هيمنة الشرع
بسم الله الرحمن الرحيم
هيمنة الشرع
خطبة مسجد السلام بالطائف (22)
27 محرم 1441، 27/9/2019
مهران ماهر عثمان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، أما بعد؛
فقد وردت هذه الكلمة في موضع من كتاب الله تعالى، قال ربنا: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ [المائدة: 48].
ومعنى الآية:
وأنزلنا إليك -أيها الرسول- القرآن، وكل ما فيه حقّ يشهد على صدق الكتب قبله، وأنها من عند الله، مصدقًا لما فيها من صحة، ومبيِّنًا لما فيها من تحريف، ناسخًا لبعض شرائعها، ومشتملا على ما اشتملت عليه وزيادة.
فما معنى هيمنة الشرع؟
تعلقه بكل شأن من شؤون حياتنا.
والكلام في محاور:
- تعلقه بالشأن الخاص.
- تعلقه بعلاقة الإنسان بغيره.
- تعلقه بدستور البلاد وعلاقة الدولة بمواطنيها.
هيمنة الشرع على الشأن الخاص
ففي الطعام والشراب آدابٌ تتعلق بهما:
فإذا أراد أحدنا أن يأكل فمن السنة أن يسمي، وأن يأكل بيمينه، وأن يأكل مما يليه، ولا ينبغي إعابة الطعام، ومن السنة الاجتماع عليه، ولا يصح القران بين التمر ونحوه، وينهى عن الأكل حال الاتكاء، ويأكل أحدنا بثلاثة أصابع، ويتنفس ثلاثاً إذا شرب، ومن السنة أن يجلس إذا أراد الشرب، وينهى عن النفخ في الشراب، وساقي القوم آخرهم شرباً، ولا يشرب في إناء الذهب والفضة.
وفي اللباس تشريعات وأحكام
فالحجاب مفروض على المؤمنات، قال ربنا: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: 59]، والحرير محرم على الرجال، ويُنهى عن ثوب شهرةٍ، وزي كافرٍ.
وفي النوم:
يُسن الاضطجاع على الشق الأيمن، وقبل النوم يقول من أوى إلى فراشه عدداً من الأذكار، ونجد نهياً في السنة عن النوم على البطن، ففي الحديث أنها «ضِجعة يبغضها الله».
فما من شأن من شؤون حياتنا إلا ولله تعالى فيه حكمٌ وتشريعٌ:
في صحيح مسلم، عَنْ سَلْمَانَ رضي الله عنه، قَالَ: قِيلَ لَهُ: قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى قضاء الحاجة، قَالَ: فَقَالَ: أَجَلْ «لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ، أَوْ بَوْلٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ بِعَظْمٍ».
إذا دخل الإنسان بيته أو خرج أو دخل المسجد أو خرج أو أصبح أو أمسى أو ركب سيارته قال دعاءً معيناً، فعلمنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن نذكر الله في كل أحوالنا.
منع المرأة من النمص وإبداء الزينة ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ [النور: 31].
أوجب ألا تسافر إلا معى ذي محرم.
هيمنة الشرع على علاقة الإنسان بغيره
وهذه نماذج يَبينُ لنا معها ذلك:
عدم إفشاء السر.
ففي مسند أحمد، عنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ حَدِيثًا، فَالْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ».
كف الأذى
عن جرير بن عبدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «اسْتَنْصِتِ النَّاسَ»، ثُمَّ قَالَ: «لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ». متفقٌ عَلَيْهِ.
إكرام الضيف
عن أَبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ» أخررجه الشيخان.
وبين شرعنا حق المسلم على أخيه
عن أَبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «حَقُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلاَمِ، وَعِيَادَةُ المَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الجَنَائِزِ، وَإجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ العَاطِسِ» متفقٌ عَلَيْهِ.
وفي الحديث: «إنَّ اللهَ – عز وجل – يَقُولُ يَومَ القِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ، مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدنِي! قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ العَالَمِينَ؟! قَالَ: أمَا عَلِمْتَ أنَّ عَبْدِي فُلاَنًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ! أمَا عَلِمْتَ أنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَني عِنْدَهُ! يَا ابْنَ آدَمَ، اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمنِي! قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أطْعِمُكَ وَأنْتَ رَبُّ العَالَمِينَ؟! قَالَ: أمَا عَلِمْتَ أنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ! أمَا عَلِمْتَ أنَّكَ لَوْ أطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي! يَا ابْنَ آدَمَ، اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي! قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أسْقِيكَ وَأنْتَ رَبُّ العَالَمينَ؟! قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلاَنٌ فَلَمْ تَسْقِهِ! أمَا عَلِمْتَ أنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي!» رواه مسلم.
وفي إفشاء السلام بين لنا ديننا من يسلم على من؟ وكيف نرد على كافر إذا سلم علينا، ومتى نقول له: وعليكم.
بينت لنا شريعتنا أحكام الاستئذان، وأن الرجل يستأذن على أمه وأخته.
بين لنا ديننا الذي يهيمن على كل شؤون حياتنا:
العلاقة مع المحتضر، والميت.
وحسن الخلق مع الناس رُغب فيه بكثير من نصوص الشرع.
وفي الدين حث على الإحسان إلى الأرملة، والمسكين، اليتيم.
بين شرعنا ما في الإحسان إلى الجار من خير عظيم، وما في الإساءة إليه من إثم عظيم.
وعلاقة الوالد بولده، والولد بوالده مما نطقت ببيانها نصوص ديننا.
في شرعنا دعوة إلى توقير الكبير، ورحمة الصغير.
هيمنة الشرع على علاقة الدولة بمواطنيها
بين ديننا أن الدستور الذي يتحاكم الناس إليه لابد أن يكون مستمداً من الوحيين: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) ﴾ [النساء: 105].
وهذه سبق الحديث عنها في خطبة (فصل الدين عن الدولة).
وبين لنا ديننا المهيمن على كل تفاصيل حياتنا علاقة الحاكم بالمحكوم، والراعي بالرعية، متى يطاع الحاكم؟ ومتى يُخرج عليه، وينابذ بالسيف؟
قال ربنا: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 162].
ومعنى الآية: قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: إن صلاتي، ونسكي، أي: ذبحي لله وحده، لا للأصنام، ولا للأموات، ولا للجن، ولا لغير ذلك مما تذبحونه لغير الله، وعلى غير اسمه كما تفعلون، وحياتي أجعلها في طاعة الله، وبعد الموت يكون المصير إلى الله فيجازي من انقاد إلى أحكامه بالجنة، وتكون النار مآلا للمعرضين.
وللمفسرين في معنى: ﴿وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ قولان:
أحدهما: أن معناه: لا يملك حياتي ومماتي إلا الله.
والثاني: حياتي لله في طاعته، ومماتي لله في رجوعي إلى جزائه. ومقصود الآية أنه أخبرهم أن أفعالي وأحوالي لله وحده، لا لغيره كما تشركون أنتم به.
وقال سبحانه آمراً نبيه بالرجوع إلى شريعة الله المهيمنة في كل أمر: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾ [الجاثية: 18، 19]
وهذا أمر له ولأمته، قال سبحانه: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) ﴾ [هود: 112].
فاستقم -أيها النبي- كما أمرك ربك أنت ومن تاب معك، ولا تتجاوزوا ما حدَّه الله لكم، إن ربَّكم بما تعملون من الأعمال كلها بصير، لا يخفى عليه شيء منها، وسيجازيكم عليها.
دخل دين الإسلام في كل شأن عام وخاص فكيف نفصل بينه وبين السياسة وإنما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم ليسوس به الناس؟!
في مسند أحمد “حبس النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً في تهمة”.
في سنن أبي داود: منع الغال من الغنيمة وحرَّق متاعه.
قال في مانعي الزكاة: «إنا آخذوها وشطر ماله» رواه أحمد.
أمر بإراقة الخمور، وإراقة قدور الحمُر الأهلية.
أقام الحدود؛ فجلد المفتري، واقتص من القاتل، ورجم الزاني، وقطع يد السارق، وأرسل من يقتل من تزوج بامرأة أبيه.
راسل الملوك ودعاهم إلى دين الإسلام.
أبرم المعاهدات.
هذا في الشأن العام، في الشأن الخاص:
وهذه بعض عناوين أبواب الفقه التي تؤكد على هيمنة ديننا على كل شؤون حياتنا
البيوع، القرض، الرهن، الكفالة، الحوالة، الحجْر، الوكالة، الشَّركة، الإجارة، الشُّفعة، المزارعة والمساقاة، الوديعة، الإعارة، اللقطة، الهبة والوصية، المواريث، النكاح، الطلاق، الظهار، اللعان، الرضاع، العدة، القصاص، الديات، القسامة، الحدود، التعزير، الأطعمة، الأيمان والنذور، القضاء، الشهادات.
فما من شأن من شؤون الحياة إلا ولله تعالى فيه حكم، ونحن مأمورون بالصدور عنه، والاستجابة له.
رب صل وسلم على نبينا محمد.

