مقالات

أيها الآباء

بسم الله الرحمن الرحيم

أيها الآباء

مهران ماهر عثمان

22 رجب 1442هـ وفق: 05 مارس 2021

مسجد السلام بالطائف (22)

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، أما بعد؛ فعنوان خطبتي هذه: أيها الآباء، وهي مشتملة على رسائل عديدة لهم، فأقول مستعيناً بالله تعالى:

الرسالة الأولى

علِّمُوا أولادكم هذا الدرس الذي علَّمه الخليل لولده

قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 130 – 132].

وها هنا سؤالان:

الأول: ما معنى قولِ الخليل عليه السلام:  ﴿أسلمتُ لرب العالمين﴾؟

قال القرطبي رحمه الله: “الإسلام في كلام العرب: الخضوع والانقياد للمستسلم” [تفسير القرطبي 2/ 134]، فالإسلام بهذا المعنى: دين الأنبياء جميعاً، قال تعالى عن نوح: ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [يونس: 72]. وقال عن إبراهيم: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 131]. وقال عن موسى: ﴿وقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِين﴾ [يونس: 84]. وقال عن المسيح: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾ [المائدة: 111]. وقد قال تعالى عن أنبياء بني إسرائيل: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا﴾ [المائدة: 44].

الثاني: ما هو الشيء الذي أوصى به الخليل بنيه؟

الانقياد والاستسلام والخضوع لله تعالى.

قال القرطبي رحمه الله: “قوله تعالى: ﴿ووصى بها إبراهيم﴾، أي بالملة، وقيل: بالكلمة التي هي قوله: ﴿أسلمت لرب العالمين﴾، وهو أصوب، لأنه أقرب مذكور، أي قولوا أسلمنا” [الجامع لأحكام القرآن 2/ 135].

فيجب علينا –معشر الآباء- أن نعلم أولادنا هذا كما كان يفعل نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم.

في صحيح مسلم، لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير﴾ [البقرة/284]، اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب! فقالوا: أي رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق؛ الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا! بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير»، قالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، فلما اقترأها القوم ذلت بها ألسنتهم، فأنزل الله في إثرها: ﴿آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير﴾ [البقرة/285]، فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى، فأنزل الله عز وجل: ﴿لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا﴾، قال: «نعم». ﴿ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا﴾، قال: «نعم». ﴿ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به﴾، قال: «نعم». ﴿واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين﴾. قال: «نعم».

في الصحيحين، عن معاذة أن امرأة سألت عائشة فقالت: أتقضي إحدانا الصلاة أيام محيضها؟ فقالت عائشة: “أحرورية أنت؟ قد كانت إحدانا تحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لا تؤمر بقضاء”.

ولا بأس من التعرف على الحكم من أحكام الله وأمره، وأنا على مثل اليقين بأن أمنا عائشة رضي الله عنها تعلم أن الحكمة من ذلك أن صوم رمضان عبادة تأتي في العام مرة، والصلاة متكررة، ولكنها أرادت أن تعلمها أن الإسلام هو الانقياد لله. فرق أيها الأحبة بين من يبحث عن الحكم من أوامر الله ليزداد بها إيمانا وبين من يبحث عنها ليعمل! فلا يعمل بالنص إلا إذا علم مغزاه والمراد به!

ماذا قال عمر رضي الله عنه للحجر الأسود لما قبَّله؟ أما علمنا درسا بليغا من دروس الانقياد لله؟ في الصحيحين عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب قال وهو يطوف بالبيت للركن الأسود: “إنما أنت حجرٌ، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك” ثم قبله.

الرسالة الثانية

لابد أن تكون لنا عناية بتعليم أولادنا أمورَ دينهم.

وقد سبق حديث قبل أسابيع مضت عن ما يشحذ الهمم لتعليم أولادنا وإحسان تربيتهم، وحسبي أن أذكر الآن بأن العناية بتعليم الناشئة لأمور دينهم هدي نبينا صلى الله عليه وسلم، ومن الأدلة على ذلك:

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا، فَقَالَ: «يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ» رواه أحمد والترمذي.

والغلام يُطلق على الطفل من حين أن يُولد إلى أن يشب [شرح صحيح مسلم للنووي 1/ 100].

وقال عمر بن أَبِي سَلَمَةَ رضي الله عنه: “كُنْتُ غُلَامًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ ([1])، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا غُلَامُ سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ»، فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ” رواه الشيخان

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أَخَذَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كِخْ كِخْ، ارْمِ بِهَا، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ» رواه الشيخان.

قال ابن حجر: “«كخٍ كخٍ»: كلمة زجر للصبي عما يريد فِعْله” [فتح الباري 1/ 178].

وفي صحيح البخاري، حدث خَالِدُ بْنُ ذَكْوَانَ، عن الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ رضي الله عنها، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةَ بُنِيَ عَلَيَّ، فَجَلَسَ عَلَى فِرَاشِي كَمَجْلِسِكَ مِنِّي، وَجُوَيْرِيَاتٌ يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ، يَنْدُبْنَ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِهِنَّ يَوْمَ بَدْرٍ، حَتَّى قَالَتْ جَارِيَةٌ: وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ تَقُولِي هَكَذَا وَقُولِي مَا كُنْتِ تَقُولِينَ».

وفي سنن الترمذي، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا بُنَيَّ إِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَسَلِّمْ يَكُونُ بَرَكَةً عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ».

ومن الأهمية بمكان ايها الآباء الكريم أن يكون لنا في بيتنا درس يومي لأولادنا، نقرأ ورداً يومياً مختصراً من القرآن، ثم نقرأ لهم تفسير صفحة واحدة من تفسير مختصر؛ كالجلالين، أو التفسير المختصر، وهما من الكتب المنشورة على الإنترنت -لمن لم تكن عنده- في كثير من المواقع.

الرسالة الثالثة

التعليم العملي أبلغ من الكلام النظري.

لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قضية الكتاب في الحديبية قال: «قوموا، فانحروا»، فو الله ما قام منهم أحد حتى قال ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت: يا رسول الله أتحب ذلك؟ اخرج، ثم لا تكلم أحدا كلمة حتى تنحر بُدْنَك، وتدعوَ حالقك فيحلقك. فقام، فخرج، فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما [الرحيق المختوم].

على أي شيء تدل هذه الحادثة؟

على أن التأثر بالفعل أبلغ من التأثر بالقول!

ليس من العقل في شيء أن يأتي إليك ابنك، ويقولَ: إن فلاناً ينتظرك بالخارج، فتقول له: قل له غير موجود، ثم تريده أن ينشأ صادقاً.

لا تحدثني عن أي خلق تدعو إليه أولادك وقد رأوك تشاهد في جوالك مشاهد خليعة!

ترسله لشراء السجائر ولا تريده مدخناً!!

يرونه يعق أباه، ويقصي أمَّه ويقدِّم عليها زوجه ويريد منهم أن يبالغوا في برِّه!!

قال تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 44]، وقال:  ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: 2 -3]، وقال شعيب عليه السلام لقومه: ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [هود: 88].

رب صل وسلم على نبينا محمد.

 

 

 

 

 

[1] / قال النووي رحمه الله :” والصحفة دون القصعة ، وهي ما تسع ما يشبع خمسة”.شرح مسلم (13/193).

شارك المحتوى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *