مقالات

الحديبية الصلح المفترى عليه

بسم الله الرحمن الرحيم

الحديبية.. الصلحُ المفترى عليه!

   مهران ماهر عثمان

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، أما بعد؛

فأصل هذه المادة ثلاث خطب بعنوان: الحديبية الصلح المفترى عليه! وسبب ذلك إشاعة كثير ممن لا حظ عندهم من العلم، أو ممن امتلأت قلوبهم نفاقاً وشكاً، لشبهات تتعلق بهذا الصلح المبارك، ومن ذلك قولهم:

  • تنازل النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية عن شيء من الدين!
  • ترك كتابة البسملة.
  • ترك كتابة: محمد رسول الله، ولم يعتمر!!
  • عطل النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية حد الردة!
  • سلَّم النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين لعدوهم!
  • عصى الصحابة رضي الله عنهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم!

﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾ [الكهف: 5].

والعجيب أنَّ الله تعالى ذكر الحديبية في القرآن وسمى هذه المعاهدة فتحاً، وأهل الزيغ يريدون أن يجعلوا منها (شماعةً)! يعلِّقون عليها خيباتهم وذلَّهم!

حادثة الحديبية([1]).

كانت وقعة الحديبية في ذي القعدة سنة 6 هـ.

وقصة الحديبية ثابتة في صحيحي البخاري ومسلم، وخلاصة ما جرى:

أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام، وهو بالمدينة أنه دخل مع أصحابه المسجد الحرام، وأخذ مفتاح الكعبة، وطافوا واعتمروا، وحلق بعضهم وقصر بعضهم، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا، وحسبوا أنهم داخلوا مكة عامهم ذلك، وأخبر أصحابه أنه معتمر فتجهَّزوا للسفر.

استنفر العرب ومن حوله ليخرجوا معه، فأبطأ كثير من الأعراب، وخرج من المدينة يوم الاثنين غرة ذي القِعْدة سنة 6 هـ، ومعه زوجه أم سلمة، في ألف وأربعمائة، وقيل: ألف وخمسمائة، ولم يخرج بسلاح، إلا سلاح المسافر، السيوف في القُرُب([2]).

فلما كان بذي الحليفة قلَّد الهدي وأشعره([3])، وأحرم بالعمرة، ليأمن الناس من حربه.

وجمع كعب بن لؤي جموعا ليصدوا المسلمين عن البيت، فاستشار أصحابه، فقال أبو بكر: إنما جئنا معتمرين، ولم نجيء لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «فروحوا»، فراحوا.

ولما سمعت قريش بخروج النبيّ صلى الله عليه وسلم عقدت مجلسا استشاريا، قررت فيه صد المسلمين عن البيت كيفما أمكن، فخرج مائتا فارس بقيادة خالد بن الوليد، ورابطوا في الطريق الرئيس الذي يوصل إلى مكة، ورأى خالد المسلمين في صلاة الظهر يركعون ويسجدون فقال: لو كنا حملنا عليهم لأصبنا منهم، ثم قرر أن يميل على المسلمين- وهم في صلاة العصر- ميلة واحدة، ولكن الله أنزل حكم صلاة الخوف، فقاتت الفرصة خالداً.

أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقا مغايرا لئلا تكون حرب بينهم وبين المشركين، حتى إذا كان بثنية المرار بركت راحلته، فقال الناس: خلأت القصواء، خلأت القصواء، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل». ثم قال: «والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها» ثم زجرها فوثبت به، فتحرك بهم حتى نزل بأقصى الحديبية، على ثَمْدٍ([4])، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهماً من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فكثر وشربوا جميعاً.

وأول من جاء من المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: بُدَيل بن وَرْقاء الخزاعي في نفر من خزاعة، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُمُ الحَرْبُ، وَأَضَرَّتْ بِهِمْ، فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً، وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ، فَإِنْ أَظْهَرْ: فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا، وَإِلَّا فَقَدْ جَمُّوا، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي([5])، وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ». فقال بديل: سأبلغهم ما تقول، فانطلق حتى أتى قريشا: إني قد جئتكم من عند هذا الرجل، وسمعته يقول قولا، فإن شئتم عرضته عليكم. فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء. وقال ذو الرأي منهم: هات ما سمعته. قال: سمعته يقول كذا وكذا.

فقال عروة بن مسعود الثقفي: إن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، ودعوني آتيه، فأذنوا له، فأتاه، فجعل يكلمه، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم نحوا من قوله لبديل، فقال له عروة عند ذلك: أي محمد، أرأيت لو استأصلت قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك، وإن تكن الأخرى فوالله إني لأرى وجوها، وأرى أوباشا من الناس حقيق بهم أن يفروا ويدعوك، فقال له أبو بكر رضي الله عنه كلمةً عظيمةً يستحقها، فقال: من هذا؟ قالوا: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت عندي لم أجزك بها لأجبتك. ثم رجع  إلى أصحابه، فقال: أَيْ قَوْمِ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى المُلُوكِ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ، وَكِسْرَى، وَالنَّجَاشِيِّ، وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَمَّدًا، وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا.

ثم قال رجل من كنانة- اسمه الحُلَيْس بن عَلقمة- دعوني آتيه. فقالوا: ائته، فلما أشرف على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوها»، فبعثوها له، واستقبله القوم يلبُّون، فلما رأى ذلك. قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدُّوا عن البيت! فرجع إلى أصحابه فقال: رأيت البدن قد قُلِّدت وأُشْعِرت، وما أرى أن يصدوا.

فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ، فَقَالَ: دَعُونِي آتِيهِ، فَقَالُوا: ائْتِهِ، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا مِكْرَزٌ، وَهُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ»، فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

شباب طائشون!!

ولما رأى شباب قريش الطائشون، والطامحون إلى حرب، رغبة زعمائهم في الصلح، فكروا في خطة تحول بينهم وبين الصلح، فقرروا أن يخرجوا ليلا ويتسللوا إلى معسكر المسلمين، ويحدثوا أحداثا تشعل نار الحرب بين الفريقين، فخرج ثمانون منهم ليلا فهبطوا من جبل التّنعيم، وحاولوا التسلل إلى معسكر المسلمين، غير أن محمد بن سلمة قائد الحرس اعتقلهم جميعا، وأطلق سراحهم النبيّ صلى الله عليه وسلم وعفا عنهم؛ رغبةً في الصلح، وفي ذلك أنزل الله: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ﴾ [الفتح: 24].

بعث عثمان رضي الله عنه

أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث سفيرا يؤكد لدى قريش موقفه وهدفه من هذا السفر، فدعا عثمان رضي الله عنه، وأرسله إلى قريش، وقال: أخبرهم أنا لم نأت لقتال، وإنما جئنا عمارا، وأمره أن يأتي رجالا بمكة مؤمنين، ونساء مؤمنات، فيبشرهم بالفتح، ويخبرهم أن الله عز وجل مظهر دينه بمكة، حتى لا يستخفي فيها أحد بالإيمان.

وتأخر عثمان معهم لأن قريشا أرادت التشاور في هذه النازلة، وأشيع مقتل عثمان، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلي البيعة، فثاروا إليه يبايعونه على ألا يفروا، وبايعته جماعة على الموت وعلى عدم الفرار، وأول من بايعه أبو سنان الأسدي، وبايعه سلمة بن الأكوع على الموت ثلاث مرات، في أول الناس ووسطهم وآخرهم، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم: بيد نفسه وقال: «هذه عن عثمان» ، ولما تمت البيعة جاء عثمان فبايعه، ولم يتخلَّف عن هذه البيعة إلا رجل من المنافقين يقال له: جد بن قيس، وهذه هي بيعة الرضوان التي أنزل الله فيها: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ [الفتح: 18].

ثبت في سنن الترمذي عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ».

وفي صحيح مسلم، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ عَبْدًا لِحَاطِبٍ جَاءَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْكُو حَاطِبًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَذَبْتَ لَا يَدْخُلُهَا، فَإِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ».

ثم جاءْ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، فقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ». فَقَالَ: هَاتِ اكْتُبْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكَاتِبَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»، قَالَ سُهَيْلٌ: أَمَّا الرَّحْمَنُ، فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا هُوَ وَلَكِنِ اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ، فَقَالَ المُسْلِمُونَ: وَاللَّهِ لاَ نَكْتُبُهَا إِلَّا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ».

ثُمَّ قَالَ: «هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ»، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ البَيْتِ، وَلاَ قَاتَلْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ، وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي، اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ».

