مقالات

دفاع عن أنبياء الله

بسم الله الرحمن الرحيم

دفاع عن أنبياء الله

مهران ماهر عثمان

الحمد لله والصلاة والسلام على أنبياء الله، أما بعد؛

فإذا كان الذب عن عرض مؤمن من أسباب النجاة من النار، فكيف بالذبِّ عن أنبياء الله تعالى، عليهم سلام الله.

وهذا مقال كتبته للرد على شبهات بعض أهل الإلحاد، فأقول مستعينا بالله:

دفاع عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم

قال تعالى: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ [الأحزاب: 37].

تفسير الآية:

وإذ تقول -أيها الرسول- للذي أنعم الله عليه بنعمة الإسلام، وأنعمت عليه أنت بالعتق -والمقصود زيد بن حارثة – رضي الله عنهما – حين جاءك مشاورًا في شأن طلاق زوجته زينب بنت جحش- تقول له: أمسك عليك زوجتك ولا تطلّقها، واتق الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وتكتم في نفسك -أيها الرسول- ما أوحى الله به لك من زواجك بزينب خشية من الناس والله سيظهر طلاق زيد لها ثم زواجك منها والله أولى أن تخشاه في هذا الأمر، فلما طابت نفس زيد ورغب عنها وطلّقها زوجناكها؛ لكي لا يكون على المؤمنين إثم في التزوج بزوجات أبنائهم بالتبني إذا طلقوهن وانقضت عدّتهنّ، وكان أمر الله مفعولًا لا مانع منه، ولا حائل دونه.

ذب عن الجناب النبوي:

القول بأن نبينا صلى الله عليه وسلم أخفى في نفسه أمر حبه لزينب! هذه إساءة له.

قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله:

“التحقيق إن شاء اللَّه في هذه المسألة: هو ما ذكرنا أن القرآن دلَّ عليه، وهو أن اللَّه أعلم نبيّه صلى الله عليه وسلم بأن زيداً يطلّق زينب، وأنه يزوّجها إيّاه صلى الله عليه وسلم، وهي في ذلك الوقت تحت زيد ، فلما شكاها زيد إليه صلى الله عليه وسلم قال له: ﴿أمسك عليك زوجك واتق اللَّه﴾، فعاتبه اللَّه على قوله: ﴿أمسك عليك زوجك﴾ بعد علمه أنها ستصير زوجته هو صلى الله عليه وسلم، وخشي مقالة الناس أن يقولوا: لو أظهر ما علم من تزويجه إياها أنه يريد تزويج زوجة ابنه في الوقت الذي هي فيه في عصمة زيد.

وهاك دليلين على ذلك:

الأول:

هو ما قدّمنا من أن اللَّه جلَّ وعلا قال: ﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ﴾، وهذا الذي أبداه اللَّه جلَّ وعلا، هو زواجه إياها في قوله: ﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا﴾، ولم يبدِ جلَّ وعلا شيئًا ممّا زعموه أنه أحبَّها، ولو كان ذلك هو المراد: لأبداه اللَّه تعالى، كما ترى.

الثاني:

أن اللَّه جلَّ وعلا صرّح بأنه هو الذي زوّجه إياها، وأن الحكمة الإلهية في ذلك التزويج هي قطع تحريم أزواج الأدعياء في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ﴾، فقوله تعالى: ﴿لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ﴾ تعليل صريح لتزويجه إياها، لما ذكرنا ، وكون اللَّه هو الذي زوّجه إياها لهذه الحكمة العظيمة صريح في أن سبب زواجه إياها ليس هو محبّته لها التي كانت سبباً في طلاق زيد لها – كما زعموا ، ويوضحه قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً﴾ الآية؛ لأنه يدلّ على أن زيداً قضى وطره منها، ولم تبقَ له بها حاجة، فطلّقها باختياره ، والعلم عند اللَّه تعالى” [أضواء البيان ج6/ص582-583].

 

ومما يتعلق بنبينا صلى الله عليه وسلم

أن بعض الناس قد يفهم هذه الآية: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾ [سورة الضحى: 7]، فهماً خاطئاً!

فلا ينبغي أن يظن عاقل أن الضلال هنا بمعنى الانحراف.

بل المعنى:

وَوَجَدَكَ ضالًّا عن مَعْرِفَةِ الدِّين، فهداكَ إليه؛ كما قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ﴾ [الشورى: 52].

والضلالُ يطلق على عدة معان:

1 – فتارةً يُطلقُ على الكفر، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ [النساء: 136] .

2 – وتارة يُطلقُ على الشرك، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ [النساء: 116] .

3 – وتارة يُطلقُ على المخالفة التي هي دون الكفر، كما يقال: الفرق الضالة: أي المخالفة.

4 – وتارة يُطلق على الخطأ، ومنه قولُ موسى عليه السلام: ﴿فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ﴾ [الشعراء: 20] .

5 – وتارةً يُطلقُ على النسيان، ومنه قوله تعالى: ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ [البقرة: 282] .

6- ويُطلقُ الضلالُ على الضياع، ومنه: ضالة الإبل.

 

دفاع عن نبي الله داود عليه السلام

تناولت بعض الصحف السودانية يوم الأربعاء 29/10/2008 م  قصة نبي الله داود عليه السلام مع الخصمين ، ونقلت ما جاء في بعض كتب التفسير مما لا يليق بوليٍّ من الصالحين ، فضلاً عن نبي كريم ، فكان لزاماً عليَّ أن أذبّ عن عرض هذا النبي الكريم ، عليه وعلى نبينا أفضل صلاة وأتم تسليم ..

آيات القصة  :

قال تعالى :﴿ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ * يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ [ص (21-26)] .

معنى الآيات :

جاء في التفسير الميسر  :” هل جاءك -أيها الرسول- خبر المتخاصِمَين الذَيْن تسوَّرا على داود في مكان عبادته، فارتاع من دخولهما عليه؟ قالوا له: لا تَخَفْ، فنحن خصمان ظلم أحدنا الآخر، فاقض بيننا بالعدل، ولا تَجُرْ علينا في الحكم، وأرشِدنا إلى سواء السبيل.

قال القرطبي رحمه الله في تفسيره (15/ 165) : “وتسوروا أتوه من أعلى سوره … وقيل: ﴿تسوروا﴾ وإن كانا اثنين حملاً على الخصم إذ كان بلفظ الجمع “.

﴿إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾

قال أحدهما: إن هذا أخي له تسع وتسعون من النعاج، وليس عندي إلا نعجة واحدة، فطمع فيها، وقال: أعطنيها، وغلبني بحجته  .

﴿ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ﴾

قال داود: لقد ظلمك أخوك بسؤاله ضم نعجتك إلى نعاجه، وإن كثيرًا من الشركاء ليعتدي بعضهم على بعض، ويظلمه بأخذ حقه وعدم إنصافه مِن نفسه إلا المؤمنين الصالحين، فلا يبغي بعضهم على بعض، وهم قليل. وأيقن داود أننا فتنَّاه بهذه الخصومة، فاستغفر ربه، وسجد تقربًا لله، ورجع إليه وتاب.

وقوله تعالى : ﴿ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ قال السدي رحمه الله :” لهم عذاب شديد بما تركوا أن يعملوا ليوم الحساب” [تفسير القرآن لابن كثير (7/63)] .

فما هي المعصية المشار إليها ؟

بعض السلف آثر رد علم ذلك إلى الله بعدم الخوض فيها ؛ لأنها لم تأت في حديث ولا أثر صحيح .

قال ابن كثير رحمه الله :” فالأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة ، وأن يرد علمها إلى الله عز وجل” [تفسير ابن كثير (7/60)] .

وقال بعضهم : الذنب المشار إليه أنهما لما تسورا المحراب ظن أنهما أرادا سوء به ، فاستغفر من هذا الظن .

والله تعالى أعلم .

أمر آخر يتعلق بنبي الله داود عليه السلام

زعم بعضهم أنّ داود عليه السلام نظر إلى امرأة فأُعجب بها وكان لها زوج، فأرسل زوجها إلى معركة فمات فتزوجها !! فأُرسل إليه ملكان ، وبذكرهما للنعاج علم خطأه ، فلقد كان له تسع وتسعون امرأة فكيف يطمع في زوجة غيره .

وإني لأُشهد الله أنّ هذه القصة لا تثبت ، وهذه أدلتي:

الدليل الأول أقوال المفسرين :

قال الشنقيطي رحمه الله:

“واعلم أن ما يذكره كثيرٌ من المفسرين في تفسير هذه الآية الكريمة- مما لا يليق بمنصب داود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- كله راجع إلى الإسرائيليات، فلا ثقة به، ولا معوّل عليه، وما جاء منه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يصح منه شيء” [أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن(6/339)].

وقال ابن كثير رحمه الله : ” ذكر المفسرون هاهنا قصة أكثرها مأخوذة من الإسرائيليات ، ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه ، ولكن روى ابن أبي حاتم هنا حديثا لا يصح سنده ؛ لأنه من رواية يزيد الرقاشي عن أنس رضي الله عنه ، ويزيد وإن كان من الصالحين لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة” [تفسير القرآن العظيم (4/32)] .

وقال الإمام  القرطبي المالكي رحمه الله :

” قال القاضي ابن العربي: أما قول من قال: إنه حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع من الآخر فلا يجوز على الأنبياء، وكذلك تعريض زوجها للقتل. وأما من قال: إنه نظر إليها حتى شبع فلا يجوز ذلك عندي بحال؛ لأن طموح النظر لا يليق بالأولياء المتجردين للعبادة، فكيف بالأنبياء الذين هم وسائط الله المكاشفون بالغيب!” [الجامع لأحكام القرآن (15 /181)] .

وقال السيد طنطاوي :” قال أبو حيان ما ملخصه – بعد أن ذكر جملة من الآراء – : والذي أذهب إليه ما دل عليه ظاهر الآية من أن المتسورين للمحراب كانوا من الإِنس ، دخلوا عليه من غير المدخل ، وفي غير وقت جلوسه للحكم وأنه فزع منهم ظاناً أنهم يغتالونه ، إذ كان منفردا في محرابه لعبادة ربه ، فلما اتضح له أنهم جاءوا في حكومته ، وبرز منهم اثنان للتحاكم ، وأن ما ظنه غير واقع ، استغفر من ذلك الظن ، حيث اختلف ولم يقع مظنونه ، وخر ساجدا منيبا إلى الله – تعالى – فغفر الله له ذلك الظن ، ولذلك أشار بقوله: ﴿فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ﴾  ولم يتقدم سوى قوله – تعالى – : ﴿وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ﴾ ويعلم قطعا أن الأنبياء معصومون من الخطايا ، ولا يمكن وقوعهم في شيء منها ، ضرورة أننا لو جوزنا عليهم شيئا من ذلك لبطلت الشرائع ، ولم نثق بشيء مما يذكرون أنه أوحى الله به إليهم ، فما حكى الله – تعالى – في كتابه  يمر على ما أراده – تعالى – ، وما حكى القصاص مما فيه غض من منصب النبوة ، طرحناه ” [الوسيط (1/3613)] .

وقال القطان في تيسير التفسير (ج 3 / ص 161) :” نقل كثير من المفسرين ما جاء في التوراة ، من أنَّ داود كان يحب امرأة أُوريا ، وأنه أرسله إلى الحرب حتى قُتل ثم تزوجها ، ولم يثبت عندنا في الأثرِ شيء من هذا ، ولذلك يجب أن نكون على حذر من هذه الأمور ، فإنَّ التوراة قد حُرِّفت من الدفة إلى الدفة كما يقول (لوثر) وغيره ، وكما نص القرآن الكريم “.

ويقول سيد قطب رحمه الله في ظلاله (6/209) :” وخاضت بعض التفاسير مع الإسرائيليات حول هذه الفتنة خوضاً كبيراً . تتنزه عنه طبيعة النبوة ، ولا يتفق إطلاقاً مع حقيقتها . حتى الروايات التي حاولت تخفيف تلك الأساطير سارت معها شوطاً ، وهي لا تصلح للنظر من الأساس . ولا تتفق مع قول الله تعالى : ﴿وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب﴾”.

ولقد تركت من أقوال المفسرين أضعاف ما ذكرت ؛ فإنَّ فيه لغُنية.

الثاني :

ومما يدل على كذب هذه القصة قول الله تعالى في سورة النساء :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)﴾ ..

فدلت الآية على أنّ حضور المعركة لا يدني من أجل ، والتخلفَ عنها لا يمد في عمر ، فالآجال مقدرة مكتوبة قبل أن يخلق الله السماوات والأرض بخمسين ألف سنة كما أخبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .. أفلا يعلم نبي الله داود عليه السلام بذلك حتى نزعم أنه أرسله للمعركة ليموت ؟؟! سبحانك هذا بهتان عظيم .

إن المنافق هو الذي يخفى عنه ذلك، قال تعالى :﴿ الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [آل عمران: 168] .

الثالث:

قال القرطبي رحمه الله :” وحكى السُّدِّيُّ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لو سمعت رجلاً يذكر أن داود عليه السلام قارف من تلك المرأة محرماً لجلدته ستين ومائة؛ لأن حد قاذف الناس ثمانون ، وحد قاذف الأنبياء ستون ومائة ذكره الماوردي والثعلبي أيضا.” [الجامع لأحكام القرآن (15 /181)] .

الرابع :

قول الله تعالى : ﴿يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض؛ فاحكم بين الناس بالحق . ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله . إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد . بما نسوا يوم الحساب﴾ يدل عل أنّ الأمر متعلق بمسألة الحكم ، قال في الظِّلال :” والتعقيب القرآني الذي جاء بعد القصة يكشف كذلك عن طبيعة الفتنة؛ ويحدد التوجيه المقصود بها من الله لعبده الذي ولاه القضاء والحكم بين الناس … ومن رعاية الله لعبده داود ، أنه نبهه عند أول لفتة،  ورده عند أول اندفاعة ، وحذره النهاية البعيدة  -وهو لم يخط إليها خطوة – وذلك فضل الله على المختارين من عباده ،  فهم ببشريتهم قد تعثر أقدامهم أقل عثرة ، فيقيلها الله ، ويأخذ بيدهم ، ويعلمهم ، ويوفقهم إلى الإنابة ، ويغفر لهم ، ويغدق عليهم ، بعد الابتلاء ” .

لله دره ، ما أحسن كلامه !

دفاع عن نبي الله يوسف عليه السلام

قال تعالى عن نبيه يوسف عليه السلام: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ [يوسف: 24].

والسؤال: هل همَّ يوسف عليه السلام بما همت به المرأة؟

لا يصح أبداً ما قاله بعض المفسرين في تأويل هذه الآية، قال ابن تيمية رحمه الله: “وأما ما ينقل من أنه حلَّ سراويله، وجلس مجلس الرجل من المرأة، وأنه رأى صورة يعقوب عاضاً على يده وأمثال ذلك، فكلُّه مما لم يخبر الله به ولا رسوله، وما لم يكن كذلك فإنما هو مأخوذ عن اليهود، الذين هم من أعظم الناس كذباً على الأنبياء وقدحاً فيهم، وكل من نقله من المسلمين فعنهم نقله لم ينقل من ذلك أحد عن نبينا صلى الله عليه وسلم حرفاً واحداً” [مجموع الفتاوى 10/297].

وما أجمل ما قال الرازي رحمه الله: ” هَؤُلَاءِ الْجُهَّالُ الَّذِينَ نَسَبُوا إِلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذِهِ الْفَضِيحَةَ إِنْ كَانُوا مِنْ أَتْبَاعِ دِينِ اللَّه تَعَالَى فَلْيَقْبَلُوا شَهَادَةَ اللَّه تَعَالَى عَلَى طَهَارَتِهِ وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَتْبَاعِ إِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ فَلْيَقْبَلُوا شَهَادَةَ إِبْلِيسَ عَلَى طَهَارَتِهِ” [التفسير الكبير 18/441].

وذلك لأن الله تعالى شهد ببراءته فقال: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ [يوسف: 24].

وأما شهادة إبليس التي أشار الرازي إليها ففي قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ [الحجر: 39، 40]، ويوسف عليه السلام من المخلصين الذي أعلن إبليس أنه لا حيلة له في إغوائهم، ولا سبيل إليهم.

فما معنى الآية؟

في ذلك قولان:

القول الأول للرازي رحمه الله في التفسير الكبير (18/441)

أن لولا تقدم خبرها عليها، فلم يقع همٌّ من نبي الله يوسف عليه السلام، والتقدير: لولا أن رأى برهان ربه لهم بها، أي: لم يقع ذلك الهم منه، كما يقال: قد كنت من الهالكين لولا أن فلانا خلصك.

القول الثاني لأبي حيان في البحر المحيط (6/257-258)

قال رحمه الله: ” طَوَّلَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ هَذَيْنِ الْهَمَّيْنِ، وَنَسَبَ بَعْضُهُمْ لِيُوسُفَ مَا لَا يَجُوزُ نِسْبَتَهُ لِآحَادِ الْفُسَّاقِ. وَالَّذِي أَخْتَارُهُ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ هَمٌّ بِهَا الْبَتَّةَ، بَلْ هُوَ مَنْفِيٌّ لِوُجُودِ رُؤْيَةِ الْبُرْهَانِ كَمَا تَقُولُ: لَقَدْ قَارَفْتَ لَوْلَا أَنْ عَصَمَكَ اللَّهُ، وَلَا تَقُولُ: إِنَّ جَوَابَ لَوْلَا مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَ لَا يَقُومُ دَلِيلٌ عَلَى امْتِنَاعِ ذَلِكَ … بَلْ نَقُولُ: إَنَّ جَوَابَ لَوْلَا مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، كَمَا تَقُولُ جُمْهُورُ الْبَصْرِيِّينَ فِي قَوْلِ الْعَرَبِ: أَنْتَ ظَالِمٌ إِنْ فَعَلْتَ، فَيُقَدِّرُونَهُ إِنْ فَعَلْتَ فَأَنْتَ ظَالِمٌ، وَلَا يَدُلُّ قَوْلُهُ: أَنْتَ ظَالِمٌ عَلَى ثُبُوتِ الظُّلْمِ، بَلْ هُوَ مُثْبَتٌ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِ الْفِعْلِ. وَكَذَلِكَ هُنَا التَّقْدِيرُ لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ لَهُمْ بِهَا”.

وهذا هو الذي استظهره العلامة المحقق الشنقيطي رحمه الله بقوله: “هذا الوجه الذي اختاره أبو حيان وغيره هو أجرى الأقوال على قواعد اللغة العربية ; لأن الغالب في القرآن وفي كلام العرب: أن الجواب المحذوف يذكر قبله ما يدل عليه، كقوله: ﴿فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين﴾، أي: إن كنتم مسلمين فتوكلوا عليه، فالأول: دليل الجواب المحذوف لا نفس الجواب; لأن جواب الشروط وجواب لولا لا يتقدم، ولكن يكون المذكور قبله دليلا عليه، وكقوله: ﴿قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين﴾، أي: إن كنتم صادقين فهاتوا برهانكم. وعلى هذا القول: فمعنى الآية: وهم بها لولا أن رأى برهان ربه، أي لولا أن رآه هم بها، فما قبل لولا هو دليل الجواب المحذوف، كما هو الغالب في القرآن واللغة. ونظير ذلك قوله تعالى: ﴿إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها﴾، فما قبل لولا دليل الجواب، أي: لولا أن ربطنا على قلبها لكادت تبدي به.

واعلم أن جماعة من علماء العربية أجازوا تقديم جواب، وتقديم الجواب في سائر الشروط، وعلى هذا القول يكون جواب لولا في قوله: ﴿لولا أن رأى برهان ربه﴾، هو ما قبله من قوله: ﴿وهم بها﴾، وإلى جواز التقديم المذكور ذهب الكوفيون، ومن أعلام البصريين: أبو العباس المبرد، وأبو زيد الأنصاري” [أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (2/ 208-209)].

دفاع عن الخليل عليه السلام

قال تعالى –وقوله الحق- : ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: 260].

والسؤال: هل شكَّ الخليل عليه السلام في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى!؟

والجواب:

لم يقع شك من الخليل عليه السلام أبداً، وكيف يشك في ذلك نبيٌّ، والله تعالى يقول: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: 124].

فقول الخليل عليه السلام: ﴿ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى﴾، دليل على إيمانه بأن الله تعالى يحي الموتى، وإنما سأل الله تعالى أن يريه ذلك؛ لينتقل من علم اليقين إلى عين اليقين. وفرق كبير بين ﴿أرني كيف تحي الموتى﴾، وبين: هل تقدر على أن تحي الموتى!!؟

ولذا ثبت في الصحيحين، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: 260]».

ومعنى الحديث: إذا كنتُ لا أشك أبداً في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، فكيف يشك إبراهيم الخليل عليه السلام؟!

أمر آخر يتعلق بالخليل عليه السلام

قال تعالى عن الخليل عليه السلام: ﴿فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ﴾ [الصافات: 89]، وقال عنه: ﴿قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا﴾ [الأنبياء: 63].

فهل كذب الخليل عليه السلام؟

الجواب: لا. وحاشا أن يكذب نبي من أنبياء الله.

أما قوله: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾، فقد كان يعاني من شيء من الحمّى [شرح النووي على مسلم 15/125].

وأما قوله: ﴿فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا﴾، فقد قال “ابن قُتَيْبَةَ وَطَائِفَةٌ جَعَلَ النُّطْقَ شَرْطًا لِفِعْلِ كَبِيرِهِمْ، أَيْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ” [شرح النووي على مسلم 15/125].

وأما قوله عن سارة عليها السلام: أختي، فالمراد أنها أخته في الإسلام، فلم يكن في الأرض مؤمن سواهما.

فإن قيل: إذا ثبت أن الخليل عليه السلام لم يكذب، فما معنى حديث الصحيحين: «لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ»؟

فالجواب: أن “مَعْنَاهُ أَنَّ الْكَذَبَاتِ الْمَذْكُورَةَ إِنَّمَا هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى فَهْمِ الْمُخَاطَبِ وَالسَّامِعِ وَأَمَّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَلَيْسَتْ كَذِبًا” [شرح النووي على مسلم 15/124]. وهذا هو التعريض، وإن في المعاريض لمندوحةً عن الكذب.

والمِعراض: لفظ له معنيان؛ قريب وبعيد، ويراد به البعيد منهما.

ولذا قال نبينا صلى الله عليه وسلم عن كذباته هذه: «كلها في ذات الله» أخرجه أبو يعلى، وللترمذي: «مَا مِنْهَا كَذِبَةٌ إِلَّا مَا حَلَ بِهَا عَنْ دِينِ» أي : جادل بها عن دين الله.

أفيدافع عن دين الله تعالى بما حرم الله؟ فهذا يدل على أن لك يكذب، وإنما سمي كذباً لأن السامع فهم منه غير مراده.

وأمر ثالث

قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 75-79].

معنى الآيات

وكما أريناه ضلال أبيه وقومه –وهذا مذكور في الآيات السابقة- نريه ملك السماوات والأرض الواسع؛ ليستدل بذلك الملك الواسع على وحدانية الله واستحقاقه العبادة وحده؛ ليكون من الموقنين بأن الله واحد لا شريك له، وأنه قادر على كل شيء. وقد قيل: كانت الإراءة بعين البصر، وقيل: بعين البصيرة.

فحين أظلم عليه الليل، رأى كوكبًا، فقال: هذا ربي، فلما غاب الكوكب قال: لا أحب من يغيب؛ لأن الإله الحق حاضر لا يغيب.

وحين رأى القمر طالعًا قال: هذا ربي، فلما غاب قال: لئن لم يوفقني الله لتوحيده وعبادته وحده لأكونن من القوم البعيدين عن دينه الحق.

وحين رأى الشمس طالعة قال: هذا الطالع ربي، هذا الطالع أكبر من الكوكب ومن القمر، فلما غابت قال: يا قوم، إني بريء مما تشركون مع الله.

ولما تبرأ مما يعبدون من دون الله كأنهم سألوه: ما تعبد إذن؟ فقال:

إني أخلصت ديني للذي خلق السماوات والأرض على غير مثال سابق، مائلًا عن الشرك إلى التوحيد الخالص، ولست من المشركين الذين يعبدون معه غيره.

وهذا مقام مناظرة لا مقام نظر.

قال ابن كثير رحمه الله: “وَالْحَقُّ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَانَ فِي هَذَا الْمَقَامِ مُنَاظِرًا لِقَوْمِهِ، مُبَيِّنًا لَهُمْ بُطْلَانَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْهَيَاكِلِ وَالْأَصْنَامِ” [تفسير ابن كثير 3/292].

ولذلك دليلان ذكرهما الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان (1/486)، وهما:

الأول:

أن الله تعالى نَفَى كونَ الشرك الماضي عن الخليل عليه السلام بقوله عنه: ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾، في البقرة، وآل عمران في موضعين، وفي موضعين في الأنعام، وفي النحل، ونفى ذلك عنه ذلك بقوله: ﴿وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل: 120]، في النحل.

وَنَفْيُ الْكَوْنِ الْمَاضِي يَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ الزَّمَنِ الْمَاضِي، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ عَلَيْهِ شِرْكٌ يَوْمًا مَا.

الثاني:

أن ربنا أورد مناظرته لقومه بعد قوله: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾، قال بعدها: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي﴾، والعطف بالفاء يدل على الترتيب كما لا يخفى. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ مُوقِنًا مُنَاظِرًا وَمُحَاجًّا لَهُمْ.

واليقين: العلمُ الذي لا تَتَطَرَّقُ إليه الشكوكُ والأوهامُ، لا يقبلُ التغيرَ بحالٍ.

 

نوح ولوط عليهما السلام

قال تعالى: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ﴾ [التحريم: 10].

وقال: ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ [هود:45- 46].

فهل معنى ذلك أن امرأة نوح كانت زانية؟

الجواب:

عن ابن عباس رضي الله عنهما: “ما بغت امرأة نبي قط” [تفسير الطبري 15/343].

فما معنى أنه ليس من أهله؟

قال ابن عباس رضي الله عنهما: “ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك” [تفسير الطبري 15/343].

فما معنى ﴿فخانتاهما﴾؟

عن ابن عباس رضي الله عنهما: “قوله: ﴿فَخَانَتَاهُمَا﴾، قال: كانت امرأة نوح تقول للناس: إنه مجنون. وكانت امرأة لوط تَدُل على الضيف” [تفسير الطبري 23/497].

وقد قال سبحانه: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 27].  قال البغوي رحمه الله: “لَا تَخُونُوا اللَّهَ بِتَرْكِ فَرَائِضِهِ وَالرَّسُولَ بِتَرْكِ سُنَّتِهِ” [تفسير البغوي تفسير البغوي 3/348].

 

دفاع عن نبي الله لوط عليه السلام

قال سبحانه: ﴿وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ [هود: 77 – 80].

وقال سبحانه: ﴿وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [الحجر: 67، 72]

لا ينبغي لعاقل أن يظن أن لوطاً عليه أرشدهم إلى بناته لقضاء وطرهم معهن! وهل يُعقل أن يبعث الله نبياً دَيُّوثاً يقر السوء في أهله!

وكيف يعقل أن نبياً يأمر بالفاحشة! ففعل قومه فاحشة، ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: 80]. والزنا فاحشة، ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ ﴾ [النساء: 15]، فكيف ينهى عن واحدة ويأمر بالثانية!!؟

وولا يصح أن يقال: إن المراد: أنه أراد أن يزوجهن بناته! فيكون المعنى: دعوا فاحشة اللواط وأزوجكم بناتي؛ إذ كيف يرضى نبي أن يزوج ابنته من كافر فاسق!!؟

والصحيح أن المراد بقوله: ﴿بناتي﴾: أزواجهم؛ فالنبي كالأب لأمته، فأرشدهم إلى الاكتفاء بما عندهم مما أحل الله لهم.

ولذلك دليلان من القرآن:

الأول:

قوله تعالى: ﴿أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ﴾ [الشعراء: 165، 166].

والثاني:

قوله: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ [الأحزاب: 6]، فإذا كانت زوجاته أمهاتٍ للمؤمنين، فهو كالأب لهم، وهذا حال كل نبي مع قومه.

وأما قولهم لنبيهم: ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ﴾، أي: لقد علمتَ من قبلُ أنه ليس لنا في النساء من حاجة أو رغبة.

 

دفاع عن نبي الله سليمان عليه السلام

قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ﴾ [سورة ص، الآية: (34)].

القول بأن المراد: أن شيطاناً خدع سليمان عليه السلام وأخذ خاتمه وجلس على كرسيه لأربعين يوماً يحكم بدلاً عنه سفهٌ يجب أن تُنَزَّهَ عنه كتبُ تفاسيرَ كلامِ ربِّ العالمين.

قال الشنقيطي رحمه الله: “لَا يَخْفَى أَنَّهُ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِمَقَامِ النُّبُوَّةِ” [أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (3/ 254)]

وهذه الآية فسرها لنا نبينا صلى الله عليه وسلم، فأي عاقل يترك قوله لقول المفترين من أهل الكتاب!؟

ثبت في الصحيحين، عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ، فَطَافَ بِهِنَّ فَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ نِصْفَ إِنْسَانٍ. وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ دَرْكًا لِحَاجَتِهِ».

وفي أدب القرآن: ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الكهف: 23، 24].

رب صل وسلم على نبينا محمد، وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين.

 

شارك المحتوى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *