
الأخلاق العَلِيَّة لخير البريَّة
بسم الله الرحمن الرحيم
أخلاقٌ عَلِيَّة لخير البريَّة
جمعة 10 ربيع الأول 1421هـ،8/ 11/ 2019م
مسجد السلام بالطائف (22)
مهران ماهر عثمان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛
حاجة المجتمات إلى الأخلاق الفاضلة
ليس خافيا على أحد عظيم الحاجة إلى الأخلاق الفاضلة؛ ليعيش المجتمع في سلام وعافية؛ فإفشاء السلام، وإرساء قواعد الحب بين الناس، وصيانة الأعراض، وعدم الاعتداء على المؤمنين، وسلامة الصدر، والأمانة، والتجاوز والصفح؛ كلها أخلاق تمثل ركائز السعادة للمجتمعات؛ وكلها دعا إليها دين الإسلام، وبدونها تكون الحياة أشبه بجحيم لا يُطاق.
حث الإسلام على حسن الخلق
هذه بعض النصوص من السنة النبوية حثَّ فيها النبي صلى الله عليه وسلم على حسن الخلق:
عن أنس رضي الله عنه قال: “كَانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أحْسَنَ النَّاس خُلُقاً” متفقٌ عَلَيْهِ.
وعن النَّوَاس بنِ سمعان رضي الله عنه، قَالَ: سألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن البِرِّ وَالإثم، فَقَالَ: «البِرُّ: حُسنُ الخُلقِ، والإثمُ: مَا حاك في صدرِك، وكَرِهْتَ أن يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ» رواه مسلم.
وقوله: «البر حسن الخلق»، كقوله: «الحج عرفة»، وهو يدل على مكانة الأخلاق في الإسلام.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قَالَ: لَمْ يكن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَاحِشاً وَلاَ مُتَفَحِّشاً، وكان يَقُولُ: «إنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أحْسَنَكُمْ أخْلاَقاً» متفقٌ عَلَيْهِ.
وعن أَبي الدرداءِ رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا مِنْ شَيْءٍ أثْقَلُ في مِيزَانِ العبدِ المُؤْمِنِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ حُسْنِ الخُلُقِ، وَإنَّ الله يُبْغِضُ الفَاحِشَ البَذِيء» رواه الترمذي.
البَذِيء: هُوَ الَّذِي يتكلَّمُ بِالفُحْشِ ورديء الكلامِ.
وعن أَبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ أكثرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: «تَقْوَى اللهِ وَحُسنُ الخُلُقِ»، وَسُئِلَ عَنْ أكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ، فَقَالَ: «الفَمُ وَالفَرْجُ» رواه الترمذي.
وعنه، قال: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكْمَلُ المُؤمنينَ إيمَاناً أحسَنُهُمْ خُلُقاً، وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ» رواه الترمذي.
وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «إنَّ المُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بحُسْنِ خُلُقِه دَرَجَةَ الصَّائِمِ القَائِمِ» رواه أَبُو داود.
وعن جابر رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قَالَ: «إنَّ مِنْ أحَبِّكُمْ إليَّ، وَأقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِساً يَوْمَ القِيَامَةِ، أحَاسِنَكُم أخْلاَقاً» رواه الترمذي.
وروى الترمذي عن عبد الله بن المباركِ رحِمه الله في تفسير حُسْنِ الخُلُقِ، قَالَ: “هُوَ طَلاَقَةُ الوَجه، وَبَذْلُ المَعروف، وَكَفُّ الأذَى”.
ولعلَّ من المناسب هنا أن يُذكر المسلم بطائفة من الأخلاق الكريمة التي يمسك بناصيتها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال تعامله مع أصحابه، وهذا مما يبين لنا معنى قول ربنا: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]، وفائدة ذلك: أن نتعلَّم –نحن المسلمين- فنون التعامل مع بعضنا.
أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه
أنه كان متواضعاً معهم:
قال أنسُ بنُ مالكٍ رضي الله عنه: “لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانُوا إِذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا؛ لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ” رواه أحمد.
وكانت الأمة من إماء أهل المدينة تأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث. رواه البخاري.
وليس المراد بذلك أنها تضع يدها في يده! قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “الْمَقْصُودُ مِنَ الْأَخْذِ بِالْيَدِ: لَازِمُهُ، وَهُوَ الرِّفْقُ، وَالِانْقِيَاد” [فتح الباري 10/490]. كما نقول في دعائنا بعاميتنا: (ربنا ياخد بإيدك).
يقول عبد اللَّهِ بن أَبِي أَوْفَى في نعته: “كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ الذِّكْرَ، وَيُقِلُّ اللَّغْوَ، وَيُطِيلُ الصَّلَاةَ، وَيُقَصِّرُ الْخُطْبَةَ، وَلَا يَأْنَفُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَ الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ فَيَقْضِيَ لَهُ الْحَاجَةَ” رواه النسائي.
وكان صلى الله عليه وسلم يجيب دعوة أصحابه:
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: “كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعى إلى خبز الشعير، والإهالة السَّنِخَة فيُجيب، ولقد كان له درع عند يهودي فما وجد ما يفكُّها حتى مات” رواه الترمذي في الشمائل.
“والإهالة السنخة: أي الدهن المتغير الريح” [فيض القدير 5/205].
حدَّث عنه ابن عمه ابن عباس رضي الله عنهما فقال: “كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَجْلِسُ عَلَى الأَرْضِ، ويأكل عَلَى الأَرْضِ، وَيَعْتَقِلُ الشَّاةَ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ عَلَى خُبْزِ الشَّعِير” رواه الطبراني.
ومن صور تواضعه: أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ، فَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَ عَنْهَا، فَقَالُوا مَاتَت. فقَالَ: «أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي»؟ فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا فَقَالَ: «دُلُّونِي عَلَى قَبْرِها»، فَدَلُّوهُ، فَصَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ»، فجاء قبرَها فصلى عليها. رواه الشيخان.
ومن هديه صلى الله عليه وسلم أنّه كان يزورهم.
فعن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي ضعفاء المسلمين، ويزورهم، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم” رواه الحاكم.
وعن أنس رضي الله عنه قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزور الأنصار، فيسلِّمُ على صبيانهم، ويمسح برؤوسهم، ويدعو لهم” رواه ابن حبان.
وكان صلى الله عليه وسلم لا يحب أن يُدفعَ عنه الناس.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: “كان صلى الله عليه وسلم لا يُدفع عنه الناس، ولا يُضربوا عنه” رواه الطبراني.
وكان إذا صافحه رجل لم يبدأ بنزع يده.
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه: “كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صافحه رجل لَا يَنْزِعُ يَدَهُ مِنْ يَدِهِ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ يَنْزِعُ” رواه الترمذي.
وكان صلى الله عليه وسلم لا يحب من أصحابه أن يهابوه.
فعن أبي مَسْعُودٍ رضي الله عنه قال: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ، فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ، فَقَالَ لَهُ: «هَوِّنْ عَلَيْكَ؛ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ» رواه ابن ماجه.
قال في النهاية (4/ 40) “القَدِيد: اللَّحْم الـمَمْلُوح المُجَفَّف في الشمس”، ففعيل بمعنى مفعول، كقتيل بمعنى مقتول.
وكان صلى الله عليه وسلم يسليهم، ويعزيهم..
قال قُرَّةُ بنُ إياس رضي الله عنه: كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا جَلَسَ يَجْلِسُ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَفِيهِمْ رَجُلٌ لَهُ ابْنٌ صَغِيرٌ يَأْتِيهِ مِنْ خَلْفِ ظَهْرِهِ فَيُقْعِدُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَهَلَكَ، فَامْتَنَعَ الرَّجُلُ أَنْ يَحْضُرَ الْحَلْقَةَ؛ لِذِكْرِ ابْنِهِ، فَحَزِنَ عَلَيْهِ، فَفَقَدَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«مَالِي لَا أَرَى فُلَانًا»؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بُنَيُّهُ الَّذِي رَأَيْتَهُ هَلَكَ. فَلَقِيَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ عَنْ بُنَيِّهِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ هَلَكَ، فَعَزَّاهُ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ:«يَا فُلَانُ أَيُّمَا كَانَ أَحَبُّ إِلَيْكَ: أَنْ تَمَتَّعَ بِهِ عُمُرَكَ، أَوْ لَا تَأْتِي غَدًا إِلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ إِلَّا وَجَدْتَهُ قَدْ سَبَقَكَ إِلَيْهِ يَفْتَحُهُ لَكَ»؟ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ بَلْ يَسْبِقُنِي إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَيَفْتَحُهَا لِي لَهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ. قَالَ:«فَذَاكَ لَكَ». فقالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَهُ خَاصَّةً أَمْ لِكُلِّنَا؟ قَالَ:«بَلْ لِكُلِّكُمْ» رواه النسائي.
وكان لا يبخل بشيء على أصحابه
جاء إليه سلمان الفارسي رضي الله عنه حين قدم المدينة بمائدة عليها رطب، فوضعها بين يديه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هذا يَا سَلْمانُ»؟ قال: صدقة عليك وعلى أصحابك. قال: «ارْفَعْهَا فَإِنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ»، فرفعها، فجاء من الغد بمثله، فوضعه بين يديه يحمله، فقال:«ما هذا يَا سَلْمانُ»؟ فقال: هدية لك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «ابْسُطُوا» رواه أحمد.
وفي البخاري، أُهدي إليه لبنٌ، وكان معه أبو هريرة رضي الله عنه، فأمره أن يدعو أهل الصفة، ففعل، فشربوا، قال أبو هريرة: ورَوِيَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ، فَأَخَذَ الْقَدَحَ فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ فَنَظَرَ إِلَيَّ فَتَبَسَّمَ فَقَال: «أَبَا هِرٍّ». قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ». قُلْتُ: صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «اقْعُدْ فَاشْرَبْ»، فَقَعَدْتُ، فَشَرِبْتُ. فَقَالَ: «اشْرَبْ»، فَشَرِبْتُ، فَمَا زَالَ يَقُولُ: «اشْرَبْ»، حَتَّى قُلْتُ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا. قَالَ: «فَأَرِنِي»، فَأَعْطَيْتُهُ الْقَدَحَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَسَمَّى، وَشَرِبَ الْفَضْلَةَ.
وكان يجوع إذا جاع أصحابه فلا يخص نفسهى بشيء دونهم
قال أبو هريرة رضي الله عنه: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَالَ: «مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ»؟ قَالَا: الْجُوعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «وَأَنَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا، قُومُوا»، فَقَامُوا مَعَهُ، فَأَتَى رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ، فَإِذَا هُوَ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ قَالَتْ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَيْنَ فُلَانٌ»؟ قَالَتْ: ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مِنْ الْمَاءِ، إِذْ جَاءَ الْأَنْصَارِيُّ فَنَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبَيْهِ ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، مَا أَحَدٌ الْيَوْمَ أَكْرَمَ أَضْيَافًا مِنِّي. فَانْطَلَقَ فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ، فَقَالَ: كُلُوا مِنْ هَذِهِ. وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِيَّاكَ وَالْحَلُوبَ»، فَذَبَحَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا مِنْ الشَّاةِ وَمِنْ ذَلِكَ الْعِذْقِ وَشَرِبُوا، فَلَمَّا أَنْ شَبِعُوا وَرَوُوا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ الْجُوعُ ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ» رواه مسلم.
لم يكن صلى الله عليه وسلم عنيفاً على أصحابه..
في الصحيحين، جاءه رجلٌ فَقَالَ: هَلَكْتُ. قَالَ: «وَلِمَ»؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى أَهْلِي فِي رَمَضَانَ؟ قَالَ: «فَأَعْتِقْ رَقَبَةً». قَالَ: لَيْسَ عِنْدِي. قَالَ:«فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ». قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ. قَالَ: «فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا». قَالَ: لَا أَجِدُ. فَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ، فَقَالَ: «أَيْنَ السَّائِلُ»؟ قَالَ: هَا أَنَا ذَا. قَالَ:«تَصَدَّقْ بِهَذَا». قَالَ: عَلَى أَحْوَجَ مِنَّا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ مِنَّا. فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ قَالَ:«فَأَنْتُمْ إِذًا». فلما رجع إلى قومه – وكأني بهم قد وبخوه- قال لهم: وَجَدْتُ عِنْدَكُمْ الضِّيقَ وَسُوءَ الرَّأْيِ، وَوَجَدْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم السَّعَةَ وَحُسْنَ الرَّأْيِ. وهذه عند الترمذي.
فلم يعنُف عليه، وأرشده إلى ما فيه خلاصه من عذاب الله
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ: «اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي». قَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي-وَلَمْ تَعْرِفْهُ-. فَقِيلَ لَهَا: إِنَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَتْ بَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ، فَقَالَتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ. فَقَالَ: «إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى» رواه الشيخان.
فلم يعنِّفْها.
كان نبينا صلى الله عليه وسلم رفيقاً رحيماً بهم، شفوقاً عليهم.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ: جَمَعْتُ الْقُرْآنَ فَقَرَأْتُ بِهِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَطُولَ عَلَيْكَ زَمَانٌ أَنْ تَمَلَّ، اقْرَأْهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ». قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي أَسْتَمْتِعْ مِنْ قُوَّتِي وَشَبَابِي. قَالَ: «اقْرَأْهُ فِي كُلِّ عِشْرِينَ». قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَسْتَمْتِعْ مِنْ قُوَّتِي وَشَبَابِي. قَالَ: «اقْرَأْهُ فِي كُلِّ عَشْرٍ». قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَسْتَمْتِعْ مِنْ قُوَّتِي وَشَبَابِي. قَالَ: «اقْرَأْهُ فِي كُلِّ سَبْعٍ». قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَسْتَمْتِعْ مِنْ قُوَّتِي وَشَبَابِي. فَأَبَى. رواه أحمد وابن ماجه.
وكان يمازحهم، ولا يقول إلا حقاً.
ثبت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «إِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا». قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: فَإِنَّكَ تُدَاعِبُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «إِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا» رواه أحمد.
ومن صور مزاحه صلى الله عليه وسلم مع أصحابه:
أنّه رأى صهيباً وهو يأكل تمراً، وبعينه رمد، فقال: «أتأكُلُ التَّمْرَ وبِكَ رَمَدٌ»؟ فقال-وكان حاضر البديهة-: إنما آكل على شقي الصحيح ليس به رمد. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه ابن ماجه.
وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ كَانَ اسْمُهُ زَاهِرًا كَانَ يُهْدِي لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْهَدِيَّةَ مِنْ الْبَادِيَةِ، فَيُجَهِّزُهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ زَاهِرًا بَادِيَتُنَا وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ»، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّهُ، وَكَانَ رَجُلًا دَمِيمًا، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ، فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ وَهُوَ لَا يُبْصِرُهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَرْسِلْنِي، مَنْ هَذَا؟ فَالْتَفَتَ فَعَرَفَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَ لَا يَأْلُو مَا أَلْصَقَ ظَهْرَهُ بِصَدْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ عَرَفَهُ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ»؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذًا وَاللَّهِ تَجِدُنِي كَاسِدًا. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ» رواه أحمد.
وأتت إليه عجوز فقالت: يا رسول الله، ادع الله أن يدخلني الجنة. فقال: «يا أمَّ فُلانٍ، إنَّ الجنَّةَ لا تَدْخُلُها عَجُوْزٌ». فولَّت تَبْكِي فَقَال: «أخْبِرُوها أنَّها لا تَدْخُلُها وهي عَجُوزٌ، إن الله تعالى يقول:﴿إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا﴾»[الواقعة: 35-37] رواه الترمذي في الشمائل.
لقد كان صلى الله عليه وسلم لا يرضى من أحدٍ أن يحتقر أو يسبَّ أحداً من أصحابه ولو كان الساب صحابياً مثله..
فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ؛ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَلْعَنُوهُ؛ فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» رواه البخاري.
وهو دليل على أنّ الكبائر لا تخرج أصحابها من الإيمان، وعلى حكمة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن المراد استصلاح المخطئ لا إقصاؤه وإبعاده، فما أعظم شفقته على أمته!
وكان صلى الله عليه وسلم ناصحاً لهم..
قالت فاطمة بنت قيس رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: إنّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَانِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ، انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ»، قالت: فَكَرِهْتُهُ، ثُمَّ قَالَ:«انْكِحِي أُسَامَةَ»، فَنَكَحْتُهُ، فَجَعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا، وَاغْتَبَطْتُ. رواه مسلم.
أي: اغْتَبَطَتْنِي النِّسَاء لِحَظٍّ كَانَ لِي مِنْهُ.
وكان صلى الله عليه وسلم يصلح بينهم..
فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَهَبَ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ؛ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ. رواه البخاري ومسلم.
ولما وقعت خصومة بين أنصاري ومهاجري وَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ! وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ! خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عليهم وقَالَ: «مَا بَالُ دَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، دَعُوهَا فَإِنَّهَا خَبِيثَةٌ» رواه البخاري ومسلم.
إنني لا أجد ما أختم به خطبتي هذه أبلغ مما جاء في مدح الله تعالى له: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 128].
ربِّ صل وسلم وبارك وأنعم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