وهذه أهم بنود الصلح بين الطائفين:

  1. يرجع النبي صلى الله عليه وسلم من عامه، فلا يدخل مكة وإذا كان العام القابل دخلها واعتمر مع أصحابه.
  2. وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين، يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض.
  3. من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وتعتبر القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين جزءاً من ذلك الفريق، فأي عدوان تتعرض له أي من هذه القبائل يعتبر عدوانا على ذلك الفريق.
  4. أن من آمن وأتى النبي صلى الله عليه وسلم دون إذن وليه رده، ومن أتى قريشاً ممن كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يردوه عليه.

رد أبي جَنْدَل

وبينما الكتاب يكتب إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو في قيوده، قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين ظهور المسلمين، فقال سهيل: هذا أول ما أقاضيك عليه على أن ترده. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنا لم نقض الكتاب بعد». فقال: فو الله إذا لا أقاضيك على شيء أبدا. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «فأجزه لي». قال: ما أنا بمجيزه لك. قال: «بلى فافعل»، قال: ما أنا بفاعل. وقد ضرب سهيل أبا جندل في وجهه، وأخذ بتلابيبه وجره، ليرده إلى المشركين، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أأرد إلى المشركين يفتنوني في ديني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا، وأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عهد الله فلا نغدر بهم».

فوثب عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول: اصبر يا أبا جندل، فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب، ويدني قائم السيف منه، يقول عمر: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه، فضنَّ الرجل بأبيه، ونفذت القضية.

النحر والحلق للحل عن العمرة

ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قضية الكتاب قال: «قوموا، فانحروا»، فو الله ما قام منهم أحد حتى قال ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت: يا رسول الله أتحب ذلك؟ اخرج، ثم لا تكلم أحدا كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فقام فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما، وكانوا نحروا البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة، ونحر رسول الله صلى الله عليه وسلم جملا كان لأبي جهل، وكان في أنفه برة من فضة، ليغيظ به المشركين، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثا بالمغفرة وللمقصرين مرة.

الحزن يحيط بالمسلمين

قَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ: فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا، قَالَ: «بَلَى»، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الحَقِّ، وَعَدُوُّنَا عَلَى البَاطِلِ، قَالَ: «بَلَى»، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: «إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ، وَهُوَ نَاصِرِي»، قُلْتُ: أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي البَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: «بَلَى، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ العَامَ»، قَالَ: قُلْتُ: لاَ، قَالَ: «فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ»، قَالَ: فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَيْسَ هَذَا نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى البَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ، وَهُوَ نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الحَقِّ، قُلْتُ: أَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي البَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى، أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ العَامَ؟ قُلْتُ: لاَ، قَالَ: فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ.

شبهات تتعلق بالصلح

الشبهة الأولى

أكثر فرية يردده المتنازلون عن مبادئهم والبائعون لدينهم أنهم يقولون: تنازل النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية، وهذا يسوغ هذه التنازلات التي نقدمها لمصلحة الدين!!

﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾ [الكهف: 5].

والإجابة عن هذه الشبهة من وجوه([6]):

أولاً:

عزم النبي صلى الله عليه وسلم على قتال المشركين وألا يعطي الدنية في الدين.

فقد قال لبديل بن ورقاء: «إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُمُ الحَرْبُ، وَأَضَرَّتْ بِهِمْ، فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً، وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ، فَإِنْ أَظْهَرْ: فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا، وَإِلَّا فَقَدْ جَمُّوا، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي([7])، وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ».

أهذه روح خنوع أم روح عزة وتمسك بالدين!!

أين البائعون لدينهم والخاضعون لأعداء دينهم من هذه العزة النبوية؟!

هل سمعتم من واحد من هؤلاء الخانعين يقول: دون الشريعة دماؤنا؟! هل سمعتم من يقول ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: لندافعن عن الدين حتى تنقطع أعناقنا!!

ما أشبهككم بمن صالحهم النبي صلى الله عليه وسلم لصدكم عن دين الله وإثارتكم للشبهات مثلهم! وما أبعدكم عن سبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم!؟

ثانياً:

أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يبايعوه على القتال إن حصل اعتداء على فرد من المسلمين، وذلك لما أبطأ عنهم عثمان رضي الله عنه، فأين هذه العزة في قائمة أخلاقكم!!؟

كيف يتنازل عن دينه من بايع أصحابه للقتال لأجد واحد من أصحابه؟!

في رواية البخاري: بايع النبي صلى الله على الموت، ولمسلم: على ألا يفروا!

ولم يقاتلوا لأن عثمان لم يُقتل.

بالله عليكم ألا يستحي المعطون للدنية في دينهم، المنبطحون لأعدائهم، البائعون لدينهم، ألا يستحون من ذكر الحديبية على ألسنتهم؟!

ثالثاً:

جعل النبي صلى الله عليه وسلم تعظيم دين الله قوامَ هذا الصلح، ولذلك قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا» رواه البخاري.

فأين تعظيم دين الله في معاهدات الخنوع التي يستدل أصحابها بالحديبية! أين هم من هذه العزة؟!

رابعاً:

لم يفعل النبي صلى الله عليه وسلم حراماً ولم يترك واجباً، فكيف تقيسون تنصلكم من الدين وتنكركم له بما فعله سيد الخلق صلى الله عليه وسلم؟! هذا قياس مع الفارق، وبين المقيس والمقيس عليه كما بين السماء والأرض.

خامساً:

ما الذي تنازل عنه النبي صلى الله عليه وسلم؟ لم يكتب بسم الله الرحمن الرحيم.

هل كتابتها واجبة؟! كتب بدلا عنها: باسمك اللهم، أين الدليل على أن كتابة باسم الله، أو باسم العزيز، أو باسم الحكيم، أو باسمك اللهم، بدلا عن صيغة: بسم الله الرحمن الرحيم تنازل عن الدين؟!

لو أنه كتب باسم أصنامهم لصح استدلالكم بالواقعة، لكن كيف يستدل عاقل على كفر أو موبقة بترك مستحب!! أليس من يفعل ذلك أضل من حمار أهله!؟

ولما أملى: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، قال له سهيل: لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلنك؟ لكن اكتب: محمد بن عبد الله، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ، وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي، اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ» رواه البخاري.

وها هنا سؤالان:

هل يجب على النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب في اتفاقياته مع المشركين: محمد رسول الله؟!

هل يحرم عليه فيها أن يكتب: محمد بن عبد الله؟!

فرق بين هذا وبين ما لو قال –وحاشا أن يقول ذلك-: أعترف بأني لست رسول الله!

قال النووي رحمه الله: “أما الْبَسْمَلَةُ وَبِاسْمِكَ اللَّهُمَّ فَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ وَكَذَا قَوْلُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ أَيْضًا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ فِي تَرْكِ وَصْفِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِالرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَا يَنْفِي ذَلِكَ وَلَا فِي تَرْكِ وَصْفِهِ أَيْضًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَا بِالرِّسَالَةِ مَا يَنْفِيهَا فَلَا مَفْسَدَةَ فِيمَا طَلَبُوهُ وَإِنَّمَا كَانَتِ المفسدة تكون لو طلبوا أن يكتب مالا يَحِلُّ مِنْ تَعْظِيمِ آلِهَتِهِمْ”([8]).

سادساً:

طُلِب من النبي صلى الله عليه وسلم ألا يعتمروا ذلك العام فوافقهم على أن تكون العمرة في العام الذي يليه.

والسؤال: أين ترك الواجب هنا؟

يقال لمن جاء بهذه الشبهة ويستدل بها على تنازلات عن الدين وكفر وطوام: هل العمرة في ذاك العام واجبةً؟ ليس للمسؤول سوى أحد جوابين؛ إما أن يقول: نعم، فيقال له: أين الدليل؟ ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: 111]. وإما أن يقول: لا، فيقال: كيف تستدل بترك أمر غير واجب على ترك الواجبات واقتحام الكفر والمحرمات؟!!

سابعاً:

القبول برد المسلمين إلى الكافرين كان بوحي من الله تعالى.

ففي صحيح مسلم: فَاشْتَرَطُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكُمْ، وَمَنْ جَاءَكُمْ مِنَّا رَدَدْتُمُوهُ عَلَيْنَا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَكْتُبُ هَذَا؟ قَالَ: «نَعَمْ، إِنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ اللهُ، وَمَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ سَيَجْعَلُ اللهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا»، فهذا غيب لا يكون إلا بوحي؛ فإن الفاروق لما قال له بعدها: لم نعطي الدنية في ديننا، بماذا أجاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: «إني رسول الله، ولست أعصيه»، وهذا يدل على أن الموافقة على ما اشترطوه كان بوحي، ولهذا قال: «ولست أعصيه»، أي أن هذا البند وحي من الله لا أخالفه، أن أعطيهم ما سألوه هذا أمر من الله. فهذه مسألة خاصة به صلى الله عليه وسلم.

وتأمل فيما قاله ابن حزم رحمه الله معلقاً على قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ اللهُ، وَمَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ سَيَجْعَلُ اللهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا»، قال: “فأيقنا أنَّ إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن من جاءه من عند كفار قريش مسلما فسيجعل الله له فرجا ومخرجا وحيٌّ من عند الله صحيح، لا داخِلَةَ فيه، فصحَّت العصمةُ بلا شك من مكروه الدنيا والآخرة لمن أتاه منهم حتى تتم نجاتُه من أيدي الكفار، لا يستريب في ذلك مسلم يحقِّق النظر، وهذا أمر لا يعلمه أحد من الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يحل لمسلم أن يشترط هذا الشرط ولا أن يفيَ به إن شرطه؛ إذ ليس عنده من علم الغيب ما أوحى الله تعالى به إلى رسوله، وبالله تعالى التوفيق”([9]).

وقال ابن العربي رحمه الله: “فَأَمَّا عَقْدُهُ عَلَى أَنْ يَرُدَّ مَنْ أَسْلَمَ إلَيْهِمْ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا جَوَّزَهُ اللَّهُ لَهُ لِمَا عَلِمَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَةِ، وَقَضَى فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ([10])، وَأَظْهَرَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ حُسْنِ الْعَاقِبَةِ وَحَمِيدِ الْأَثَرِ فِي الْإِسْلَامِ مَا حَمَلَ الْكُفَّارَ عَلَى الرِّضَا بِإِسْقَاطِهِ، وَالشَّفَاعَةِ فِي حَطِّهِ”([11]).

وقوله: “وَأَظْهَرَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ حُسْنِ الْعَاقِبَةِ وَحَمِيدِ الْأَثَرِ فِي الْإِسْلَامِ مَا حَمَلَ الْكُفَّارَ عَلَى الرِّضَا بِإِسْقَاطِهِ، وَالشَّفَاعَةِ فِي حَطِّهِ” يشير به إلى عاقبة أمرهم. فإنَّ أبا بَصِيرٍ جاء إلى المسلمين بعد أبي جندل، فَأَرْسَلُوا فِي طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ، فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بَلَغَا بِهِ ذَا الْحُلَيْفَةِ فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ، فَقَتَلَ أَبُو بَصِيرٍ أَحَدَهُمَا، وَفَرَّ الْآخَرُ، حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ يَعْدُو، لرسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَك، ثُمَّ أَنْجَانِي مِنْهُمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ لَوْ كَانَ مَعَهُ رِجَالٌ». فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إلَيْهِمْ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سِيفَ الْبَحْرِ قَالَ: وَتَفَلَّتَ مِنْهُمْ أَبُو جُنْدُبِ بْنُ سُهَيْلٍ، فَلَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، وَجَعَلَ لَا يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَسْلَمَ إلَّا لَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ، فَوَاَللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إلَى الشَّامِ إلَّا اعْتَرَضُوهُمْ فَقَتَلُوهُمْ، وَأَخَذُوا بِأَمْوَالِهِمْ. فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَنْشُدُهُ اللَّهَ وَالرَّحِمَ إلَّا أَرْسَلَ إلَيْهِمْ، فَمَنْ أَتَاهُ فَهُوَ آمِنٌ.

هذه عاقبة متابعة الوحي والخضوع لأمر الله، وليس لأمر أعداء الله!!

ثامناً:

سمَّى الله تعالى هذا الصلح فتحاً، فكيف يشتمل على تنازل وخنوع مع كونه فتحاً؟!

قال تعالى: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ [الفتح: 27].

أي: “فعلم ما لم تعلموا من المصلحة في الصلح، ﴿فجعل من دون ذلك﴾، أي: دخولكم مكة كما أرى رسوله. ﴿فتحاً قريباً﴾، قال أكثر المفسرين:  قال أكثر المفسرين: هو صلح الحديبية، … وقال الزهري: لا فتح في الإسلام كان أعظم من صلح الحديبية، ولقد دخل في تلك السنين في الإسلام مثل من كان قد دخل فيه قبل ذلك، بل أكثر، فإن المسلمين كانوا في سنة ست وهي سنة الحديبية ألفاً وأربعمائة وكانوا في سنة ثمان عشرة آلاف”([12]).

تاسعاً:

لم يستشر النبي صلى الله عليه وسلم في بنود هذا الاتفاق أحداً من أصحابه، وعادته صلى الله عليه وسلم أنه كان يستشيرهم، وهذا يدل على أنَّه وحي من الله تعالى، قد أمر به، فلم يستشر فيه أحداً.

عاشراً:

الحديبية دليل على التمسك بالدين وعلى هدم المصالح المتوهمة التي تناقض الدين، ودليل على تمام الانقياد لله تعالى.

الدليل: ما قاله سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ رضي الله عنه: “اتَّهِمُوا الرَّأْيَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَهُ لَرَدَدْتُ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ” رواه البخاري.

اتَّهِمُوا الرَّأْيَ: أي: اتهموا عقولكم فيما تتوهم أنه مصلحة وهو مخالف لدين الله، لا تثقوا في تقديراتكم للمصالح والمفاسد.

فائدة

لماذا لم تنزل الآية التي أوضح الله فيها أن الحديبية فتح من أول الأمر ليسلم الصحابة بعدها ولا يشوش الصلح عليهم؟

والجواب: ليتحقق الانقياد أولاً، وبعده يأتي التطمين من الله تعالى؛ لا أن تُوضَّح لهم المصلحة لتحملهم على طاعة الله، بل ينقادون أولاً قبل ظهورها لهم، ويسلِّموا لأمر الله.

الحاديَ عشر:

أنَّ الله لم يمنع من المبايعة على القتال لأجل عثمان، وإنما منعهم من القتال لأبي جندل، وهذا يدل على أن الأمر وحي من الله تعالى.

الثانيَ عشر:

قال ابن كثير رحمه الله: “هَاجَرَتْ أُمِّ كُلْثُومِ بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيط فِي الْهِجْرَةِ، فَخَرَجَ أَخَوَاهَا عُمَارَةُ وَالْوَلِيدُ حَتَّى قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَلَّمَاهُ فِيهَا أَنْ يَرُدَّهَا إِلَيْهِمَا، فَنَقَضَ اللَّهُ الْعَهْدَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ فِي النِّسَاءِ خَاصَّةً، وَمَنَعَهُنَّ أَنْ يُرْدَدْنَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الِامْتِحَانِ”([13]).

فالله يبقي على ما يشاء ويبطل ما يشاء، ولا يسع النبي إلا أن يطيع الله تعالى.

ونزلت: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ واللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الممتحنة: 10].

الشبهة الثانية

عطل النبي صلى الله عليه وسلم حد الردة!

ثبت في صحيح مسلم أنهم اشترطوا على النبي صلى الله عليه وسلم: “أَنْ مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكُمْ، وَمَنْ جَاءَكُمْ مِنَّا رَدَدْتُمُوهُ عَلَيْنَا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَكْتُبُ هَذَا؟ قَالَ: «نَعَمْ، إِنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ اللهُ، وَمَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ سَيَجْعَلُ اللهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا».

ولا أدري أين تعطيل حد الردة هنا!

غاية ما في هذا البند أنَّ من آمن وجاء من المشركين رده النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في هذا أن يرتد!

وأن من ذهب إليهم من المسلمين لم يردوه، أي أنه ليس للنبي صلى الله عليه وسلم عليه سلطان وهو بين أظهر المشركين، فكيف سيقيم الحد عليه؟!!

وهذا الحد مجمع عليه، قال ابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى: “وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَمُعَاذٍ، وَأَبِي مُوسَى، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَخَالِدٍ، وَغَيْرِهِمْ، وَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ، فَكَانَ إجْمَاعًا”([14]).

كلّ هؤلاء لم يفهموا من صلح الحديبية تعطيلاً أو نسخاً لحد الردة وفهمه هؤلاء الذين مرضت قلوبهم!

وإني وإن كنت الأخيرَ زمانه ** لآتٍ بما لم تستطعه الأوائلُ!!

روى الشيخان في صحيحهما، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَجُلًا أَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ، فَأَتَى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ عِنْدَ أَبِي مُوسَى، فَقَالَ: مَا لِهَذَا؟ قَالَ: أَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ. قَالَ معاذ: لَا أَجْلِسُ حَتَّى أَقْتُلَهُ، قَضَاءُ الله وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

الشبهة الثالثة

لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً أن يمحوَ: رسول الله، قال: والله لا أمحاها.

فهل وقع علي رضي الله عنه في مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم؟

قال الملا علي القاري رحمه الله: “قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَهَذَا الَّذِي فَعَلَهُ عَلِيٌّ مِنْ بَابِ الْأَدَبِ الْمُسْتَحَبِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتِيمَ مَحْوٍ عَلَى نَفْسِهِ، وَلِهَذَا لَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ، وَلَوْ حَتَّمَ مَحْوَهُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ لِعَلِيٍّ تَرْكُهُ”([15]).

وسيدنا علي رضي الله عنه من أشد الناس متابعةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذا علي لمَّا قال النبي صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَر: “لَأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ” دَعَاه فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، وَقَالَ: «امْشِ وَلَا تَلْتَفِتْ حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ». فَسَارَ عَلِيٌّ شَيْئًا، ثُمَّ وَقَفَ وَلَمْ يَلْتَفِتْ؛ لمقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَصَرَخَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى مَاذَا أُقَاتِلُ النَّاسَ؟ قَالَ: «قَاتِلْهُمْ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ مَنَعُوا مِنْكَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» رواه مسلم.

وقال علي بن ربيعة: شَهِدْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأُتِيَ بِدَابَّةٍ لِيَرْكَبَهَا، فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ قَال: بِسْمِ اللَّهِ، فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِهَا قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ -ثَلَاثَ مَرَّاتٍ- ثُمَّ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ -ثَلَاثَ مَرَّاتٍ- ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَكَ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، ثُمَّ ضَحِكَ. فَقِيلَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ؟ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ كَمَا فَعَلْتُ، ثُمَّ ضَحِكَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ ؟ قَالَ: «إِنَّ رَبَّكَ يَعْجَبُ مِنْ عَبْدِهِ إِذَا قَالَ: اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرِي» رواه أبو داود.

الشبهة الرابعة

قالوا: خالف الصحابة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

في صحيح البخاري: لما فرغ من قضية الكتاب، قال رسول الله لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا. قال: فوالله ما قام منهم رجل، حتى قال ذلك ثلاث مرات.

والجواب:

الذي يقف على هذا القدر ولا يكمل القصة كالمريض قلبُه الذي يقرأ: ﴿فويل للمصلين﴾، ولا يكملها.

في صحيح البخاري، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: «قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا»، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ، اخْرُجْ ثُمَّ لاَ تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً، حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ، فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا، فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا.

فحصل منهم الامتثال لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فلماذا لم يقوموا أول الأمر؟

تعلقت قلوبهم بالعمرة فكانوا يأمُلون في العودة عن الصلح والإذن لهم بالعمرة؛ ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أنهم يطوفون بالبيت، فغاب عنهم أنه لا يلزم من الرؤيا النبوية أن يتحقق في هذا العام([16]).

هؤلاء الرجال أمرهم نبينهم صلى الله عليه وسلم أن يبايعوه على الموت فبايعوه، أمرهم بالخروج معه إلى الحديبية فخرجوا، أمرهم أن يطلقوا الشباب الطائشين الذين أمسكوا بهم فأطلقوهم، وأصحاب الغرض والمرض يتركون ذلك كله، ولا يلتفتون إلا إلى هذه الحادثة، فما أشبههم بالذباب الذي لا يقع إلا على القاذورات!

وأذكر بحادثتين تدلان على كمال طاعتهم لنبيهم صلوات الله وسلامه عليه:

ثبت عند أبي داود عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ إِذْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْقَوْمُ أَلْقَوْا نِعَالَهُمْ. فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاتَهُ قَالَ: «مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إِلْقَاءِ نِعَالِكُمْ»؟ قَالُوا: رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ نَعْلَيْكَ فَأَلْقَيْنَا نِعَالَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا. إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلْيَنْظُرْ، فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ قَذَرًا أَوْ أَذًى فَلْيَمْسَحْهُ وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا».

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فِي يَدِ رَجُلٍ، فَنَزَعَهُ فَطَرَحَهُ، وَقَالَ: «يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إِلَى جَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ فَيَجْعَلُهَا فِي يَدِهِ»! فَقِيلَ لِلرَّجُلِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: خُذْ خَاتِمَكَ انْتَفِعْ بِهِ. قَالَ: لَا والله، لَا آخُذُهُ أَبَدًا وَقَدْ طَرَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم.

لو كانوا أهل معصية ومخالَفةٍ لنبيهم لما استحقوا أن يخبر الله عنهم برضائه عنه بسبب طاعتهم لنبيهم في مبايعته! قال ربنا: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ [الفتح: 18].

أعظم درس في هذا الفتح

قاله سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ رضي الله عنه: “اتَّهِمُوا الرَّأْيَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَهُ لَرَدَدْتُ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ” رواه البخاري.

فاتهموا آراءكم إذا أملت عليكم مخالفة أمرِ نبيكم صلى الله عليه وسلم.

في صحيح البخاري، قَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ: فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا، قَالَ: «بَلَى»، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الحَقِّ، وَعَدُوُّنَا عَلَى البَاطِلِ، قَالَ: «بَلَى»، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: «إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ، وَهُوَ نَاصِرِي»، قُلْتُ: أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي البَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: «بَلَى، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ العَامَ»، قَالَ: قُلْتُ: لاَ، قَالَ: «فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ»، قَالَ: فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَيْسَ هَذَا نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى البَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ، وَهُوَ نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الحَقِّ، قُلْتُ: أَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي البَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى، أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ العَامَ؟ قُلْتُ: لاَ، قَالَ: فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ، – قَالَ الزُّهْرِيُّ: قَالَ عُمَرُ -: فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالًا.

ولأحمد: قَالَ عُمَرُ: مَا زِلْتُ أَصُومُ وَأَتَصَدَّقُ وَأُصَلِّي وَأَعْتِقُ مِنَ الَّذِي صَنَعْتُ مَخَافَةَ كَلَامِي الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ يَوْمَئِذٍ حَتَّى رَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ خَيْرًا.

وهذا يعلمنا أن الخير كله في كمال الانقياد والطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنَّ الرأي المخالف للسنة لابد أن يكون ضلالاً، قال ربنا: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [القصص: 50].

ربِّ صلِّ وسلِّم على نبيِّنا محمَّد.

————————————————–

[1] / بتصرف من الرحيق المختوم..

[2] / جمع قِراب: غِمْد السيف.

[3] / التقليد: ربط حبل من وبر أو شعر على رقبة البعير علامة على أنها مهداة للحرم. والإشعار: شق سنام الإبل علامة على أنها مهداة للحرم كذلك.

[4] / الثَّمْد: الماء القليل.

[5] / “تنفرد سالفتي، أَي: يَنْقَطِع عنقِي؛ لِأَن السالفة أعلى الْعُنُق. وَقيل للْإنْسَان سالفتان وهما جانبا الْعُنُق” [فتح الباري لابن حجر  1/ 133].

[6] / هذه الأوجه مستفادة من كلمة للأستاذ الدكتور/ إياد قنيبي وفقه الله.

[7] / “تنفرد سالفتي، أَي: يَنْقَطِع عنقِي؛ لِأَن السالفة أعلى الْعُنُق. وَقيل للْإنْسَان سالفتان وهما جانبا الْعُنُق” [فتح الباري لابن حجر  1/ 133].

[8] / شرح مسلم (12/ 139).

[9] / الإحكام في أصول الأحكام (5/ 26).

[10] / المصلحة الربانية، وليست المصلحة المزعومة التي يُتَنَصَّل بادِّعائها عن دين الله!

[11] / أحكام القرآن (4/ 231).

[12] / فتح البيان في مقاصد القرآن (13/ 118).

[13] / تفسير القرآن العظيم (8/ 92).

[14] / المغني (9/ 16).

[15] / مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (6/ 2615).

[16] / انظر: السيرة النبوية الصحيحة لأكرم ضياء العمري (2/ 446).

PDF
الحديبية الصلح المفترى عليه

 

شارك المحتوى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *