فآثم” [المحلى 8/118].
وهذا ما لو تعيَّنت سبيلاً لذلك، فإن استطاع ردَّ حقِّه بغير هذا السبيل تعيَّن عليه ذلك.
رب صل وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

