
المرحومون
بسم الله الرحمن الرحيم
المرحومون
مهران ماهر عثمان
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للناس أجمعين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛ فأنْ يكون العبد من جملة عباد الله المرحومين هذا خير للعبد من الدنيا وما فيها، قال تعالى: ﴿لَمَغْفِرَةٌ مِنَ الله وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [آل عمران: 157].
والرحمة معروفة، ومن آثارها: إيصال المسار ودفع المضار.
ومن الأدلة على ذلك آيتان:
قول الله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ [الزمر: 53]، فمغفرة الله لذنوبنا أثر من آثار رحمة الله.
وقوله: ﴿فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [الروم: 50]، فإنزال الغيث أثر من آثارها، فكل خير تتنعم به، وكل شر تنجو منه، فهذا من آثار رحمة الله تعالى.
موعدنا في خطبتنا هذه مع آية عظيمة تتحدث عن الذين اختارهم الله تعالى وجعلهم من عباده المرحومين، قال تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الأعراف: 156، 157].
﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾
تكتب للمؤمن وغيره في الدنيا، أما في الآخرة فلا تكون إلا للمؤمنين.
قال البغوي: “عمت كل شيء؛ قال الحسن وقتادة: وسعت رحمته في الدنيا البر والفاجر، وهي يوم القيامة للمتقين خاصة”([1]).
﴿فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾
قال ابن الجوزي: “قالَ المُفَسِّرُونَ: مَعْنى ﴿فَسَأكْتُبُها﴾ فَسَأُوجِبُها”([2]).
قال قتادة: “فسأكتبها للذين يتقون معاصي الله”([3]).
وفيها دليل على أن للمعصية شؤماً، وأنَّ المسلم يُحرم من خير كثير وبركة عظيمة بسبب ما يرتكب من معصية الله تعالى.
وأفضل ما قيل في تفسير التقوي: أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية بفعل الأوامر واجتناب النواهي.
﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾
قال الماوردي: “فيها قولان:
أحدهما: أنها زكاة أموالهم لأنها من أشق فرائضهم، وهذا قول الجمهور.
والثاني: معناه أي يطيعون الله ورسوله، قاله ابن عباس والحسن، وذهبا إلى أنه العمل بما يزكي النفس ويطهرها من صالحات الأعمال”([4]).
﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾
“أَيْ: يُصَدِّقُونَ”([5]).
قال الواحدي: “﴿الذين هم بآياتنا يؤمنون﴾، يصدِّقون بما أنزل على محمد والنَّبييِّن”([6]).
﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ﴾
والمعنى: “ويتبعون الرسول النبي الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، الذي يجدون صفته وأمره مكتوبين عندهم في التوراة والإنجيل”([7]).
قال ابن جريج رحمه الله: “لما نزلت: ﴿ورحمتي وسعت كل شيء﴾، قال إبليس: أنا من ﴿كل شيء﴾، قال الله: ﴿فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون﴾، فقالت اليهود: ونحن نتقي ونؤتي الزكاة! فأنزل الله: ﴿الذين يتبعون الرسول النبي الأمي﴾، قال: نزعها الله عن إبليس، وعن اليهود، وجعلها لأمة محمدٍ: سأكتبها للذين يتّقون من قومك”([8]).
وعن قتادة: “فتمنتها اليهود والنصارى، فأنزل الله شرطًا وَثيقًا بَيِّنًا، فقال: ﴿الذين يتبعون الرسول النبيّ الأمي﴾“([9]).
هؤلاء هم المرحومون، وفي نصوص أخرى في الكتاب والسنة ذكر لغيرهم.
لكن من جملة ما أكَّدت عليه هذه الآية أنَّ رحمة ربنا في الآخرة إنما هي لمن يؤمن بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن الآيات التي أكدت على هذا المعنى:
2/ قول ربنا: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [العنكبوت: 23].
والمعنى: “والذين كفروا حُجَجَ الله، وأنكروا أدلته، وجحدوا لقاءه والورود عليه، يوم تقوم الساعة: (أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) يقول تعالى ذكره: أولئك يئسوا من رحمتي في الآخرة لما عاينوا ما أعدّ لهم من العذاب، وأولئك لهم عذاب مُوجِع“.
3/ ومن الأدلة على ذلك دعاء الملائكة: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ [غافر: 7]، بعد أن توسلوا إلى الله في دعائهم بأن رحمته وسعت كل شيء لم يحملهم هذا على طلبها لمشرك كتب الله أن الجنة حرام عليه.
4/ ومن الأدلة:
في مسند أحمد، وسنن أبي داود، عن أبي موسى رضي الله عنه، قال: كَانَتْ الْيَهُودُ يَتَعَاطَسُونَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَاءَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: يَرْحَمُكُمُ اللهُ، فَكَانَ يَقُولُ لَهُمْ: «يَهْدِيكُمُ اللهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ». وهذا يبيِّن أنَّ الدعاء بالرحمة خاص بالمؤمنين.
إشكال وجوابه
فإن قيل: ندعوا للكافر بالرحمة ليخفف الله عنه كما وقع لأبي طالب! قال ابن حجر رحمه الله: “وأنَّ عَذَابَ الْكُفَّارِ مُتَفَاوِتٌ وَالنَّفْعُ الَّذِي حَصَلَ لِأَبِي طَالِبٍ مِنْ خَصَائِصِهِ بِبَرَكَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ” ([10]).
ففي الصحيحين، قال العَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ؟ قَالَ: «هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ([11]) مِنْ نَارٍ، وَلَوْلاَ أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ».
أما سائر الكفرة فقد قال الله تعالى فيهم: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ﴾ [فاطر: 36].
الدعاء للكافر بما حرمه الله عليه يفض بصاحبه إلى الكفر!!
قال القرافي رحمه الله –في الدعاء الذي يصل بصاحبه إلى الكفر بالله-: “فَاَلَّذِي يَنْتَهِي لِلْكُفْرِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَطْلُبَ الدَّاعِي نَفْيَ مَا دَلَّ السَّمْعُ الْقَاطِعُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى ثُبُوتِهِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ:
الْأَوَّلُ:
أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ لَا تُعَذِّبْ مَنْ كَفَرَ بِك أَوْ اغْفِرْ لَهُ، وَقَدْ دَلَّتْ الْقَوَاطِعُ السَّمْعِيَّةُ عَلَى تَعْذِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِمَّنْ مَاتَ كَافِرًا بِاَللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ [النساء: 48] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ فَيَكُونُ ذَلِكَ كُفْرًا؛ لِأَنَّهُ طَلَبٌ لِتَكْذِيبِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ وَطَلَبُ ذَلِكَ كُفْرٌ فَهَذَا الدُّعَاءُ كُفْرٌ.
الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ لَا تُخَلِّدْ فُلَانًا الْكَافِرَ فِي النَّارِ، وَقَدْ دَلَّتْ النُّصُوصُ الْقَاطِعَةُ عَلَى تَخْلِيدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ فَيَكُونُ الدَّاعِي طَالِبًا لِتَكْذِيبِ خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ دُعَاؤُهُ كُفْرٌ”([12]).
رب صل وسلم على نبينا محمد.
————————————-
[1] / معالم التنزيل (2/ 157).
[2] / زاد المسير (2/ 160).
[3] / تفسير الطبري (13/ 157).
[4] / النكت والعيون (2/ 267).
[5] / تفسير القرآن العظيم (3/ 483).
[6] / الوجيز للواحدي، ص(416).
[7] / التفسير الميسر، ص(118).
[8] / تفسير الطبري (13/ 157).
[9] / تفسير الطبري (13/ 157).
[10] / فتح الباري لابن حجر (7/ 196).
[11] / الضحضاح ما رق من الماء على وجه الأرض إلى نحو الكعبين واستعير في النار.
[12] / الفروق للقرافي (4/ 260).
