مقالات

دروس من واقعة الجمل

بسم الله الرحمن الرحيم

دروس من واقعة الجمل

غرة ذي الحجة 1440هـ / 2 أغسطس 2019

مسجد السلام بالطائف (22)

مهران ماهر عثمان

الحمد لله، والصلام والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن معتقد أهل السنة والجماعة الإمساك عما جرى بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والترضي عنهم جميعاً، واعتقاد أنهم مجتهدون في طلب الحق، للمصيب منهم أجران، وللمخطئ أجر واحد.

وحديثي في هذه الجمعة عن واقعة الجمل، وما فيها من الدروس التي نحتاجها في يومنا هذا.

وهذه نصوص ثلاثة تجرِّم التطاول على مقام الصحابة رضي الله عنهم، أذكرها قبل الشروع في المطلوب:

الأول:

من الأدلة القرآنية على تحريم سبهم : ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة 13] .

وفي هذه الآية أنّ سب الصحابة من سمات النفاق: فالمنافقون سفهوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم،  وأيم الله لا يسبهم أحد إلا كان منهم.

الثاني:

قول نبينا صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أحداً من أصحابي؛ فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه» رواه مسلم.

والثالث:

قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» رواه الطبراني.

 

حقيقة ما وقع في واقعة الجمل

أولاً:

بويع علي رضي الله عنه بالخلافة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه، وكان كارهاً لهذه البيعة رافضاً لها، وما قبلها إلا لإلحاح الصحابة عليه، فعن قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الْجَمَلِ يَقُولُ: “اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنْ دَمِ عُثْمَانَ، وَلَقَدْ طَاشَ عَقْلِي يَوْمَ قُتِلَ عُثْمَانُ، وَأَنْكَرَتْ نَفْسِي وجَاءُونِي لِلْبَيْعَةِ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَحْيِي مِنَ اللَّهِ أَنْ أُبَايِعَ قَوْمًا قَتَلُوا رَجُلًا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أَسْتَحْيِي مِمَّنْ تَسْتَحْيِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ» ، وَإِنِّي لَأَسْتَحْيِي مِنَ اللَّهِ أَنْ أُبَايِعَ وَعُثْمَانُ قَتِيلٌ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يُدْفَنْ بَعْدُ، فَانْصَرَفُوا، فَلَمَّا دُفِنَ رَجَعَ النَّاسُ فَسَأَلُونِي الْبَيْعَةَ، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنِّي مُشْفِقٌ مِمَّا أَقْدَمُ عَلَيْهِ، ثُمَّ جَاءَتْ عَزِيمَةٌ فَبَايَعْتُ فَلَقَدْ قَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَأَنَّمَا صُدِعَ قَلْبِي، وَقُلْتُ: اللَّهُمَّ خُذْ مِنِّي لِعُثْمَانَ حَتَّى تَرْضَى” رواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.

 

ثانياً:

لم يكن علي رضي الله عنه قادراً على تنفيذ القصاص في قتلة عثمان رضي الله عنه لعدم علمه بأعيانهم، ولاختلاط هؤلاء الخوارج بجيشه، مع كثرتهم واستعدادهم للقتال، وقد بلغ عددهم ألفي مقاتل كما في بعض الروايات، كما أن بعضهم ترك المدينة إلى الأمصار عقب بيعة علي.

وقد كان كثير من الصحابة خارج المدينة في ذلك الوقت، ومنهم أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، لانشغال الجميع بالحج، وقد كان مقتل عثمان رضي الله عنه يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة، سنة خمسة وثلاثين على المشهور.

 

ثالثاً:

لما مضت أربعة أشهر على بيعة علي دون أن ينفذ القصاص خرج طلحة والزبير إلى مكة، والتقوا بأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، واتفق رأيهم على الخروج إلى البصرة ليلتقوا بمن فيها، من الخيل والرجال، ليس لهم غرض في القتال، وذلك تمهيداً للقبض على قتلة عثمان رضي الله عنه، وإنفاذ القصاص فيهم.

ويدل على ذلك ما أخرجه أحمد في المسند والحاكم في المستدرك: أن عائشة رضي الله عنها لما بلغت مياه بني عامر ليلاً نبحت الكلاب، قالت: أي ماء هذا؟ قالوا: ماء الحوأب، قالت: ما أظنني إلا راجعة، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: «كيف بإحداكن تنبح عليها كلاب الحوأب». فقال لها الزبير: ترجعين! عسى الله عز وجل أن يصلح بك بين الناس.

قال الألباني: إسناده صحيح جداً، صححه خمسة من كبار أئمة الحديث هم: ابن حبان، والحاكم، والذهبي، وابن كثير، وابن حجر [سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم 474].

والحوأب: بئر قريبة من البصرة على طريق مكة.

 

رابعاً:

وقد اعتبر علي رضي الله عنه خروجهم إلى البصرة نوعاً من الخروج عن الطاعة، وخشي تمزق الدولة الإسلامية فسار إليهم رضي الله عنه ﴿وكان أمر الله قدراً مقدوراً﴾.

 

خامساً:

وقد أرسل علي رضي الله عنه القعقاع بن عمرو إلى طلحة والزبير يدعوهما إلى الألفة والجماعة، فبدأ بعائشة

رضي الله عنها فقال: أي أماه، ما أقدَمك هذا البلد؟ فقالت: أي بني الإصلاح بين الناس.

قال ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية (7/265) “فرجع إلى علي فأخبره، فأعجبه ذلك، وأشرف القوم على الصلح، كره ذلك من كرهه، ورضيه من رضيه، وأرسلت عائشة إلى علي تعلمه أنها إنما جاءت للصلح، ففرح هؤلاء وهؤلاء، وقام علي في الناس خطيباً، فذكر الجاهلية وشقاءها وأعمالها، وذكر الإسلام وسعادة أهله بالألفة والجماعة، وأن الله جمعهم بعد نبيه صلى الله عليه وسلم على الخليفة أبي بكر الصديق، ثم بعده على عمر بن الخطاب، ثم على عثمان، ثم حدث هذا الحدث الذي جرى على الأمة، أقوام طلبوا الدنيا وحسدوا من أنعم الله عليه بها، وعلى الفضيلة التي منَّ الله بها، وأرادوا رد الإسلام والأشياء على أدبارها، والله بالغ أمره، ثم قال: ألا إني مرتحل غدا فارتحلوا، ولا يرتحل معي أحد أعان على قتل عثمان بشيء من أمور الناس، فلما قال هذا اجتمع من رؤوسهم جماعة كالأشتر النخعي، وشريح بن أوفى، وعبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء… وغيرهم في ألفين وخمسمائة، وليس فيهم صحابي ولله الحمد، فقالوا: ما هذا الرأي؟ وعلي والله أعلم بكتاب الله ممن يطلب قتلة عثمان، وأقرب إلى العمل بذلك، وقد قال ما سمعتم، غداً يجمع عليكم الناس، وإنما يريد القوم كلهم أنتم، فكيف بكم وعددكم قليل في كثرتهم.

فقال الأشتر: قد عرفنا رأي طلحة والزبير فينا، وأما رأي علي فلم نعرفه إلا اليوم، فإن كان قد اصطلح معهم، فإنما اصطلح على دمائنا… ثم قال ابن السوداء قبحه الله: يا قوم إن عيركم في خلطة الناس، فإذا التقى الناس فانشبوا الحرب والقتال بين الناس، ولا تدعوهم يجتمعون…” انتهى كلام ابن كثير.

وذكر ابن كثير أن علياً وصل إلى البصرة، ومكث ثلاثة أيام، والرسل بينه وبين طلحة والزبير، وأشار بعض الناس على طلحة والزبير بانتهاز الفرصة من قتلة عثمان فقالا: إنَّ علياً أشار بتسكين هذا الأمر، وقد بعثنا إليه بالمصالحة على ذلك.

ثم قال ابن كثير: “وبات الناس بخير ليلة، وبات قتلة عثمان بشر ليلة، وباتوا يتشاورن، وأجمعوا على أن يثيروا الحرب من الغلس، فنهضوا من قبل طلوع الفجر، وهم قريب من ألفي رجل، فانصرف كل فريق إلى قراباتهم، فهجموا عليهم بالسيوف، فثارت كل طائفة إلى قومهم ليمنعوهم، وقام الناس من منامهم إلى السلاح، فقالوا: طرقتنا أهل الكوفة ليلاً، وبيتونا وغدروا بنا، وظنوا أن هذا عن ملأ من أصحاب علي، فبلغ الأمر علياً فقال: ما للناس؟ فقالوا: بيتنا أهل البصرة، فثار كل فريق إلى سلاحه، ولبسوا اللأمة، وركبوا الخيول، ولا يشعر أحد منهم بما وقع الأمر عليه في نفس الأمر، وكان أمر الله قدراً مقدراً، وقامت على الحرب على ساق وقدم، وتبارز الفرسان، وجالت الشجعان، فنشبت الحرب، وتواقف الفريقان، وقد اجتمع مع علي عشرون ألفاً، والتف على عائشة ومن معها نحوا من ثلاثين ألفاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون، والسابئة أصحاب ابن السوداء قبحه الله لا يفترون عن القتل، ومنادي علي ينادي: ألا كفوا ألا كفوا، فلا يسمع أحد…” [البداية والنهاية ط إحياء التراث 7/ 267]

 

ما يستفاد من هذه الحادثة

الشهادة اصطفاء من الله تعالى.

فقد اصطفى لها عثمان رضي الله عنه بقتل الخوارج له، وهذه تعزيتنا لأمهات الشهداء وأسرهم، وقد قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 169 – 171].

فهي اختيار من العليِّ الأعلى للصفوة من البشَر؛ ليعيشوا مع الملأ الأعلى؛ ﴿ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ ﴾ [آل عمران: 140].

ولما أراد الله أن يشحذ همم المؤمنين ليكونوا من المطيعين بشرهم بأنهم في الآخرة مع الأنبياء والشهداء والصالحين، قال عز اسمه: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء: 69].

 

زهد سيدنا علي رضي الله عنه في السلطة.

وهذا سبيل المفلحين.

وقد ثبت عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي، قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا» رواه مسلم.

 

في إقامة القصاص حقن للدماء وإخماد للفتن

فما خرج الصحابيان؛ الزبير وطلحة رضي الله عنهما إلا حرصاً على إقامة القصاص على عثمان، وعلي رضي الله عنه معذرو في تأجيله، فالقدرة مناط التكليف، لكن لو قدر أنه تمكن منه وأقامه لما وقعت هذه الفتنة بينهم.

فالقصاص لابد منه، لكنه قد يتأخر لعدم القدرة عليه إلى أن يحصل استتباب الأمر لمن سيقوم به.

 

فضل سيدنا علي رضي الله عنه

فقد بويع بعد عثمان، وترتيب هؤلاء الخلفاء في الفضل كترتيبهم في الخلافة.

ومن أوضح ما يدل على فضله: ما رواه الإمام أحمد في مسنده، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كُنَّا جُلُوسًا نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَرَجَ عَلَيْنَا مِنْ بَعْضِ بُيُوتِ نِسَائِهِ، قَالَ: فَقُمْنَا مَعَهُ، فَانْقَطَعَتْ نَعْلُهُ، فَتَخَلَّفَ عَلَيْهَا عَلِيٌّ يَخْصِفُهَا، فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَضَيْنَا مَعَهُ، ثُمَّ قَامَ يَنْتَظِرُهُ وَقُمْنَا مَعَهُ، فَقَالَ: «إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ يُقَاتِلُ عَلَى تَأْوِيلِ هَذَا الْقُرْآنِ، كَمَا قَاتَلْتُ عَلَى تَنْزِيلِهِ» ، فَاسْتَشْرَفْنَا وَفِينَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَقَالَ: «لَا، وَلَكِنَّهُ خَاصِفُ النَّعْلِ».

 

ما كان بين علي وعثمان رضي الله عنهما من التوادد

فقد قال: “ولقد طاش عقلي يوم قتل عثمان، وأنكرت نفسي، وجاءوني للبيعة فقلت: والله إني لأستحي من الله أن أبايع قوماً قتلوا رجلاً قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة”، وإني لأستحي من الله أن أبايع وعثمان قتيل على الأرض لم يدفن بعد، فانصرفوا، فلما دفن رجع الناس فسألوني البيعة، فقلت: اللهم إني مشفق مما أقدم عليه، ثم جاءت عزيمة فبايعت، فلقد قالوا: يا أمير المؤمنين، فكأنما صدع قلبين، وقلت: اللهم خذ مني لعثمان حتى ترضى”  رواه الحاكم.

 

عدم الاستجابة لأهل الفتن والتهور عند الأزمات

فقد اشتعلت نار الحرب بسبب فئة مارقة كانت بينهم، فالبعد من أهل الفتن وإبعادهم مما يتعين على المسلمين لئلا يجدوا إليهم سبيلاً بفتنتهم

 

خطر الخوارج

وقد عرَّف الشهرستاني في الملل والنِّحل الخوارج بتعريف عام؛ حيث قال: “كلُّ مَن خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يُسمَّى خارجيًّا” [كتاب الملل والنحل؛ للشهرستاني 1/113].

وعرَّفهم ابن حجر العسقلاني بقوله: “الخوارج الذين أنكروا على علي التحكيم، وتبرؤوا منه ومن عثمان وذريته، وقاتَلوهم” [فتح الباري 1/ 459].

ومن أبرز صفاتهم: ما وردت في الصحيحين، فقد قسم النبي صلى الله عليه وسلم غنائم في الجِعْرانة أو الجِعِرَّانة (موضع بين مكة والطائف، فقال له رجل: اتَّقِ اللَّهَ يَا مُحَمَّدُ. فَقَالَ: «مَنْ يُطِعِ اللَّهَ إِذَا عَصَيْتُ؟ أَيَأْمَنُنِي اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ فَلاَ تَأْمَنُونِي»؟ فَسَأَلَهُ خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ قتله، فَمَنَعَهُ، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ: «إِنَّ فِي عَقِبِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ القُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ، لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ».

وبعض الجهال يرى أن نصح الحاكم من على المنبر بإطلاق من صنيع الخوارج! وقد ثبت عند ابن ماجة، أن نبينا صلى الله عليه وسلم سئل في حجة الوادع: أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ فقال: «كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ ذِي سُلْطَانٍ جَائِرٍ».

والعندية تقتضي وجوده، ولوة كان ذلك أمام الناس، فهذا الحديث مخصص لحديث ابن أبي عاصم: «فلا تبده علانية».

وفي مسلمٍ: أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ مَرْوَانُ. فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: الصَّلَاةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، فَقَالَ: قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه: أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ».

فالحاكم إذا كان حاضراً ونصح علانية فهذا نوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونوع من الجهاد.

وبعض جهالنا يرى أن الحديث عن المنكرات التي تكون من قبل الحاكم وإنكارها من الخروج وتأليب الناس! والحق أنها من دين الله، فلو فرض الضرائب، أو أصدر قراراً مخالفاً لدين الله فلابد من إنكار المنكر، لكن بدون تسمية له، فهذا سبيل أشرف الخلق صلوات الله وتسليماته عليه، وليس سبيل الخوارج والمارقة.

 

أهمية الجماعة

فهؤلاء الخوارج لما علموا بدنو الاتفاق بين الطائفتين أجمعوا أمرهم على إشعال نار الحرب بينهما لئلا يلتفتوا بعد الاتفاق إليها.

قال ربنا: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: 46].

وقال نبينا صلى الله عليه وسلم: «الجماعة رحمة، والفُرقة عذاب» رواه أحمد.

 

الحذر من الفتانين

فالإيقاع بين الناس هو النميمة التي تُوُّعِّد صاحبها بالنار.

روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ عَبدِاللهِ بنِ مَسعُودٍ رضي اللهُ عنه قَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: “أَلَا أُنَبِّئُكُمْ مَا الْعَضْهُ (وفي رواية: ما العِضَةُ)؟ هِيَ النَّمِيمَةُ الْقَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ» رواه مسلم.

«الْقَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ»: أي: كثرة القول وإيقاع الخصومة بين الناس.

والنمام متوعَّد بعدم دخول الجنة، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ هَمَّامِ بنِ الحَارِثِ قَالَ: “كُنَّا جُلُوسًا مَعَ حُذَيْفَةَ رضي اللهُ عنه فِي الْمَسْجِدِ، فَجَاءَ رَجُلٌ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْنَا، فَقِيلَ لِحُذَيْفَةَ: إِنَّ هَذَا يَرْفَعُ إِلَى السُّلْطَانِ أَشْيَاءَ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ – إِرَادَةَ أَنْ يُسْمِعَهُ -: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم يَقُولُ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ» رواه الشيخان.

قال يحيى بن أبي كثير رحمه الله: “يفسد النمام والكذاب في ساعة ما لا يفسد الساحر في سنة”.

 

فماذا قال الصحابة عن واقعة الجمل بعدها؟

1-روى ابن أبي شيبة في مصنفه بسند صحيح عن الحسن بن علي قال: “لقد رأيته – يعني علياً – حين اشتد القتال يلوذ بي ويقول: يا حسن، لوددت أني مت قبل هذا بعشرين حجة أو سنة”.

2- وقد ترك الزبير القتال ونزل وادياً فتبعه عمرو بن جُرْمُوز فقتله وهو نائم غيلة،، فبماذا كافأه علي رضي الله عنه؟ ثبت في مسند أحمد  عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، قَالَ: اسْتَأْذَنَ ابْنُ جُرْمُوزٍ عَلَى عَلِيٍّ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: ابْنُ جُرْمُوزٍ يَسْتَأْذِنُ. قَالَ: ائْذَنُوا لَهُ، لِيَدْخُلْ قَاتِلُ الزُّبَيْرِ النَّارَ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا، وَإِنَّ حَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ». والحواري: الناصر. ولما دخل عليه ابن جرموز كان معه سيف الزبير، فقال علي: “إن هذا السيف طالما فرج الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم”.

3- وأما طلحة رضي الله عنه، فقد أصيب بسهم في ركبته فمات منه، وقد وقف عليه علي رضي الله عنه، فجعل يمسح عن وجهه التراب، وقال: “رحمة الله عليك أبا محمد، يعز علي أن أراك مجدولاً تحت نجوم السماء، ثم قال: إلى الله أشكو عجري وبجري، والله لوددت أني كنت مت قبل لهذا اليوم بعشرين سنة” [البداية والنهاية 7/276]. وفي شرح السنة للبغوي (9/ 172) “عُجَري وبُجَري: أَي: همومي وأحزاني”.

4- وقد روي عن علي من غير وجه أن قال: إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير وعثمان ممن قال الله فيهم: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾ [البداية والنهاية 7/277].

4- وقيل لعلي: إن على الباب رجلين ينالان من عائشة، فأمر القعقاع بن عمرو أن يجلد كل واحد منهما مائة، وأن يخرجهما من ثيابهما. [البداية والنهاية 7/274].

5- وقد سألت عائشة رضي الله عنه عمن قتل معها من المسلمين، ومن قتل من عسكر علي، فجعلت كلما ذكر لها واحداً منهم ترحمت عليه ودعت له [البداية والنهاية 7/274].

6- ولما أرادت الخروج من البصرة، بعث إليها علي بكل ما ينبغي من مركب وزاد ومتاع، واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات، وسيرَّ معها أخاها محمد بن أبي بكر – وكان في جيش علي – وسار علي معها مودعاً ومشيعاً أميالاً، وسرَّح بنيه معها بقية ذلك اليوم [البداية والنهاية 7/274].

7- ولَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي ارْتَحَلَتْ فِيهِ جَاءَ عَلِيٌّ فوقف على الباب وحضر الناس وَخَرَجَتْ مِنَ الدَّارِ فِي الْهَوْدَجِ فَوَدَّعَتِ النَّاسَ وَدَعَتْ لَهُمْ، وَقَالَتْ: يَا بَنِيَّ لَا يَعْتِبْ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ، إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَلِيٍّ فِي الْقِدَمِ إِلَّا مَا يَكُونُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَأَحْمَائِهَا، وَإِنَّهُ عَلَى مَعْتَبَتِي لمن الأخيار.

فقال علي: صدقت والله كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا إِلَّا ذَاكَ، وَإِنَّهَا لَزَوْجَةُ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ [البداية والنهاية 7/274].

8- ونادى مناد لعلي: “لا يقتل مدبر، ولا يجهز على جريح، ومن أغلق باب داره فهو آمن، ومن طرح السلاح فهو آمن”.

9- وأمر علي رضي الله عنه بجمع ما وجد لأصحاب عائشة رضي الله عنها في العسكر، وأن يحمل إلى مسجد البصرة، فمن عرف شيئاً هو لأهلهم فليأخذه.

فهذا -وغيره- يدل على فضل هؤلاء الصحابة الأخيار ونبلهم واجتهادهم في طلب الحق، وسلامة صدورهم من الغل والحقد والهوى، فرضي الله عنهم أجمعين.

الكتب التي ينصح بقراءتها في هذا الموضوع:

  • العواصم من القواصم لابن العربي.
  • البداية والنهاية لابن كثير.
  • عصر الخلافة الراشدة للدكتور أكرم ضياء العمري.

رب صل وسلم على نبينا محمد.

 

دروس من واقعة الجمل

شارك المحتوى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *