غير مصنف

فقه البر!

بسم الله الرحمن الرحيم

فقه البر

مهران ماهر عثمان

 

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، فهذه عشر مسائل مهمة تتعلق ببر الوالدين، يكثر السؤال عنها.

(1)

ضابط مهم

قال ابن دقيق العيد رحمه الله : “فلا يجب على الولد طاعتهما في كل ما يأمران به، ولا في كل ما ينهيان عنه باتفاق العلماء” [إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (2/296)].

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: “ويلزم الإنسان طاعة والديه في غير المعصية، وإن كانا فاسقين … وهذا فيما فيه منفعة لهما ولا ضرر عليه” [الأخبار العلمية من الاختيارات الفقهية للبعلي ص/170].

(2)

هل تجب طاعة الوالد الكافر؟

قال ابن حزم رحمه الله: “اتفقوا على أن بر الوالدين فرض” [الإجماع].

وأما الكافر، فقد قال ابن مفلح رحمه الله: “قال في (المستوعب) ومن الواجب بر الوالدين وإن كانا فاسقين، وطاعتهما في غير معصية الله تعالى، فإن كانا كافرين فليصاحبهما في الدنيا معروفا، ولا يطعهما في كفر ولا في معصية” [الآداب الشرعية 1/ 465].

(3)

طاعة الوالد في ترك المندوبات

تقدم طاعة الوالد على فعل المندوب المعين إذا كان في ذلك نفع لهما، ويدل لهذا حديث جريج في مسلم.

وأما إذا أمرا بترك المندوبات بالكلية كترك التنفل مطلقاً فقد سئل الإمام أحمد رحمه الله عن رجل أمره أبواه أن لا يصلي إلا المكتوبة فقال “يداريهما ويصل” [غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب 1 / 384].

(4)

لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق

قال تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [العنكبوت: 8].

وهذه نزلت في سعد بن أبي وقاص فيما روى الترمذي قال: “أنزلت في أربع آيات فذكر قصة، فقالت أم سعد: أليس قد أمر الله بالبر! والله لا أطعم طعاما، ولا أشرب شرابا حتى أموت أو تكفر، قال: فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها فنزلت هذه الآية: ﴿ووصينا الإنسان بوالديه حسنا﴾. الآية قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وروي عن سعد أنه قال: كنت باراً بأمِّي فأسلمت، فقالت: لتدعن دينك أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعير بي، ويقال يا قاتل أمه، وبقيت يوما ويوما فقلت: يا أماه! لو كانت لك مائة نفس، فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا فإن شئت فكلي، وإن شئت فلا تأكلي، فلما رأت ذلك أكلت” [تفسير القرطبي 13/ 328].

وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» رواه أحمد.

وفي البخاري، عن علي رضي الله عنه، قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية فاستعمل رجلا من الأنصار وأمرهم أن يطيعوه، فغضب، فقال: أليس أمركم النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: فاجمعوا لي حطبا، فجمعوا، فقال: أوقدوا نارا، فأوقدوها، فقال: ادخلوها، فهموا وجعل بعضهم يمسك بعضا، ويقولون: فررنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من النار، فما زالوا حتى خمدت النار، فسكن غضبه، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة، الطاعة في المعروف».

(5)

أطع أباك ولا تعص أمك!

هذه قالها الإمام مالك رحمه الله.

ففي [الموسوعة الفقهية 8/ 68]: ” فإن تعارضا فيه, بأن كان في طاعة أحدهما معصية الآخر. فإنه ينظر:

إن كان أحدهما يأمر بطاعة والآخر يأمر بمعصية, فإن عليه أن يطيع الآمر بالطاعة منهما دون الآمر بالمعصية, فيما أمر به من معصية. لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»، وعليه أن يصاحبه بالمعروف للأمر بذلك في قوله تعالى: ﴿وصاحبهما في الدنيا معروفا﴾، وهي وإن كانت نزلت في الأبوين الكافرين, إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

أما إن تعارض برهما في غير معصية, وحيث لا يمكن إيصال البر إليهما دفعة واحدة, فقد قال الجمهور: طاعة الأم مقدمة ; لأنها تفضل الأب في البر.

وقيل: هما في البر سواء, فقد روي أن رجلا قال لمالك: والدي في السودان, كتب إلي أن أقدم عليه, وأمي تمنعني من ذلك, فقال له مالك: أطع أباك ولا تعص أمك! يعني: أنه يبالغ في رضى أمه بسفره لوالده, ولو بأخذها معه, ليتمكن من طاعة أبيه وعدم عصيان أمه”.

(6)

منع الوالد ولده من الزواج

قال الإمام أحمد: إن كان الرجل يخاف على نفسه ووالداه يمنعانه من التزوج فليس لهم ذلك. وقال له رجل: لي جارية وأمي تسألني أن أبيعها؟ قال: تتخوف أن تتبعها نفسك؟ قال: نعم. قال: لا تبعها. قال: إنها تقول لا أرضى عنك أو تبيعها؟ قال: إن خفت على نفسك فليس لها ذلك.[الآداب الشرعية والمنح المرعية (1/448)].

(7)

هل يطاع الوالد في تطليق الزوجة؟

في مسند أحمد، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: كانت تحتي امرأة، كان عمر يكرهها فقال: طلقها، فأبيت، فأتى عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أطع أباك».

وفي [الآداب الشرعية والمنح المرعية 1/ 447] “سأل رجل أبا عبد الله فقال: إن أبي يأمرني أن أطلق امرأتي؟ قال: لا تطلقها. قال: أليس عمر أمر ابنه عبد الله أن يطلق امرأته؟ قال: حتى يكون أبوك مثل عمر”.

وقال ابن مفلح رحمه الله: “وقد قال الشيخ تقي الدين فيمن تأمره أمه بطلاق امرأته قال: لا يحل له أن يطلقها، بل عليه أن يبرها، وليس تطليق امرأته من برها” [الآداب الشرعية والمنح المرعية 1/ 447].

فإن كان الباعث لأمر الوالد أمرا شرعيا، كحرام تقع هذه المرأة فيه، أو واجب قصر فيه ابنه بسببها، فله أن يأمره، وتجب طاعته إن تعذر إصلاح نفسه أو زوجه.

ولهذا أمر الخليل إسماعيل عليهما سلام الله بطلاق زوجته.

ففي صحيح البخاري، «جاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تَرِكته، فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت نحن بشر، نحن في ضيق وشدة، فشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، وقولي له يغير عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئا، فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك فأخبرته، وسألني كيف عيشنا، فأخبرته أنا في جهد وشدة، قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول غير عتبة بابك، قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك، الحقي بأهلك، فطلقها، وتزوج منهم أخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم أتاهم بعد فلم يجده، فدخل على امرأته فسألها عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا، قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بخير وسعة، وأثنت على الله، فقال: ما طعامكم؟ قالت اللحم، قال فما شرابكم؟ قالت الماء. قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء».

وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر، ولا ضرار» رواه الدارقطني.

(8)

والده يريده أن يلتحق بمجال دراسي لا يرغب فيه

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: “لو قالا له: لا تأكل من هذا الطعام، لا تأكل لحماً، لا تأكل أرزاً، لا تأكل الشيء المعين، وهو مما يشتهيه، فلا يلزمه طاعتهما في ذلك؛ لأنه لا مصلحة لهما في ، وفيه ضررٌ عليه لفوات محبوبه” [لقاء الباب المفتوح (6/49) بترقيم الشاملة].

(9)

هل يطيع أمه في منعها من صلة رحمه؟

فقد تقع خصومة بينه أمه وعمته، فتمنعه من زيارتها وزيارة أولاد عمومته، فهل يطيعها؟

الجواب: تحرم طاعتها، وتشرع مداراتها، والمداراة: الملاينة والملاطفة.

(10)

نصح الوالد بر وليس عقوقا

قال تعالى عن خليله عليه السلام: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾ [مريم: 41 – 45].

رب صل وسلم على نببينا محمد.

 


شارك المحتوى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *