مقالات

جبر الخاطر

بسم الله الرحمن الرحيم

جبر الخاطر

مهران ماهر عثمان

27 ذو الحجة 1436هـ

مسجد السلام بالطائف 22

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛

فما من شيء يعدل في ميزان الحسنات حسن الخلق، وهذه ثلاثة أحاديث تذكر بمكانته:

الأول:

عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم» رواه أبو داود.

الثاني:

عن أبي الدرداء رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله يبغض الفاحش البذيء» رواه الترمذي.

الثالث:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: «تقوى الله، وحسن الخلق» رواه الترمذي.

ومن الأخلاق الحسنة: خلق “جبر الخاطر”.

فما المراد بجبر الخاطر؟

الخاطِرُ: ما يَخْطُرُ بالقلب من أمر، أَو رأْي، أَو معنًى. والخاطِرُ: القلب أو النفس -على المجاز -، يقال: أخَذ بخاطره، أي: عزّاه وواساه، وأخَذ على خاطره: استاء ، تكدَّر وانزعج.

فالمراد بجبر الخاطر: المواساة.

جبر الخاطر في القرآن

قال ربنا: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَالله يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ الله لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة/220].

والمعنى: ويسألونك عن اليتامى كيف يتصرفون معهم في معاشهم وأموالهم؟ قل لهم: إصلاحكم لهم خير، فافعلوا الأنفع لهم دائما، وإن تخالطوهم في سائر شؤون المعاش فهم إخوانكم في الدين. وعلى الأخ أن يرعى مصلحة أخيه. والله يعلم المضيع لأموال اليتامى من الحريص على إصلاحها.

قَالَ ابن عباس رضي الله عنهما: “لما نزلت: ﴿ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن﴾، و: ﴿إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا﴾، انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: ﴿ويسئلونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم﴾، فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم” رواه أبو داود.

ففصل طعام اليتيم فيه أثر سيء على نفسيته، وقد لا يستوعب هذا الصغير أن الورع يقف وراء هذا الصنيع، فربما ساء حاله؛ لأنه سيلحظ أنه يأكل من طعام غيره بأريحية وغيره لا يقرب طعامه! فما أسوأ الأثر الذي يجعله هذا الفعل عليه! فشرع الله تلك المخالطة؛ جبرا لخاطر هذا الضعيف.

وقال ربنا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا﴾ [الأحزاب/49].

ومعنى ما في الآية: إذا عقدتم على النساء ولم تدخلوا بهن ثم طلقتموهن مِن قبل أن تجامعوهن، فما لكم عليهن مِن عدَّة تحصونها عليهن، فأعطوهن من أموالكم متعة يتمتعن بها بحسب الوسع؛ جبرًا لخواطرهن، وخلُّوا سبيلهن مع الستر الجميل، دون أذى أو ضرر.

 

ومثلها فيما أتحدث عنه: ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ [النساء/236].

أي: لا إثم عليكم -أيها الأزواج- إن طلقتم النساء بعد العقد عليهن، وقبل أن تجامعوهن، أو تحددوا مهرًا لهن، ومتِّعوهن بشيء ينتفعن به جبرًا لهن، ودفعًا لوحشة الطلاق، وإزالة للأحقاد. وهذه المتعة تجب بحسب حال الرجل المطلِّق: على الغني قَدْر سَعَة رزقه، وعلى الفقير قَدْر ما يملكه، متاعًا على الوجه المعروف شرعًا، وهو حق ثابت على الذين يحسنون إلى المطلقات وإلى أنفسهم بطاعة الله.

فهذا نموذج آخر لجبر الخواطر في كتاب الله.

ويقال مثل ذلك في قول ربنا سبحانه: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة/241].

وللمطلقات متاع من كسوة ونفقة على الوجه المعروف المستحسن شرعًا، حقًا على الذين يخافون الله ويتقونه في أمره ونهيه.

قال في [التفسير الوسيط 1/541]: “وأصل المتعة والمتاع ما ينتفع به الإنسان من مال أو كسوة أو غير ذلك، ثم أطلقت المتعة على ما يعطيه الرجل للمرأة من مال أو غيره عند طلاقها منه لتنتفع به، جبرا لخاطرها، وتعويضا لما نالها بسبب هذا الفراق”.

 

ومن النماذج أيضاً:

قول ربنا عزَّ اسمه: ﴿لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ الله إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ الله هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [التوبة/117، 118].

جاء في [صفوة التفاسير 1/527]: “علم الله صدق توبتهم فقبلها منهم، وصدّرها بتوبته على رسوله وكبار صحبه؛ جبراً لقلوبهم”.

وهل شرعت الحدود والتعزيرات إلا جبرا لخاطر المعتدى عليهم؟

قال صاحب الوسيط: “شرع القصاص؛ زجرا للمعتدى، وإشعارا له بأن سوط العقاب مسلط عليه إذا ما تجاوز حده؛ جبرا لخاطر المعتدى عليه، وتمكينا له من أخذ حقه ممن اعتدى عليه” [التفسير الوسيط لطنطاوي 4/173].

وفي موضع آخر يقول ربنا: ﴿وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ الله أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلا أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ [البقرة/235].

أي: ولا إثم عليكم -أيها الرجال- فيما تُلَمِّحون به مِن طلب الزواج بالنساء المتوفَّى عنهنَّ أزواجهن، أو المطلقات طلاقًا بائنًا في أثناء عدتهن، ولا ذنب عليكم أيضًا فيما أضمرتموه في أنفسكم من نية الزواج بهن بعد انتهاء عدتهن. علم الله أنكم ستذكرون النساء المعتدَّات، ولن تصبروا على السكوت عنهن، لضعفكم; لذلك أباح لكم أن تذكروهن تلميحًا أو إضمارًا في النفس، واحذروا أن تواعدوهن على النكاح سرًا بالزنى أو الاتفاق على الزواج في أثناء العدة، إلا أن تقولوا قولا يُفْهَم منه أن مثلها يُرْغَبُ فيها الأزواج، ولا تعزموا على عقد النكاح في زمان العدة حتى تنقضي مدتها. واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فخافوه، واعلموا أن الله غفور لمن تاب من ذنوبه، حليم على عباده لا يعجل عليهم بالعقوبة.

وما أسوأ حال من فقدت زوجها! فشرع الله تطييبا لنفسها وجبرا لخاطرها للصادق الراغب فيها أن يُعَرِّض لها برغبته فيها بكلام عام كقوله: مثلك يرغب فيه، دون التصريح المنهي عنه.

وأمر الله الورثة بالإبقاء على من مات زوجها مدة العدة في بيتها؛ جبرا لخاطرها، ومواساة لها.

 

ومن الأمثلة القرآنية:

قول ربنا: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا﴾ [النساء/8].

والمعنى: وإذا حضر قسمةَ الميراث أقاربُ الميت ممن لا حقَّ لهم في التركة، أو حضرها من مات آباؤهم وهم صغار، أو مَن لا مال لهم فأعطوهم شيئًا من المال على وجه الاستحباب قبل تقسيم التركة على أصحابها، وقولوا لهم قولا حسنًا غير فاحش ولا قبيح؛ جبرا للخاطر.

جبر الخاطر في السنة النبوية

ما أكثر ما ورد في هذا الباب في سنة سيد الأنام عليه الصلاة والسلام! ومن ذلك:

عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ رضي الله عنه، أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَهُوَ بِالأَبْوَاءِ، أَوْ بِوَدَّانَ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ: «إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ» رواه البخاري ومسلم.

فالمحرم لا يصيد، ولا يأكل ما صيد له، ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما بوجهه من الكراهة لم رد هديته قال ما قال؛ تطييبا لخاطره.

وفي صحيح مسلم، أن عائشة رضي الله عنها، في حجة النبي صلى الله عليه وسلم أهلت بعمرة، وإنما حجت قارنة، والقارن يكفيه طوافه وسعيه لحجه وعمرته، ومع ذلك لما ألحت على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن تأتي بعمرة أذن لها؛ تطييبا لخاطرها.

وفي صحيح البخاري، عن سَلَمَةَ بْن الأَكْوَعِ رَضِيَ الله عَنْهُ، قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَسْلَمَ يَنْتَضِلُونَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ، فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا ارْمُوا، وَأَنَا مَعَ بَنِي فُلاَنٍ» قَالَ: فَأَمْسَكَ أَحَدُ الفَرِيقَيْنِ بِأَيْدِيهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا لَكُمْ لاَ تَرْمُونَ»؟، قَالُوا: كَيْفَ نَرْمِي وَأَنْتَ مَعَهُمْ؟ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ارْمُوا فَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ».

وهذه الكلمة لا يخفى ما فيها من جبر الخاطر.

وفيه أيضا، عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا أَتَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ، فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ، فَلْيُنَاوِلْهُ أُكْلَةً أَوْ أُكْلَتَيْنِ، أَوْ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ، فَإِنَّهُ وَلِيَ حَرَّهُ وَعِلاَجَهُ».

فالأولى أن يكون معك في مائدة واحدة، لكن إن لم تطق نفسك ذلك فلا أقل من أن يأكل شيئا مما تعلقت به نفسه؛ تطييبا لخاطره.

ومن الأمثلة:

عن رجل من العرب قال: زحمت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وفي رجلي نعل كثيفة، فوطئت على رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنفحني نفحة بسوط في يده، وقال: «بسم الله، أوجعتني». قال: فبت لنفسي لائما أقول: أوجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبت بليلة كما يعلم الله، فلما أصبحنا إذا رجل يقول: أين فلان؟ قال: قلت: هذا والله الذي كان مني بالأمس. قال: فانطلقت وأنا متخوف، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنك وطئت بنعلك على رجلي بالأمس فأوجعتني، فنفحتك بالسوط؛ فهذه ثمانون نعجة فخذها بها» أخرجه الدارمي.

ثمانون نعجة لنفحة سوط!

فكم للسجن ظلما؟ وكم للضرب والإهانة؟ وكم من ذلك لانتهاك الأعراض؟ ولصعقات الكهرباء!؟

وفي مسند أحمد، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، أَنَّهُ كَانَ يَجْتَنِي سِوَاكًا مِنَ الْأَرَاكِ، وَكَانَ دَقِيقَ السَّاقَيْنِ، فَجَعَلَتِ الرِّيحُ تَكْفَؤُهُ (تميله)، فَضَحِكَ الْقَوْمُ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِمَّ تَضْحَكُونَ»؟ قَالُوا: يَا نَبِيَّ الله، مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ، فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ».

وليس يخفى أنه عرَّف بفضله وذكر منقبته؛ تطييبا لخاطره.

وفي سنن الترمذي، قال جابر رضي الله عنه: لَقِيَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِي: «يَا جَابِرُ مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا»؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ اسْتُشْهِدَ أَبِي، وَتَرَكَ عِيَالاً وَدَيْنًا، قَالَ: «أَفَلاَ أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ الله بِهِ أَبَاكَ»؟ قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ الله. قَالَ: «مَا كَلَّمَ الله أَحَدًا قَطُّ إِلاَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَأَحْيَا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا (بدون حجاب). فَقَالَ: يَا عَبْدِي تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ. قَالَ: يَا رَبِّ تُحْيِينِي فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيَةً. قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لاَ يُرْجَعُونَ».

فهذا تسلية من سيد الخلق صلى الله عليه وسلم يهون بها على صاحبه جابر، ويواسيه بذلك.

وفي مسند أحمد، عنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا أَعْطَى رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَطَايَا فِي قُرَيْشٍ وَقَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ وَجَدَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى كَثُرَتْ فِيهِمُ الْقَالَةُ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: لَقِيَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمَهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ هَذَا الْحَيَّ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْكَ فِي أَنْفُسِهِمْ لِمَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْفَيْءِ الَّذِي أَصَبْتَ، قَسَمْتَ فِي قَوْمِكَ، وَأَعْطَيْتَ عَطَايَا عِظَامًا فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنَ الْأَنْصَارِ شَيْءٌ، قَالَ: «فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ»؟ قَالَ: يَا رَسُولَ الله، مَا أَنَا إِلَّا امْرُؤٌ مِنْ قَوْمِي، وَمَا أَنَا؟ قَالَ: «فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ»، فَخَرَجَ سَعْدٌ، فَجَمَعَ الْأَنْصَارَ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ، قَالَ: فَجَاءَ رِجَالٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَتَرَكَهُمْ، فَدَخَلُوا وَجَاءَ آخَرُونَ، فَرَدَّهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا أَتَاهُ سَعْدٌ فَقَالَ: قَدِ اجْتَمَعَ لَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَأَتَاهُمْ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ، بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ، ثُمَّ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ، أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ الله؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ الله؟ وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ الله بَيْنَ قُلُوبِكُمْ؟» ، قَالُوا: بَلِ الله وَرَسُولُهُ أَمَنُّ وَأَفْضَلُ. قَالَ: «أَلَا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ» قَالُوا: وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ الله، وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ. قَالَ: «أَمَا وَالله لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ، أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلًا فَآسَيْنَاكَ، أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا، تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا، وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلَامِكُمْ؟ أَفَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ، وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ الله فِي رِحَالِكُمْ؟ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا، وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ، اللهمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ» قَالَ: فَبَكَى الْقَوْمُ، حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ، وَقَالُوا: رَضِينَا بِرَسُولِ الله قِسْمًا وَحَظًّا، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفَرَّقُوا.

فما أطيب كلام نبينا صلى الله عليه وسلم! وما أقوى أثره في تطييب الخواطر وإصلاح النفوس!

رب صل وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

شارك المحتوى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *