مقالات

بر الوالد المسن

بسم الله الرحمن الرحيم

بر الوالد المسن

مهران ماهر عثمان

الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، وأصلي وأسلِّم على المبعوث رحمة للعالمين، نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛

فعنوان هذه المقالة: بر الوالد المسن، فأقول مستعينا بالله:

ذكّرنا ربنا في كتابه بالمراحل التي يمر بها الناس فقال: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [غافر: 67].

فإذا بلغ الوالد مرحلة الشيخوخة وتقدم به العمر تأكد بره.

 

الترغيب في بر الوالد المسن

لن أذكر هنا النصوص العامة في باب بر الوالدين، فهذه تراجع في مظانها، وهي مما لا يخفى، وإنما سأقف مع غيرها من النصوص مما يرغب في البر بالوالد الذي بلغ من الكبر عتيا.

السعي على الوالد المسن نوع من الجهاد في سبيل الله:

فعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَة، قَالَ: مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ، فَرَأَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِلْدِهِ وَنَشَاطِهِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ: لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللهِ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ يُعِفُّهَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ رِيَاءً وَمُفَاخَرَةً فَهُوَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ» رواه الطبراني في الكبير.

 

والإحسان إليه مفتاح فرج، وسبب لإجابة الدعاء:

ففي الصحيحين في حديث الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار وسدت الصخرة عليهم مدخله: «قَالَ رجلٌ مِنْهُمْ: اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوانِ شَيْخَانِ كبيرانِ، وكُنْتُ لا أغْبِقُ قَبْلَهُمَا أهْلًا ولاَ مالًا، فَنَأَى بِي طَلَب الشَّجَرِ يَوْمًا فلم أَرِحْ عَلَيْهمَا حَتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا فَوَجَدْتُهُما نَائِمَينِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُمَا وَأَنْ أغْبِقَ قَبْلَهُمَا أهْلًا أو مالًا، فَلَبَثْتُ – والْقَدَحُ عَلَى يَدِي – أنتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُما حَتَّى بَرِقَ الفَجْرُ والصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَميَّ، فاسْتَيْقَظَا فَشَرِبا غَبُوقَهُما. اللَّهُمَّ إنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذلِكَ ابِتِغَاء وَجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هذِهِ الصَّخْرَةِ، فانْفَرَجَتْ شَيْئًا لا يَسْتَطيعُونَ الخُروجَ مِنْهُ.

ولا أغبق: أي ما كنت أقدِّم عليهما أحدًا في شرب نصيبهما من اللبن الذي يشربانه. والغبوق شرب آخر النهار مقابل الصبوح.

ونأى: بَعُد.

ويتضاغون: يتصايحون ويبكون.

فاستجيب له ببره بأبويه الكبيرين.

وفيه من الفوائد: تقديم حق الوالد على حق الزوجة والولد.

 

والمحسن إلى والده المسن مغموس في رحمة الله

ثبت عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر لكم» رواه أحمد. والجزاء من جنس العمل.

وفي سنن أبى داود والترمذي قال صلى الله عليه وسلم: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ».

فكيف إذا كان المرحوم والدا مسناً؟

 

وجاء دين الإسلام بتوقير ذي الشيبة المسلم، فكيف إذا كان والدا؟

ففي سنن أبي داود، قولُ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ».

وفي سنن الترمذي، قول نبيِّنا صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا».

 

الترهيب من عقوق الوالد المسن

في المستدرك على الصحيحين للحاكم، عن كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «احْضَرُوا الْمِنْبَرَ» فَحَضَرْنَا فَلَمَّا ارْتَقَى دَرَجَةً قَالَ: «آمِينَ» ، فَلَمَّا ارْتَقَى الدَّرَجَةَ الثَّانِيَةَ قَالَ: «آمِينَ» فَلَمَّا ارْتَقَى الدَّرَجَةَ الثَّالِثَةَ قَالَ: «آمِينَ» ، فَلَمَّا نَزَلَ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ سَمِعْنَا مِنْكَ الْيَوْمَ شَيْئًا مَا كُنَّا نَسْمَعُهُ قَالَ: ” إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَرَضَ لِي فَقَالَ: بُعْدًا لِمَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَلَمْ يَغْفَرْ لَهُ قُلْتُ: آمِينَ، فَلَمَّا رَقِيتُ الثَّانِيَةَ قَالَ: بُعْدًا لِمَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ قُلْتُ: آمِينَ، فَلَمَّا رَقِيتُ الثَّالِثَةَ قَالَ: بُعْدًا لِمَنْ أَدْرَكَ أَبَوَاهُ الْكِبَرَ عِنْدَهُ أَوْ أَحَدُهُمَا فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ قُلْتُ: آمِينَ».

فمن قصَّر في حقِّهما ولم يكونا سبباً له في دخول الجنة طُرد وأبعد من رحمة الله، فكيف بمن أساء إليهما وكان منه العقوق بهما؟

ودلت النصوص على أن الجزاء من جنس العمل، فمن أضاع هذا الباب من الخير وجد شؤم معصيته في ولده.

وأي قلب هذا الذي يطيق عقوق والد انحنى ظهره، وسقط على عينه حاجبه، ووهن عظمه؟!

ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: «لا تنزع الرحمة إلا من شقي» رواه أبو داود.

وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يرحم الله من لا يرحم الناس» رواه البخاري ومسلم.

فكيف بالذي لا يرحم والده؟ وكيف بالذي يقسمو عليه؟

 

صور البر بالوالد المسن

ست صور ذكرها الله في كتابه، تتعلق ببر الوالد المسن:

قال الله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: 23، 24].

1/ فلا تقل لهما أف.

قال مجاهد: “إما يَبْلُغان عِندك الكبر فلا تَقُل لهما أف حين ترى الأذى، وتميط عنهما الخلاء والبول، كما كانا يميطانه عنك صغيرا، ولا تؤذهما” [تفسير الطبري 17/415].

فإذا تقدم بالوالد العمر وكان فراشه مكانا لقضاء حاجته فهذا باب من أبواب الجنة قد فتح للولد، فإن كان ذلك من الأم وعهدت ابنتها للخادمة بأمر تنظيفها فقد نقص برها، والولد إذا ماتت أمه ولم تكن لوالده المسن زوجة تقوم على تنظيفه وعهد بهذا الأمر إلى خادم فقد نقص بره.

2/ ولا تنهرهما.

قال عطاء بن أبي رَباح رحمه الله: “﴿وَلا تَنْهَرْهُمَا﴾: لا تنفض يديك على والديك”.

وكل صنيع أفهم ضجرا من الوالد وسخطا عليه فهو من العقوق؛ كالعبوس في وجهه، وتقطيب الوجه عنده، ورفع الصوت غضبا، وإغلاق الباب بعنف، وزيادة سرعة السيارة التي يقودها الابن إن عبر بذلك عن تبرمه من والده كان عاقا.

3/ وقل لهما قولا كريما.

فمن خاطب والده بعبارة وكان بإمكانه أن يقول أفضل منها نقص بره.

عن ابن جريج رحمه الله، قال: “﴿وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا﴾: أحسن ما تجد من القول” [تفسير الطبري 17/ 417].

وما أجمل ما قاله سعيد بن المسيب رحمه الله في تأويلها! قال: “قل لهما قول العبد المذنب للسيد الفظّ” [تفسير الطبري 17/ 418].

4/ واخفض لهما جناح الذل من الرحمة.

قال عروة بن الزبير رضي الله عنهما: “﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾: لا تمتنع من شيء يُحبانه” [تفسير الطبري 17/ 418].

فما دمت تعلم رغبة والدك في أمر معين فلا تحوجه إلى أن يأمرك به.

5/ وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا

فمن البر: الدعاء لهما بالرحمة، وما أحوج الضعيف إلى رحمة الله!

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أمه كانت في بيت وهو في آخر، فإذا أراد أن يخرج وقف على بابها فقال: السلام عليك يا أماه ورحمة الله وبركاته. فتقول: وعليك يا بني ورحمة الله وبركاته، فيقول: رحمك الله كما ربيتني صغيرا. فتقول: رحمك الله كما بررتني كبيرا. رواه البخاري في الأدب المفرد.

6/ وقول الله تعالى: ﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ﴾ دال على صورة أخرى من صور البر، ولولا ما طرأ على أخلاق كثير من الناس من السوء وما حل بدينهم من الغربة لما وقفت عندها ولا أشرت إليها!

فهذه الكلمة (عندك) دالة على أن الوالد يكون عند ولده وبين أسرته، يعيش تحت رعايتهم، وفي بيته أمام أعينهم، فلا يزج به في دور الرعاية وبيوت المسنين!

ووالله لا يقدم عاق على فعل ذلك بوالده إلا رماه فيه أولاده، ولا يظلم ربك أحدا.

ومن صور البر بالوالد المسن كذلك:

7/ الصبر الجميل، وتحمل عناده، والدعاء لهم بصلاح الحال، مع النظر في إمكانية مخاطبته ومحاورته في هذا السلوك الذي يعاند فيه، وإمكان إصلاحه وإظهار الآثار السيئة المترتبة عليه، ولا مانع من الاستعانة بمن هم في مثل سنة أو بمن يقربون منه.

8/ عدم الاصطدام مع الوالد المسن في رأي معين، لأبد من موافقته وقتياً، ثم العودة مرة أخرى لمحاولة إقناعه.

9/ يجب عدم مؤاخذة المسن لعدم اكتراثه بأمر معين؛ لأن هذا يعني فقط أنه يحتاج إلى وقت أطول للتفاعل مع الأحداث ولا يعني عدم المبالاة.

10/ يجب أن ندرك أن المسن يستمتع بالحديث عن الماضي؛ لأنه ميدانه الذي عمره بتجاربه وأعماله، فينبغي للولد أن يكثر من محادثته فيما يرغب ويحب، فالبر أن تؤنسه بما يرغب فيه، لا بما ترغب فيه أنت.

11/ تقديم حقه على حق الزوجة والولد كما ارشد إليه حديث الغار.

والعاقل يجب عليه أن يعطي كل ذي حق حقه.

12/ أن نَحرص على إشغاله بما يَنفعه عند ربِّه، بإسماعه القرآن الكريم والمحاضرات التي تنفعه في أمر دينه.

13/ الإكثار من التردد عليه ولو لم يكن بإمكانه مخاطبة من عنده.

14/ إشعاره بأنه ما زال صاحب القرار في بيته في كل أمر صغير أو كبير، وليس أقسى على الوالد المسن من الشعور بأنه رأيه صار مهمشا لا يعتد به، وأن غيره حل مكانه في قرارات بيته الذي أفنى عمره في بنائه وتشييده لأولاده.

15/ الحرص على عدم التنازع والخصومة بين أولاده؛ فلهذه الخصومات بين الإخوة أثر سيء على نفسه، وليس شيء يقر عينه كالتآلف والتحابب الذي يراه بين ولده.

16/ الوالد المسن يضعف سمعه، فلابد من رفع الصوت لإسماعه؛ لئلا نحوجه إلى طلب تكرار الكلام.

17/ تقل الشهية للطعام عند المسن، فلابد من إعانته على التحرك قدر الإمكان ليتمكن من الأكل مع أفراد الأسرة، ولابد من تقديم ما يحبه من الأطعمة وسؤاله عما يشتهيه.

18/ إذا امتنع الوالد عن الصوم لكبر سنه ولم يكن بإمكانه إخراج فدية الصوم فعلى الولد أن يفدي عنه.

19/ الحج عنه إذا لم يكن قد حج.

لما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت امرأة من خثعم فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: «نعم».

20/ الرعاية الصحية التامة، بالكشف الدوري له ولو بإحضار الطبيب إليه، والحرص على أن يتناول الوالد دواءه في موعده، ولابد من استشارة الطبيب في كل دواء جديد يقرر له؛ لئلا يكون للدواء الجديد أثر سلبي مع دواء آخر كان يتناوله.

21/ تبصيره بالأحكام التي يحتاج إليها، وإعانته على الصلاة؛ لئلا يظن أنها تسقط عنه بسبب كثرة تنجس بدنه وثوبه.

22/ غرز احترامه في نفوس أطفالنا، فالجد والد. قال يوسف عليه السلام: ﴿وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ [يوسف: 38].

23/ تزويجه بمن تقوم على شؤونه إن كانت له رغبة في ذلك.

 

إضاءة

قد يكون البر بالوالد المسن أمرا شاقا، لكن على العاقل أن يعلم أن الله أراد به خيرا بأن جعله مسؤولا عن والده المسن.

وقد قيل لرجل: كيف تقدر على الصوم في هذا الحر؟ فقال: من عرف قدر ما يسأله هان عليه ما يبذله [محاضرات الأدباء].

ومن لاح له فجر الأجر هانت عليه مشقة التكليف.
شارك المحتوى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *