مقالات

بر الوالد بالميت

بسم الله الرحمن الرحيم

بر الوالد الميت

مهران ماهر عثمان

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛ فهذه كلمات تتعلق ببر الوالد الميت، أسأل الله أن يرزقني ومن قرأها ونشرها الإخلاص، فأقول مستعينا بالله:

 

أهمية الموضوع

مما يبين أهميَّة الموضوع ما يلي:

  1. أنه أعظم في الأجر؛ فالولد الحي قد يحمله خوفه من أبيه أو ثناء أبيه عليه أمام الناس على البر، أما بر الوالد الميت فهو أمارة على الصدق وكمال الإخلاص.
  2. الوالد إذا مات انقطع عمله، وواجه الحساب، فهو أحوج ما يكون إلى بر ولده وهو في قبره.
  3. والبر بعد الموت يكمل به الولد ما نقص من بره به حال حياته.
  4. وبه يصير العاق من أهل البر؛ إذا تاب وأحسن في إعمال صور البر بعد موت والده.

 

صور بر الوالد الميت

لذلك تسع عشرة صورة، خمسة منها جمعها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث واحد:

فعَنْ أَبِي أُسَيْدٍ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله هَلْ بَقِيَ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا؟ قَالَ «نَعَمْ؛ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا، وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا تُوصَلُ إِلَّا بِهِمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا» رواه أبوداود.

وبعد هذا الإجمال يأتي التفصيل في الحديث عن هذه الصور:

 

1/ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا

الصلاة: الدعاء. قال ربنا: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لهم﴾ [التوبة/103]. أي: ادع لهم؛ فدعاؤك طمأنينة لهم.

وفي صحيح مسلم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ».

فبم يدعو الولد؟

بأن يجعل الله قبره روضة من رياض الجنة، وأن يرد الحوض على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدعو له برؤية الله تعالى، وبأن يخفف الله عنه طول الموقف يوم العرض على الله، وأن يدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب، وأن يجعله رفيقا لرسولنا صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى من الجنة.

فيدعو بكل ما من شأنه أن يصلح أمر آخرته.

 

2/ الاستغفار لهما

وقد ذكر الله تعالى عن نوح عليه السلام قوله: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارًا﴾ [نوح/28].

وعن إبراهيم عليه السلام: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾ [إبراهيم/41].

والاستغفار للميت عموما مما ندب إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف بالوالد؟

ثبت في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: نَعَى لَنَا رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّجَاشِيَّ صَاحِبَ الْحَبَشَةِ يَوْمَ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَقَالَ: «اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُم».

وقال جبريل لنبينا صلى الله عليهما وسلم: «إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَ أَهْلَ الْبَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ» رواه مسلم.

وأولى الأموات باستغفارك والداك، فقد ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاستغفار لهما بقوله: «إِنَّ الرَّجُلَ لَتُرْفَعُ دَرَجَتُهُ فِي الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: أَنَّى هَذَا؟ فَيُقَالُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ» رواه أحمد وابن ماجة.

ويتأكد ذلك بعد دفنه، فيمكث بقدر ما ينحر الجزور يدعو له بالمغفرة والثبات عند فتنة القبر وسؤاله. روى أبو داود من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم: إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: «اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ، وَسَلُوا لَهُ بِالتَّثْبِيتِ؛ فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ».

 

3/ إنفاذ عهدهما

إمضاء وصيتهما.

ولا يشترط أن تكون الوصية مكتوبة، وليس شرطا أن تكون موثقة، وتنفذ الوصية بعد الدين؛ قال ابن كثير رحمه الله: “الدين مقدم على الوصية، وبعده الوصية ثم الميراث، وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء” [تفسير ابن كثير 2/201].

وكل وصية شتملت على محرم فإنها لا تنفذ، قال تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ [النساء/12]، قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: “أي: لتكون وصيته على العدل لا على الإضرار والجور والحيف بأن يحرم بعض الورثة أو ينقصه، أو يزيده على ما قدر الله له من الفريضة، فمن سعى في ذلك كان كمن ضاد الله في حكمته وقسمته”.

ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنه: “الإضرار في الوصية من الكبائر” رواه سعيد بن منصور موقوفا بإسناد صحيح، ورواه النسائي.

فلا تنفذ الوصية إذا أوصى الوالد لوارث؛ إلا إذا رضي الورثة، ومن لم يرض لم يكن عاقا. قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الله قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ، فَلا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» رواه أبو داود. ورواه الدارقطني من حديث ابن عباس رضي الله عنه بلفظ: «لا تجوز الوصية لوارث إلا أن يشاء الورثة»، وهذا حسنه الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام.

ولا تنفذ الوصية إلا بقدر الثلث، إلا إذا أجازها الورثة، ومن تمسك بحقه فليس تمسكه من العقوق في شيء، ثبت في الصحيحين، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي وَأَنَا بِمَكَّةَ وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ يَمُوتَ بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا، فقَالَ: «يَرْحَمُ الله ابْنَ عَفْرَاءَ». قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ؟ قَالَ: «لَا». قُلْتُ: فَالشَّطْرُ؟ قَالَ: «لَا». قُلْتُ: الثُّلُثُ؟ قَالَ: «فَالثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَإِنَّكَ مَهْمَا أَنْفَقْتَ مِنْ نَفَقَةٍ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ، حَتَّى اللُّقْمَةُ الَّتِي تَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِكَ».

ومن الوصايا المحرمة: الوصية بحرمان بعض الورثة من الميراث، قال الله تعالى: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ [النساء/7].

وبعد أن بين الله الورثة وأنصبتهم في القرآن قال: ﴿وَمَنْ يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [النساء/14].

ومما لا ينفذ من الوصايا: لو أوصى أنه لا يشهد جنازته فلان ولا يخبر به.

فهذا الأمر قد يفسد العلاقات الأسرية ويقطع الأرحام ويفسد ذات البين؛ فلا يخبر فلان هذا بما قاله الوالد ولا يمنع من شيء من هذا؛ فالشريعة جاءت بالحث على التواصل وصلة الرحم.

وكما لو أوصى أن يتزوج ابنه فلانة، أو تزوج بنته لفلان، أو لا يتزوج ولده من فلانة، هذا لا يعتد به إلا إذا رضي الولد.

قال ابن رشد رحمه الله: “لا يلزم أن يُنفَّذ من الوصايا إلا ما فيه قربة وبر” [البيان والتحصيل 2/ 287].

 

4/ صلة الرحم التي لا توصل إلا بهما

وهذه تفسرها رواية البيهقي: «وصلة رحمهما التي لا رحم لك إلا من قبلهما».

 

5/ إكرام صديقهما

فمن بر الوالد أن يصل ولدُه أصدقاءه وأسرهم وآلهم.

في صحيح مسلم، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَعْرَابِ لَقِيَهُ بِطَرِيقِ مَكَّةَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ عَبْدُ الله، وَحَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ كَانَ يَرْكَبُهُ، وَأَعْطَاهُ عِمَامَةً كَانَتْ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ ابْنُ دِينَارٍ: فَقُلْنَا لَهُ: أَصْلَحَكَ الله إِنَّهُمْ الْأَعْرَابُ وَإِنَّهُمْ يَرْضَوْنَ بِالْيَسِيرِ فَقَالَ عَبْدُ الله: “إِنَّ أَبَا هَذَا كَانَ وُدًّا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ». ولذا أحسن ابن عمر إلى ولده.

وعن أبي بردة قال: قدمت المدينة فأتاني عبد الله بن عمر، فقال: أتدري لم أتيتك؟ قال: قلت: لا. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أحب أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه بعده»، وإنه كان بين أبي عمر وبين أبيك إخاء وود، فأحببت أن أصل ذاك. رواه ابن حبان في صحيحه.

وثبت عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، وَمَا رَأَيْتُهَا، وَلَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ، ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً، ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ، فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ: كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةُ! فَيَقُولُ: «إِنَّهَا كَانَتْ وَكَانَتْ، وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ» رواه البخاري.

هذا في الزوجة، فكيف بالأم والأب؟

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حُسن العهد من الإيمان» رواه الحاكم. وحسن العهد: الوفاء، ومن صوره: صلة أهل ود الوالد.

 

6/ السعي لتكثير المصلين عليه

قال صلى الله عليه وسلم: «مامن ميت تصلي عليه أمة من المسلمين، يبلغون مائة، كلهم يشفعون له، إلا شفعوا فيه» رواه مسلم، وفي لفظ: «إلا غفر له». وله أيضاً: «مامن رجل مسلم يموت، فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه».

 

7/ زيارة قبره

في صحيح مسلم، أن نبينا صلى الله عليه وسلم زار قبر أمه، وبكى، وأبكى من حوله.

وتكون الزيارة للبر بالوالد، وللدعاء له، وللاتعاظ بتذكر الآخرة.

وبعضهم يزور قبر أمه أو أبيه ويتحدث عنده في كثير مما حدث بعده، ويشعر براحة لذلك، يفعل ذلك أحيانا، وهو لا يعتقد أن والده يسمعه، فهذا مما لا يُنكر عليه، ولا يُنهى عنه.

كتب الشيخ محمد بن إبراهيم الدكدكاجي يوصي ولده إبراهيم، يقول:

زُر والديك وقف على قبريهمـا     فكأنني بك قد نُقِلت إليهــــــــما

لو كنت حيث هما وكانا بالبقا     زاراك حبوا لا على قدميهـــــــــــــما

ما كان ذنبهما إليك فطالمـــــــــــــا     منحاك نفس الود من نفسيهما

كانا إذا ما أبصرا بك علـــــــــــــــة     جزعا لما تشكو وشق عليـــــــــهما

كانا إذا سمعا أنينك أســـــــــــــبلا     دمعيهما أسفا على خديهــــــــــــــما

وتمنيا لو صادفا بك راحـــــــــــــــــة      بجميع ما تحويه ملك يديهـــــــــــما

ولتلحقنهما غدا أو بعـــــــــــــــــده      حتما كما لحقا هما أبويهـــــــــــــــــما

ولتندمنَّ على فعالك مثلــــــــما      ندما هما قدما على فعليهـــــــــــــــما

بشراك لو قدمت فعلا صالحا     وقضيت بعض الحق من حقيهما

وقرأت من آي الكتاب بقدرما   تسطيعه وبعثت ذاك إليهــــــــــــــــــــــما

فاحفظ حُفِظت وصيتي واعمل بها    فعسى تنال الفوز من بريهـــــــــــــــــما

 

8/ الصلاة عليه بعد الدفن إذا لم يكن صلى عليه

ففي صحيح مسلم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ، فَفَقَدَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَ عَنْهَا فَقَالُوا: مَاتَت، قَالَ: «أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي». فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا، فَقَالَ: «دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِا» فَدَلُّوهُ، فَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ».

وهذا يدل على مشروعية هذا العمل لمن لم يكن صلى على الميت.

 

9/ قضاء دينه

في صحيح البخاري، عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، قَالَ: لَمَّا وَقفَ الزُّبَيْرُ يَوْمَ الجَمَل دَعَانِي فَقُمْتُ إِلَى جَنْبه، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، إنَّهُ لاَ يُقْتَلُ اليَومَ إلاَّ ظَالِمٌ أَوْ مَظْلُومٌ، وَإنِّي لا أراني إلاَّ سَأُقْتَلُ اليوم مظلوماً، وإنَّ مِنْ أكبرَ هَمِّي لَدَيْنِي، أفَتَرَى دَيْننا يُبقي من مالِنا شَيئاً؟ ثُمَّ قَالَ: يَا بُنَيَّ، بعْ مَا لَنَا وَاقْضِ دَيْنِي، يَا بُنَيَّ، إنْ عَجَزْتَ عَن شَيْءٍ مِنْهُ فَاسْتَعِنْ عَلَيهِ بِمَوْلاَيَ. قَالَ: فَوَاللهِ مَا دَرَيْتُ مَا أرَادَ حَتَّى قُلْتُ: يَا أبَتِ مَنْ مَوْلاَكَ؟ قَالَ: الله. قَالَ: فَوَاللهِ مَا وَقَعْتُ في كُرْبةٍ مِنْ دَيْنِهِ إلاَّ قُلْتُ: يَا مَوْلَى الزُّبَيْرِ اقْضِ عَنْهُ دَيْنَهُ فَيَقْضِيَهُ.

فهذا من البر بالوالد ولو لم يترك وفاء.

روى النسائي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَحْشٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ وَضَعَ رَاحَتَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ ثُمَّ قَالَ: «سُبْحَانَ الله! مَاذَا نُزِّلَ مِنَ التَّشْدِيدِ»؟ فَسَكَتْنَا وَفَزِعْنَا، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ سَأَلْتُهُ: يَا رَسُولَ الله، مَا هَذَا التَّشْدِيدُ الَّذِي نُزِّلَ؟ فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَوْ أَنَّ رَجُلا قُتِلَ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ أُحْيِيَ، ثُمَّ قُتِلَ ثُمَّ أُحْيِيَ، ثُمَّ قُتِلَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مَا دَخَلَ الْجَنَّةَ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ دَيْنُهُ».

وفي صحيح مسلم، أن رجلا قال: يَا رَسُولَ الله أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ الله تُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ، إِنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ الله وَأَنْتَ صَابِرٌ، مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ، غَيْرُ مُدْبِرٍ». ثُمَّ قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ قُلْتَ»؟ قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ الله أَتُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ وَأَنْتَ صَابِرٌ، مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ، إِلَّا الدَّيْنَ، فَإِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لِي ذَلِكَ».

فإذا كان هذا في حق الشهيد فما بالك بمن دونه؟

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ» رواه الترمذي.

قال السيوطي: أي محبوسة عن مقامها الكريم [قاله المباركفوري في تحفة الأحوذي 4/164].

وترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على من مات وعليه ديناران، حتى تكفل بسدادهما أبو قتادة رضي الله عنه، فلما رآه من الغد وقال له قد قضيتها، قال صلى الله عليه وسلم: «الْآنَ بَرَدَتْ عَلَيْهِ جِلْدُهُ» رواه أحمد في المسند. وفي لفظ: «برّدتَ عليه جلدتَه». وهذه يفسرها ما قبلها.

 

10/ أخذ العفو للوالد ممن ظلمهم

قال صلى الله عليه وسلم: «أتدرون ما المفلس»؟ قالوا: المفلس فينا من لا دراهم له ولا متاع. فقال: «إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه ثم طُرح في النار» رواه مسلم.

فمن البر بالوالد إذا علمت أنه اعتدى على عرض أحد أن تطلب منه العفو عنه.

 

11/ قطع آثاره السيئة

قال ربنا: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ [يس/12].

والمراد: آثار الخير والشر، فإذا ترك الوالد ما يأثم الناس به كان له مثل إثمهم، كقنوات هابطة، ومواد محرمة، وكتب خبثة، ومجلات خليعة، فلابد من التخلص من ذلك كله.

 

12/ التصدق عنهما

عن ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا: أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا، فَقَالَ يَا رَسُولَ الله إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهَا أَيَنْفَعُهَا شَيْءٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ». قَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطِيَ الْمِخْرَافَ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا.

والمخراف الذي يخترف ويجتنى.

وفي سنن أبى داود، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ الله إِنَّ أُمَّ سَعْدٍ مَاتَتْ فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ «الْمَاءُ». فَحَفَرَ بِئْرًا، وَقَالَ: هَذِهِ لِأُمِّ سَعْدٍ.

يقول القرطبي رحمه الله تعالى في هذا الآية: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قَالُوا إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [الأعراف/50]: “في هذه الآية دليل على أن سقيا الماء من أفضل الأعمال”.

وفي صحيح مسلم، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أُمِّيَ افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَإِنِّي أَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، فَلِي أَجْرٌ أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ».

وفيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَبِي مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا وَلَمْ يُوصِ، فَهَلْ يُكَفِّرُ عَنْهُ أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهُ؟ قَالَ: «نَعَمْ».

 

13/ الوفاء بنذرهما

في صحيح البخاري، عَبْدَ الله بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ: أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ الْأَنْصَارِيَّ اسْتَفْتَى النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ فَتُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ، فَأَفْتَاهُ أَنْ يَقْضِيَهُ عَنْهَا، فَكَانَتْ سُنَّةً بَعْدُ.

وعنه رضي الله عنه: أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي ماتت وعليها صوم شهر؟ فقال: «أرأيت لو كان عليها دين أكنت تقضينه»؟ قالت:نعم. قال: «فدين الله أحق بالقضاء» رواه مسلم.

 

14/ الحج والعمرة عنهما

ففي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: نعم، حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله فالله أحق بالوفاء».

وفي سنن أبى داود، قال رجل: يَا رَسُولَ الله إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ وَلَا الْعُمْرَةَ وَلَا الظَّعْنَ؟ قَالَ: «احْجُجْ عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ».

وإذا شرع الحج عنه حال ضعفه فأن يحج عنه بعد موته أولى.

 

15/ نهي الناس عن النياحة عليهما

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الميت يُعذَّب ببكاء أهله عليه» رواه البخاري ومسلم.

وفي رواية لهما: «الميت يعذَّب في قبره بما نيح عليه».

فلا ينبغي أن تمكن النساء من ذلك.

 

16/ الصيام عنه

إذا كان قد تمكن من القضاء ولكنه لم يفعل، فيستحب لأولاده وورثته أن يصوموا عنه عدد الأيام التي أفطرها، فإن لم يفعلوا أطعموا عن كل يوم مسكينا.

وعلى هذا المعنى يحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» متفق عليه.

وهذا ما لو تمكن من الصيام فلم يصم، أما إذا استمر به المرض ولم يمهله حتى مات فلا يصام عنه.

 

 

17/ حفظ القرآن

في مسند أحمد، أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ الْقُرْآنَ يَلْقَى صَاحِبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَنْشَقُّ عَنْهُ قَبْرُهُ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ، فَيَقُولُ لَهُ: هَلْ تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: مَا أَعْرِفُكَ؟ فَيَقُولُ: لَهُ هَلْ تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: مَا أَعْرِفُكَ. فَيَقُولُ: أَنَا صَاحِبُكَ الْقُرْآنُ الَّذِي أَظْمَأْتُكَ فِي الْهَوَاجِرِ، وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ، وَإِنَّ كُلَّ تَاجِرٍ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِهِ وَإِنَّكَ الْيَوْمَ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ تِجَارَةٍ، فَيُعْطَى الْمُلْكَ بِيَمِينِهِ، وَالْخُلْدَ بِشِمَالِهِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لَا يُقَوَّمُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا، فَيَقُولَانِ: بِمَ كُسِينَا هَذِهِ؟ فَيُقَالُ: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ. ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ وَاصْعَدْ فِي دَرَجَةِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا، فَهُوَ فِي صُعُودٍ مَا دَامَ يَقْرَأُ هَذًّا كَانَ أَوْ تَرْتِيلًا».

 

18/ إهداء ثواب القرب إليه

قال العلامة الألباني في [السلسلة الصحيحة 1/483]: “خلاصة ذلك أن للولد أن يتصدق، ويصوم، ويحج، ويعتمر، ويقرأ القرآن، عن والديه؛ لأنه من سعيهما”.

 

19/ هل تسمية الولد باسم الوالد والبنت باسم الولدة من البر به بعد موته؟

من البر به إذا قصد تذكرهما ليصل إليهما إحسانه.

وأما حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وُلِدَ لِي اللَّيْلَةَ غُلَامٌ فَسَمَّيْتُهُ بِاسْمِ أَبِي إِبْرَاهِيم» الذي رواه مسلم، فهو دليل على استحباب تسمية الأبناء بأسماء الأنبياء.

ومما ينبغي مراعاته:

أنه إذا لم يكن اسم الأم مناسبا للزمن الذي ستنشأ البنت فيه، ولم يكن اسم الأب مما يناسب زمان الولد، فلا ينبغي التسمية به؛ مراعاة لنفسية أطفالنا، ويمكن أن يبر الرجل والديه بغير هذا السبيل.

 

ربِّ صلِّ وسلِّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.


شارك المحتوى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *