مقالات

ميلاد المسيح عليه السلام

بسم الله الرحمن الرحيم

ميلاد المسيح عليه السلام

جمعة: 27 جمادى الأولى 1443 الموافق: 31 ديسمبر 2021

مهران ماهر عثمان- مسجد السلام بالطائف مربع (22)

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛

فهذه قصة مناظرة وقعت بين يدي النجاشي رضي الله عنه.

وهذه القصة مشتملة على ذكر عقيدة المسلمين في شأن ميلاد المسيح عيسى عليه السلام، ولهذا آثرت أن تكون موضوع حديثنا، وهذا لا يعني أنا نسلِّم بأن ميلاده كان في الشتاء! ففي قرآننا ما يدل على أنه كان في موسم الرطب، قال تعالى: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾ [مريم: 25]، وفي إنجيل لوقا الإصحاح الثاني ما يدل على أن ميلاده كان في وقت الرعي([1])، وهذا لا يكون في فصل الشتاء! وأكرر ما قاله الشيخ أحمد ديدات في رده على من يزعم أن ميلاده كان في منتصف الشتاء: “إنَّ هذا الذي يرعى في الشتاء لهو راع أحمق”!!

ونحن لا نصدِّق بما في كتابهم إلا ما نزل القرآن بتصديقه، فكتابنا مهيمنٌ على جميع الكتب السابقة.

في صدر الإسلام لما أوذي المسلمون في مكة أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى الحبشة قائلاً: «إن بأرض الحبشة ملكاً لا يظلم أحدٌ عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه» أخرجه البيهقي في السنن، وهو في السلسلة الصحيحة برقم (3190).

قال ابن تيمية رحمه الله: “وَلِهَذَا يُرْوَى: اللَّهُ يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الْعَادِلَةَ وَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً، وَلَا يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الظَّالِمَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُؤْمِنَةً” [مجموع الفتاوى 28/ 63].

ولما هاجر المسلمون إلى الحبشة عزَّ على المشركين أن يجد المهاجرون مأمنا لأنفسهم ودينهم، فاختاروا رجلين جلدين لبيبين، وهما: عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة- قبل أن يسلما- وأرسلوا معهما الهدايا إلى النجاشي وحاشيته، وبعد أن ساق الرجلان تلك الهدايا إلى البطارقة، وزوداهم بالحجج التي يطرد بها أولئك المسلمون، وبعد أن اتفقت البطارقة أن يشيروا على النجاشي بإقصائهم، حضرا إلى النجاشي، وقدما له الهدايا ثم كلماه، فقالا له: أيها الملك، إنه قد ضَوى([2]) إلى بلدك غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم، لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم، وعاتبوهم فيه.

وقالت البطارقة: صدقاً أيها الملك! فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلى قومهم وبلادهم.

فَغَضِبَ النَّجَاشِيُّ، ثُمَّ قَالَ: لَاهَا اللَّهِ، إذَنْ لَا أُسْلِمُهُمْ إلَيْهِمَا، وَلَا يَكَادُ قَوْمٌ جَاوَرُونِي، وَنَزَلُوا بِلَادِي، وَاخْتَارُونِي عَلَى مَنْ سِوَايَ، حَتَّى أَدْعُوَهُمْ فَأَسْأَلَهُمْ عَمَّا يَقُولُ هَذَانِ فِي أَمْرِهِمْ، فَإِنْ كَانُوا كَمَا يَقُولَانِ أَسْلَمْتهمْ إلَيْهِمَا، وَرَدَدْتُهُمْ إلَى قَوْمِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مَنَعْتُهُمْ مِنْهُمَا، وَأَحْسَنْتُ جِوَارَهُمْ مَا جَاوَرُونِي.

وهذا عينُ العقل والعدل، أن يتثبَّت الإنسان مما نقل إليه، والله يقول: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [الحجرات: 6].

دعا النجاشي المسلمين، فحضروا، وكانوا قد أجمعوا على الصدق كائنا ما كان.

ففي الحديث المتفق عليه: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا. وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ؛ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا».

فقال لهم النجاشي: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به في ديني ولا دين أحد من هذه الملل؟

قال جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه -وكان هو المتكلم عن المسلمين-: أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل منا القوي الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام- فعدد عليه أمور الإسلام- فصدقناه، وآمنا به، واتبعناه على ما جاءنا به من دين الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحلّ لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك.

فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟

فقال له جعفر: نعم! فقال له النجاشي: فاقرأه عليّ. فقرأ عليه صدرا من كهيعص.

فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال لهم النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما ولا يكادون- يخاطب عمرو بن العاص وصاحبه- فخرجا.

فقال عمرو بن العاص لعبد الله بن ربيعة: والله لآتينهم غدا عنهم بما أستأصل به خضراءهم. فقال له عبد الله بن ربيعة: لا تفعل، فإن لهم أرحاماً وإن كانوا قد خالفونا، ولكن أصرَّ عمروٌ على رأيه.

فلما كان الغد قال للنجاشي: أيها الملك! إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولا عظيما، فأرسل إليهم النجاشي يسألهم عن قولهم في المسيح، ففزعوا، ولكن أجمعوا على الصدق، كائنا ما كان، فلما دخلوا عليه، وسألهم قال له جعفر: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.

وتلا جعفر رضي الله عنه عليه:

﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ [مريم: 26 – 36].

فَضَرَبَ النَّجَاشِيُّ بِيَدِهِ إلَى الْأَرْضِ، فَأَخَذَ مِنْهَا عُودًا، ثُمَّ قَالَ: وَاَللَّهِ مَا عَدَا عِيسَى بن مَرْيَمَ مَا قُلْتَ هَذَا الْعُودَ، قَالَتْ: فَتَنَاخَرَتْ بَطَارِقَتُهُ([3]) حَوْلَهُ حِينَ قَالَ مَا قَالَ، فَقَالَ: وَإِنْ نَخَرْتُمْ وَاَللَّهِ، اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ شُيُومٌ بِأَرْضِي- وَالشُّيُومُ: الآمنون([4]).

فهذه عقيدة كل مسلم في عيسى عليه السلام وفي ميلاده.

ثبت في الصحيحين، عَنْ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ العَمَلِ».

فعيسى عليه السلام عبد لله، وليس لله ولد.

ورسول لا يكذب.

الكفر به كفر برسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهو كلمة الله، أي: قال له كن فكان، فبكن كان عيسى، وليس عيسى هو كن، عليه سلام الله. قال تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: 59].

وروح منه: سرت في جسده روح خلقها الله، والإضافة إلى الله تعالى إضافة تشريف.

فهذا ما يجب على كل مسلم أن يعتقده في شأن المسيح عليه السلام وميلاده.

رب صل وسلم على نبينا محمد.

[1] / ورد في إنجيل “لوقا” حكاية عن ميلاد المسيح عليه السلام: “وكان في تلك الكورة رعاة متبدين، يحرسون حراسات الليل على رعيتهم، وإذا ملاك الرب وقف بهم ومجد الرب حولهم  فخافوا خوفاً عظيماً، فقال لهم الملاك: “لاتخافوا، فها أنا أبشركم بفرح عظيم، يكون لجميع الشعب، إنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلِّص هو المسيح” [إنجيل لوقا، إصحاح 2 ، عدد 8-9-10-11].

[2] / انضمَّ.

[3] / البطريق القائد، وتناخرت: أصدروا أصوات غضب.

[4] / سيرة ابن هشام (1/ 289- 291)، والفصول في السيرة لابن كثير، ص (102).

pdf
ميلاد المسيح

شارك المحتوى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *